بقلم نيكي قطورة وجيو ماهر
ترجمة وتحرير مريم الحمد
السؤال الذي يأتي مستعجلاً متعجرفاً هذه الأيام، “لكن… هل تدين حماس؟”، سؤال يلاحق الفلسطيني أو من يؤيد تحرير فلسطين بوجه عام، سواء كان في الشارع أو في الحرم الجامعي أو في تلك اللحظات القليلة حينما تقابله وسيلة إعلام غربية.
أما السبب وراء إلحاح ذلك السؤال، فلابد ان جزءاً من الأمر قد أصبح واضحاً، فمن خلال تحميل كافة الفلسطينيين المسؤولية عن أفعال حماس، يسهل تشويه سمعة المقاومة الفلسطينية ككل بالوكالة.
وفي المقابل، لا يتعرض أي مسؤول عسكري أو سياسي إسرائيلي، رغم أنهم أرباب العنف العسكري، على قناة مثل سي إن إن مثلاً، إلى طلب لإدانة القصف الوحشي على غزة أو العقاب الجماعي أو استهداف المدنيين كشرط مسبق لبدء محادثة!
على الجانب الآخر، المقابلة مع الفلسطيني تسير باتجاه آخر، فكلما حاول فلسطيني منهم تركيز نقاشه نحو إدانة الاحتلال العسكري الوحشي، الذي يعد أصل المشكلة، تتم مقاطعته ورفض منطقه بسرعة عجيبة، وقد يجبرون على إعادة ضبط المهمة الأولية الإلزامية وهي الإدانة لحماس فقط لا غير.
ولا تعد صياغة السؤال بـ “هل أنت” مغالطة تسطح 75 عامًا من الاستعمار الاستيطاني في مجرد نعم أو لا فقط، ولكنها أيضاً تُضفي طابعًا فرديًا وتحاول جر الشخص إلى مساحة المشاعر الشخصية في الحوار، بمعنى آخر وكأن المرء عليه إدانة الفلسطينيين قبل أن يتمكن حتى من بدء الحديث عنهم، فضلاً عن إدانة الإبادة الجماعية التي أودت بحياة أكثر من 10 آلاف فلسطيني في غزة في شهر واحد!
الحقيقة أن هذه الدعوة للإدانة ما هي إلا فخ صمم للإيقاع بالمدانين أصلاً بصرف النظر عن الحقيقة!
مدانون مسبقاً!
عند النظر إلى أحداث 7 أكتوبر، يمكن التوقف عند ما كتبه الثوري المناهض للاستعمار، فرانز فانون، في كتابه “المعذبون في الأرض” والذي كتبه وسط بوتقة نضال الجزائر ضد الاستعمار، بحثًا عن التوجيه والإلهام، فقد وصف فانون المستعمرة بأنها عالم مقسم إلى قسمين، عالم معنوي للصراع بين الخير والشر، يتم تمثيله على الأرض جغرافياً وبكثير من العنف والقليل جداً من أي أسلوب آخر.
طالما يمكن للمستعمر فعل أي شيء، فإن كل ما سوف يحدث هو خطوات نحو الإبادة الجماعية!
هذا الوصف ينطبق بدقة على فلسطين المعاصرة، خاصة على السجن المفتوح غزة، حتى أن فانون يصر في كتابه على أن إنهاء الاستعمار بالشكل العنيف المتمثل بالمقاومة هو أمر لا مفر منه، وفي حالة غزة، فقد تم ضخ العنف الاستعماري بلا رحمة فيها لعقود من الزمن، وكان لابد أن تنفجر في مرحلة ما مثل البالون كنتيجة منطقية.
من جانب آخر، فإن الهيمنة الاستعمارية، في سعيها لتبرير جشعها، تعمل على تجريد من وقف عليهم الاستعمار من الإنسانية،وذلك بهدف تقليص هذه الجماهير البائسة والمستغلة بشكل مفرط إلى مجرد “جزء من المشهد الطبيعي”، حيث يجدون أنفسهم محاصرين في ما وصفه فانون بأنه “منطقة اللاوجود، وهي جحيم حقيقي”، والسؤال هنا، ما هو الطريق الأخلاقي للخروج من الجحيم؟!
