هل تُفضي ولاية ترامب الثانية إلى تفكيك أسطورة “النظام القائم على القواعد”؟

بقلم ريتشارد فالك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد تحول من سياسة الانتقام إلى سياسة التسوية دون تفسير أو تغير الظروف وذلك نظراً لطبيعته المتقلبة بلا شك، وعليه فمن الحماقة أن نتكهن بما ينتظرنا في المستقبل، في الوقت الذي يستعد فيه دونالد ترامب ليصبح رئيساً للولايات المتحدة للمرة الثانية. 

لا يخفى خطابه وإيديولوجيته الجامحة والمتطرفة على أحد، ولكنه سوف يدخل البيت الأبيض هذه المرة بتفويض انتخابي قوي، حيث يسيطر الجمهوريون على مجلسي الكونغرس وهناك أغلبية من المحافظين في المحكمة العليا. 

هذا الوضع سوف يضمن احتمال سيطرة ترامب الكاملة على عملية الحكم في الولايات المتحدة، إلا من بعض العقبات الصعبة في الطريق إلى الأمام!

من خلال تعييناته السياسية وتعليقاته غير المنضبطة، يبدو أن ترامب مصمم على “إنهاء المهمة” في غزة، بشكل لا يمكن فهمه إلا على أنه محو فلسطين والفلسطينيين باعتبارهم عقبات أمام إنشاء إسرائيل الكبرى من “النهر إلى البحر”

لقد ظهرت بعض ملامح رئاسة ترامب الثانية مبكراً حتى قبل عودته رسميا إلى البيت الأبيض، حيث يبدو أولاً من المؤكد أنه سوف ينغص حياة الملايين من المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة منذ اليوم الأول، ومن المؤكد أن هوسه بمنع طالبي اللجوء والمهاجرين من عبور الحدود دون الأوراق اللازمة سوف يتم تطبيقه بشكل فعلي، فقد أشار الرجل الذي اختاره ترامب ليكون “قيصر الحدود” بالفعل إلى نيته احتجاز عائلات بأكملها من الأشخاص غير المسجلين.

قد يفلت ترامب بهذا النهج لفترة من الوقت، إلا أن اقتصاديات سوق العمل سوف تشكل تحدياً له، وسوف يخلق نقصاً استراتيجياً في العمالة في قطاعات بالغة الأهمية مثل الزراعة في جنوب غرب الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى تفاقم التضخم.

هناك أيضاً اعتبارات حول تزايد الحاجة للموظفين المهرة في قطاع التكنولوجيا، والذي سوف يكون أساسياً في المستقبل الاقتصادي للبلاد بكل تأكيد، فقد مُنح هؤلاء الموظفون أولوية عالية فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية القوية، كما يذكره كبير مستشاري ترامب، إيلون ماسك، باستمرار. 

من جهة أخرى، سوف تتفاقم كل هذه المخاوف إذا ما مضى ترامب قدماً في خططه المعلنة لفرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على الواردات من كندا والمكسيك، إلى جانب عقوبات على الواردات الصينية، فمثل هذه السياسات هي الوصفة الناجحة لبدء حرب تجارية مدمرة للطرفين!

مخاطر عالمية

أما في السياسة الخارجية، فتبدو التوقعات بالنسبة لرئاسة ترامب أكثر تبايناً، ولكنها تظل مجهولة وخطيرة على المستوى العالمي، ففي البداية، ربما يسعى ترامب إلى تصوير نفسه كصانع للسلام وخاصة في سياق الحرب الروسية الأوكرانية.

لقد شكلت الحرب الروسية الأوكرانية مثالاً على نوع “الحرب الأبدية” التي رفضها ترامب خلال فترة ولايته الأولى في منصبه، وفرصة لاستكشاف ما إذا كانت علاقة التعاون مع روسيا تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين قادرة على الالتفاف حول التحالف الأطلسي الذي كان محور السياسة الخارجية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. 

لقد كان الضغط من أجل وقف إطلاق النار والتسوية الدبلوماسية بمثابة فرصة ضائعة بسبب الإهمال الفادح الذي حصل خلال رئاسة جو بايدن، حيث بدا الأخير مصمماً على إلحاق هزيمة جيوسياسية بروسيا، حتى على حساب التسبب في كارثة لأوكرانيا وشعبها. 

إذا حدث هذا التغيير في الاتجاه الآن، فسوف يتعين على الموالين لحلف شمال الأطلسي أن يعيدوا النظر في الترتيبات الأمنية الأوروبية، وسوف يكون لزاماً على الدولة الأمريكية العميقة أن تتقبل الهزيمة، أو أن تستخدم نفوذها لدعم أولوية الولايات المتحدة في المجالات الجيوسياسية من خلال إبقاء روسيا خارجاً وحلف شمال الأطلسي في الداخل.

