قدمت ثلاث منظمات غير حكومية يوم 17 نيسان/أبريل شكوى أمام مكتب المدعي العام الفرنسي لمكافحة الإرهاب في باريس ضد جندي فرنسي إسرائيلي بتهمة ارتكاب جرائم تعذيب وأعمال وحشية في غزة.
تم تشخيص الجندي، الذي يُعتقد أنه من ليون، في وسط شرق فرنسا، باعتباره صاحب مقطع الفيديو الذي نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي في نهاية آذار/مارس وأثار الغضب والإدانات.
ويُظهر الفيديو جنوداً من جيش الاحتلال يُنزِلون معتقلين فلسطينيين يُعتقد أنهم أُسروا في غزة من شاحنة وهم معصوبي الأعين ويرتدون بدلات بيضاء، وبعضهم كان يرتدي زياً غير مكتمل وظهر عاري الصدر.
وسُمع صوت مصور الفيديو وهو يوجه الإهانات للمعتقلين بالفرنسية ويقول عنهم: “الزناة”، “أبناء العاهرات”، “حفنة من العاهرات”.
كما سُمع وهو يقول باللغة الفرنسية: “لقد رأيت هؤلاء العاهرات الصغار هناك، انظر، لقد تبول على نفسه”.
واستطرد مصور الفيديو في التسجيل قائلاً: “انظروا، سأريكم ظهره، ستضحكون. انظروا، لقد عذبوه ليجعلوه يتكلم. لقد كنتم سعداء في السابع من أكتوبر، يا أبناء العاهرات”.
وتذكر الشكوى، التي اطلع عليها موقع ميدل إيست آي، أن الجندي صور “أسرى فلسطينيين في وضع مهين وذكر أعمال التعذيب”.
وبحسب الشكوى فإن: “هذا الفيديو يكشف عن ارتكاب التعذيب وجرائم الحرب، في سياق العدوان العسكري من النوع الإبادي من قبل الجيش الإسرائيلي وتعميم استخدام التعذيب”.
وبحسب غيل ديفرز، أحد محاميي المدعين، فإن الجندي الذي صور الفيديو ليس مذنباً فقط بالتعذيب، بل وأيضاً بممارسة التعذيب النفسي من خلال ارتكاب معاملة لا إنسانية ووحشية بحق الأسرى من خلال الإهانات والكلمات المهينة.
وقال المحامي ديفرز: “يضع القانون الدولي التعذيب الجسدي على قدم المساواة مع الأفعال الأخرى التي تضع الأفراد في موقف دوني”.
وبعد يومين من تقديم الشكوى، عقد اجتماع في مكتب المدعي العام بحضور المحامين، حيث يمكن للمدعين رفع دعوى مدنية بحق مصور الفيديو.
وأضاف ديفرز: “استقبلنا نائبان للمدعي العام وبدا أنهما مهتمان بالقضية، وطلبا منا تزويدهما بعناصر أخرى لتحديد هوية الجندي، وهذا ما فعلناه”.
ومن بين الوثائق المدرجة في الملف مقابلة أجراها الجندي مع قناة تلفزيونية عبرية بعد بث الفيديو الخاص به على الإنترنت، حيث أكد ديفرز أن الجندي “عرّف عن نفسه بوضوح في المقابلة”.
وتابع المحامي: “يبقى أن نرى ما ستقرره النيابة العامة، وإذا لم تتخذ في النهاية زمام المبادرة لبدء التحقيق بنفسها، فإن المنظمات غير الحكومية المشتكية سترفع دعوى مدنية لبدء عملية التحقيق”.
من جهته، أوضح يوهان صوفي، خبير القانون الدولي ومستشار المحكمة الجنائية الدولية، أن “المادة 2-4 من قانون الإجراءات الجنائية تتطلب من المنظمات التي ترغب في رفع دعوى مدنية إثبات عملها لمدة خمس سنوات في مجال مكافحة جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية”.
وقال: “هذا هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة للاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، أو منظمة العفو الدولية، أو هيومن رايتس ووتش”.
وتابع المحامي أنه يجب الوفاء بهذه الالتزامات حتى يتم قبول الشكوى، وبالتالي فإن اثنتين من المنظمات غير الحكومية الثلاث المتقدمة بطلب التحقيق مع الجندي ليست مخولةً تماماً لهذا الطلب.
الجمعيات الثلاث
تم تسجيل (حركة 30 مارس) بموجب القانون البلجيكي في أكتوبر 2023، بعد أيام قليلة من إطلاق عدوان الاحتلال على غزة في أعقاب الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر على مستوطنات الاحتلال وثكنات جيشه في غلاف غزة.
أما جمعية (الجالية الفلسطينية في فرنسا)، فقد تأسست عام 2018، هي منظمة لا تملك أسبقيات في مجال مكافحة جرائم الحرب.
وبالتالي فإن المنظمة غير الحكومية الثالثة وهي منظمة (العدالة وحقوق بلا حدود) (JDSF) وحدها من تلبي جميع الشروط، حيث تأسست في فرنسا عام 2019 لمقاضاة منتهكي حقوق الإنسان.
وأشار ديفيرز إلى أنه “من خلال تقديم شكوى، تصرف قادة هذه الجمعيات أولاً كمواطنين يرغبون في تنبيه نظام العدالة بشأن حقائق خطيرة تتعلق بمواطن فرنسي”.
وفقًا لصوفي، فإنه حتى في غياب شكوى رسمية، هناك أدلة كافية لبدء تحقيق جنائي، مضيفاً أن “المشتبه به فرنسي. وهو متهم بارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون الدولي والقانون الفرنسي”.
“لا يوجد سبب يمنع السلطات القضائية من إجراء تحقيقات في هذه الوقائع، استناداً إلى المعلومات المتاحة حالياً في المجال العام وكذلك الإحالة التي طلبها النواب الفرنسيون”، – يوهان صوفي، خبير قانوني
وكان النائب البرلماني توماس بورتيس من حزب فرنسا الحرة (LFI) قد تقدم بشكوى للقضاء الفرنسي بعد نشر الفيديو.
وأوضح الخبير القانوني صوفي أن المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية تلزم أي مسؤول سياسي منتخب برفع دعوى قضائية إذا “أُحيط أثناء ممارسة مهامه علماً بجريمة أو جنحة”.
وقال صوفي: “هذا ما حدث مع هذا الفرد”، في إشارة للجندي الإسرائيلي الفرنسي الذي صور تسجيل الفيديو.
وكان بورتيس قد دعا وزارة العدل في كانون الأول/ديسمبر 2023 إلى محاكمة جميع المواطنين مزدوجي الجنسية المتهمين بارتكاب جرائم حرب في إسرائيل والأراضي الفلسطينية.
وجدد طلبه في أوائل أيار/مايو، بعد إعادة تغريد رسالة من زميلته في الحزب ريما حسن، بشأن جندي آخر، شخصته على أنه فرنسي إسرائيلي، هدد “بالتدمير والحرق والقتل” في نص على X.
وكتب بورتيس: “لقد حذرنا منذ أشهر من وجود 4000 فرنسي إسرائيلي إلى جانب جيش يرتكب إبادة جماعية، لم يعد بإمكان فرنسا أن تظل صامتة ويجب عليها فتح تحقيقات لمقاضاة أولئك الذين شاركوا في هذه المذبحة”.
وفي كانون الثاني/يناير، وجدت محكمة العدل الدولية وجود خطر “معقول” بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.
لكن الحكومة الفرنسية تهربت أولاً من القضية، قائلة أن فرنسا لن تحقق مع مواطنيها المجندين في الجيش الإسرائيلي لأن “الجنسية المزدوجة هي ولاء مزدوج”.
وعندما سُئل نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية كريستوف لوموان خلال مؤتمر صحفي في 21 آذار/مارس عما إذا كانت السلطات تخطط لإجراء تحقيقات بشأن الجنود الفرنسيين الإسرائيليين المذنبين المحتملين بارتكاب جرائم حرب في غزة، اعترف بأن “العدالة الفرنسية مختصة بالاعتراف بالجرائم التي ارتكبها مواطنون فرنسيون في الخارج، بما في ذلك في سياق الصراع الحالي”.
وبموجب قانون العقوبات، يمكن محاكمة المواطنين الفرنسيين المسؤولين عن ارتكاب جرائم أو مخالفات في الخارج.
ويقول صوفي: “هناك احتمال كبير بما فيه الكفاية أن يكون الفرنسيون متورطين في جرائم دولية في غزة والضفة الغربية المحتلة، بطريقة أو بأخرى”.
وقال إن هذا الاحتمال “يؤدي إلى إلزام السلطات القضائية الفرنسية بالتحقيق في هذه الحقائق والتورط المحتمل فيها من قبل جميع مواطنينا العائدين من غزة”.
وأوضح أن هذا الالتزام ينشأ عن اتفاقيات جنيف، وعن كون فرنسا من الدول الموقعة على نظام روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، ومن القانون العرفي كذلك.
وفي عام 2021، أطلقت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً رسمياً في مزاعم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يُزعم أنها ارتكبت في فلسطين المحتلة منذ حزيران/يونيو 2014.
وقال المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في تشرين الأول/أكتوبر الماضي أن المحكمة لديها أيضاً اختصاص محاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المزعومة التي ارتكبتها حماس في إسرائيل والإسرائيليون في غزة خلال الحرب الحالية.
وفي أيار/مايو، طلب خان إصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت وثلاثة من كبار قادة حماس في هذا السياق.
لماذا إذن لم تتخذ المحاكم الفرنسية أي إجراء حتى الآن؟ على الرغم من سمعتها باعتبارها “السلطة الرابعة”، يجيب جوهان صوفي على هذا السؤال بالقول أن النظام القضائي ليس مستقلاً تماماً في فرنسا.
وشرح ذلك بقوله: “إن إحدى المشاكل التي لاحظها خبراء القانون الجنائي منذ فترة طويلة هي الاعتماد الهرمي لمكتب المدعي العام على السلطة التنفيذية، وبشكل أكثر تحديداً على وزير العدل”.
وأردف: “هذا هو ما دفع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشكل رئيسي، في عام 2010، إلى حرمان المدعي العام الفرنسي من صفة السلطة القضائية”.
وكانت محكمة ستراسبورغ قد اعتبرت في العديد من الأحكام الصادرة في ذلك العام أن المدعي العام الفرنسي غير مخول قانوناً بممارسة السلطة القضائية لأنه ليس مستقلاً عن السلطة التنفيذية.
“إن إحدى المشاكل التي لاحظها خبراء القانون الجنائي منذ فترة طويلة هي التبعية الهرمية لمكتب المدعي العام للسلطة التنفيذية” – يوهان صوفي
في فرنسا، يتم تعيين المدعين العامين حالياً من قبل مجلس الوزراء ويمكن للحكومة عزلهم، وقد يتلقون تعليمات من وزارة العدل أيضاً.
وأكد صوفي أن “ما نحتاج إليه هو إدارة مستقلة تماماً للمدعي العام، وفصل فعال بين السلطات القضائية والتنفيذية”.
وقال صوفي: “هنالك استغلال للإجراءات والمسائل القانونية المرتبطة بالصراع في إسرائيل وفلسطين”.
وتعد الحرب في غزة من المواضيع الساخنة خلال الحملات الانتخابية في أوروبا، وهي القضية أكثر حساسية الآن قبل التصويت البرلماني المبكر الذي طلبه الرئيس إيمانويل ماكرون بعد هزيمة حزبه في انتخابات 9 حزيران/يونيو، والتي قد يفوز فيها التجمع الوطني اليميني المتطرف، وهو الحزب الذي قدم نفسه كداعم قوي للاحتلال.
وفي أماكن أخرى من هولندا، اتُخذت إجراءات قانونية ضد جنود إسرائيليين هولنديين اتهمتهم حركة 30 مارس “بالمشاركة في أعمال إبادة جماعية وجرائم أخرى ضد الشعب الفلسطيني” في قطاع غزة والضفة الغربية بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وشباط/فبراير 2024.
لكن المدعي العام الهولندي رفض في نيسان/أبريل هذه الشكاوى.
وفي فرنسا، مازال لدى مكتب المدعي العام لمكافحة الإرهاب، المسؤول عن جرائم الحرب، ثلاثة أشهر لاتخاذ قراره بشأن قبول الشكوى المقدمة بحق الجندي مزدوج الجنسية الذي صور المعتقلين الفلسطينيين وهو يسمعهم الإهانات.
وإذا نجحت الإجراءات التي بدأتها المنظمات غير الحكومية الثلاث، فقد يخلق ذلك سابقة في التعامل مع القضية.