ليس من قبيل الصدفة على أي حال التطرق للمقاربة من الزاوية الدينية، فإذا كان فانون يرى أن العالم الاستعماري منقسم بين الخير والشر، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحدث عن معركة نهاية العالم بين “أبناء النور وأبناء الظلام”، حتى أنه استخدم المصطلح التوراتي “عماليق” للدلالة على أن العالم الاستعماري منقسم بين الخير والشر، من أجل تبرير حملة الإبادة على غزة، وفي مواضع أخرى أسماها الحضارة مقابل البربرية، وهي سردية استعمارية بحتة ما زالت جذابة للاستخدام حتى اليوم!
في مقال له في مجلة أتلانتك، يرى الكاتب الإسرائيلي، إليوت كوهين، أن القتال ضد حماس “يتعلق بالهمجية” بكل وضوح وبساطة فهو يرى أن “البرابرة يقاتلون لأنهم يستمتعون بالعنف، من إلحاق الألم والتعذيب والاغتصاب، وقبل كل شيء الإذلال”.
أما سليل الصهيونية، سيمون سيباج مونتيفيوري، وخلال محاولة يائسة لإنكار حقيقة النضال الفلسطيني باعتباره مناهضة للاستعمار، حاول عكس تلك الحقيقة حين كتب أن “هجوم حماس كان يشبه غارة مغولية في العصور الوسطى تسعى للذبح والقتل باعتبار ذلك جوائز البشرية”!
للمفارقة، فإن المستعمرين، من خلال تبرير وحشيتهم وتجردهم من الإنسانية، هم في الحقيقة يتجردون بالفعل من إنسانيتهم ويصبحون همجيين وهم يحاولون تبرير ما يفعلون، وهذا ما يفسر وجود عدد كبير من مقاطع الفيديو التي سجلها جنود إسرائيليون في الأسابيع الأخيرة وهم يهينون الرهائن الفلسطينيين، حتى أن صحيفة هآرتس ذكرت كيف قاموا بتجريد الأسرى من ملابسهم، والتبول عليهم، وإحراقهم بالسجائر.
لقد بدأ هذا الهروب من السجن الوجودي بالفعل يوم 7 أكتوبر، والمراحل اللاحقة منه كلها حتمية، فبالنسبة للمحرومين والمحاصرين المحكوم عليهم بالوجود في ظل الموت البطيء للاستعمار الاستيطاني، لن تكفي الكلمات
صدق سيزار حين كتب أن “لا أحد يستعمر ببراءة”، فمع كل إساءة يتم ارتكابها تقترب إسرائيل خطوة أخرى من الهمجية، ولعل كوهين ومونتيفيوري بحاجة لرؤية ما يحدث من تعذيب واغتصاب وإذلال أمام أعينهما علهما يصدقان.
بالنسبة للمستعمرين، ببساطة، الفلسطينيون مدانون مسبقاً، وهذا التحامل الرمزي المسبق له عواقب حقيقية ملموسة، حيث تصبح أي درجة من العنف مبررة ما دام الاستعمار يتعامل مع “حيوانات بشرية” على حد تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت!
“جحيم على الأرض”
طالما يمكن للمستعمر فعل أي شيء، فإن كل ما سوف يحدث هو خطوات نحو الإبادة الجماعية!
خلال الهجوم الإسرائيلي على غزة عام 2021 ، كان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد وصف غزة آنذاك بأنها “جحيم على الأرض”، وهو واقع تفاقم سريعاً خلال شهر واحد مع نزوح 1.4 مليون فلسطيني داخليًا، وتدمير أكثر من نصف المباني السكنية، وانقطاع الكهرباء و الوقود عن المستشفيات، حتى اضطروا لإجراء عمليات بتر للجرحى وعمليات قيصرية للحوامل دون تخدير.
العجيب أن كل ذلك لا أن يُكن كافياً للمستعمر لدفع الفلسطينيين خارج حدود الإنسانية وبالتالي الحكم عليهم بسكنى الجحيم على الأرض، بل يريد منهم فوق كل هذا أن يدينوا أنفسهم لأنهم قاوموا الاحتلال!
هذا هو المنطق المنحرف والميزان المائل بلا شك، فمطالبة الفلسطينيين بإدانة “حماس” اليوم يعني مطالبتهم بضمان قمعهم، وهو فخ لأن أي شيء قد يقولونه لن يكون كافياً على الإطلاق، ليس فخاً فحسب، بل عائقاً أمام العمل لحصر الفلسطينيين في مربع الخطاب بعيداً عن الواقع الملموس لإنهاء الاستعمار واستعادة الأرض والتحرير.
الوقوع في فخ إدانة “حماس”، يؤدي أيضاً إلى تهميش الإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين، من خلال ترديد عبارات تافهة لا يمكنها إلغاء حقيقة أن 30 ألف طن من القنابل قد أسقطتها إسرائيل بالفعل على قطاع غزة المحاصر، وذلك أكثر من حجم القنبلتين النوويتين اللتين تم إلقاؤهما على هيروشيما وناغازاكي.
وفي الوقت الذي يشرف فيه الأمين العام غوتيريس على هيئة دولية من المفترض أنها تهدف إلى دعم تطبيق القانون الدولي، فهو بالكاد يستطيع حشد إدانة ضعيفة للاحتلال المستمر منذ عقود وللدولة الاستعمارية التي ارتكبت العشرات من جرائم الحرب خلال شهر.
كيف الخروج من الجحيم إذن؟! يرى فانون أن أحد الأسباب الرئيسية التي تؤكد أن إنهاء الاستعمار لا يتأتى إلا بالعنف، هو أنه بغض النظر عن التكتيكات التي يختارها المدانون، فسوف يُنظر إليهم دائمًا على أنهم عنيفون بحكم تعريفهم، وسيقابلون بوحشية غير متناسبة، وهذا ما حصل خلال مسيرة العودة الكبرى عام 2018 ، التي قتل فيها قناصة إسرائيليون أكثر من 223 فلسطينيا مسالماً.
ولا يمكن أن يبدأ الهروب من الإدانة بالنسبة للفلسطينيين إلا بانفجار على صعيد الفكرة والأرض، فهو اقتحام من الرؤية نحو الوجود، وخروج من الخفاء تحت الأرض، وفي حالة غزة، من واقع شبكة الأنفاق التي يبلغ طولها 300 ميل تحت غزة.
ومن هنا يبدأ المدان بإثبات أن الدولة الصهيونية ليست دولة لا تقهر، وأن الفلسطينيين أقوى بكثير مما كان يُتصور، لقد بدأ هذا الهروب من السجن الوجودي بالفعل يوم 7 أكتوبر، والمراحل اللاحقة منه كلها حتمية، فبالنسبة للمحرومين والمحاصرين المحكوم عليهم بالوجود في ظل الموت البطيء للاستعمار الاستيطاني، لن تكفي الكلمات.
وفي الوقت الذي يواصل فيه العالم المطالبة بإدانتنا، حشدت إسرائيل والولايات المتحدة آلاف القوات، بالإضافة إلى قيام الولايات المتحدة بنشر غواصة مزودة بصواريخ كروز في المياه القريبة مع “قوة عمليات خاصة”.
وسط كل ذلك، ومن حسن الحظ، فإن أولئك الذين يتحملون وطأة الهجوم اليوم لم يقعوا في فخ الإدانة، فبالنسبة للفلسطينيين في غزة وخارجها، وبالنسبة للبائسين في أرضنا المشتركة، كما بالنسبة لفانون، فإن “القتال هو الحل الوحيد”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)