أما عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإن القصة مختلفة من حيث الأولوية السياسية، فقد أعطى ترامب كل المؤشرات على رغبته في تجاوز دعم بايدن غير المشروط لإسرائيل،سواء في الإبادة الجماعية على غزة أو الاستيلاء على الأراضي وعمليات التطهير العرقي والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة، وتصعيد العنف غير القانوني ضد الخصوم الإقليميين. 

ومن خلال تعييناته السياسية وتعليقاته غير المنضبطة، يبدو أن ترامب مصمم على “إنهاء المهمة” في غزة، بشكل لا يمكن فهمه إلا على أنه محو فلسطين والفلسطينيين باعتبارهم عقبات أمام إنشاء إسرائيل الكبرى من “النهر إلى البحر”. 

عدمية ترامب قد تكون في المحصلة أفضل من نفاق بايدن، فقد يضطر ترامب في النهاية إلى الاختيار بين شكل من أشكال العزلة الجديدة أو الإمبريالية الجديدة

يبدو ترامب مصمماً أيضاً على مواجهة إيران بطريقة أكثر قوة، ربما من خلال تدمير منشآتها النووية واتخاذ المزيد من الخطوات العلنية لإثارة تغيير النظام في طهران.

إذا تم تنفيذ هذه السياسات في الشرق الأوسط حقاً، فإن ذلك سوف يؤدي إلى العديد من المخاطر والعواقب غير المحسوبة، بما فيها احتمال نشوب حرب إقليمية أوسع نطاقاً وتصاعد المشاعر المعادية للولايات المتحدة، كما أن تلك السياسات سوف تعزز حضور إسرائيل باعتبارها الدولة المظلومة في المنطقة، الأمر الذي يمكن أن يضعفها إلى حد تشجيع شعوب العالم العربي على الانتفاض ضد أنظمتها القمعية ذات التوجه الغربي والتوحد خلف قضية تحرير فلسطين.

ازدراء مبدأ الأممية

لقد أشار ترامب وبطانته بكل الطرق إلى معارضتهم للأممية، فلطالما أظهر ترامب التزاماً لا يتزعزع برؤية عالمية قومية متطرفة وقائمة على المعاملات الاقتصادية، فهو يُظهِر ازدراءً واضحاً للتوجه القائم على التصدي للتحديات العالمية ولفوائد الحل التعاوني للمشاكل، حتى في موضوع مثل تغير المناخ. 

يمكن من هذا استنتاج أنه لن يتم تقدير قيمة الأمم المتحدة إلا بقدر دعمها الكامل للأولويات الاستراتيجية الأمريكية في المرحلة المقبلة، وأنها إذا ما تجرأت على انتقاد هذه الأولويات أو معارضتها، فمن المؤكد أن ترامب سوف يلوح بورقة التمويل الأمريكي ثم يقطعه أو حتى يسحب المشاركة الأمريكية من المؤسسة الأممية.

في ضوء هذه المواقف، ليس من المستغرب أن يرفض ترامب الدور التنظيمي الذي يلعبه القانون الدولي، وخاصة إذا كان يعمل على تقييد الولايات المتحدة، ولذلك يمكننا أن نقول وداعاً للادعاءات الساخرة التي أطلقها وزير الخارجية أنتوني بلينكن حول ما يسمى “النظام العالمي القائم على القواعد”، والذي تبين أنه مرادف للجغرافيا السياسية التي تقودها الولايات المتحدة أكثر من كونه خضوعاً حقيقياً للمبادئ القابلة للتطبيق عالمياً.

وبهذا، قد يقدم ترامب عن غير قصد طبعاً خدمة للإنسانية من خلال تجريد أوهام الليبرالية التي قامت على حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة وأصدقائها يتمكنون عادة من تجنب قيود القانون الدولي في مقابل التزام خصومهم به.

الحقيقة أن عدمية ترامب قد تكون في المحصلة أفضل من نفاق بايدن، فقد يضطر ترامب في النهاية إلى الاختيار بين شكل من أشكال العزلة الجديدة أو الإمبريالية الجديدة، فإذا ساد البديل الانعزالي، فمن المرجح أن يحدث انتقالاً سريعاً من عالم الأحادية القطبية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى عصر جديد من التعددية القطبية المعقدة.

أما إذا ساد النموذج الإمبريالي الجديد، بسبب التسوية بين أنصار ترامب القوميين المتطرفين والدولة الأمريكية العميقة، فسوف تظهر التوترات بين الأطراف المتعادية ضمن التعددية القطبية وشبكات التحالف المتنافسة، والتي تشبه في هيكلها الحرب الباردة ولكن مع وجود اختلافات من ناحية المنافسات الجيوسياسية. 

الأمر المؤكد حتى الآن هو التحول نحو عدم مركزية الصراع بما في ذلك التجاوز الجزئي لأوروبا، فلم تعد أوروبا الجائزة الجيوسياسية الرئيسية، كما كانت الحال في الحروب العالمية الثلاث في القرن العشرين وذلك يشمل الحرب الباردة، ومع ذلك، فمن المرجح أن تربك رئاسة ترامب التوقعات لتبقي المنصات الإعلامية الأكثر نفوذاً في العالم مشغولة!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة