بقلم ويلو بريدج
ترجمة وتحرير مريم الحمد
سأبدأ بالقول أن الصراع الذي شهده السودان في الأيام الماضية بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، هو أمر غير مسبوق في تاريخ السودان منذ استقلاله عام 1956!
تاريخياً، ظل نمط الصراع في السودان مقتصراً على شكل محدد، وجود نخبة أمنية سياسية فاسدة تستغل موارد الأطراف المهمشة في البلاد، بما في ذلك مناطق دارفور وجنوب كردفان ودولة جنوب السودان التي لم تكن قد استقلت آنذاك، كما أنه ومنذ الاستقلال، ظل الجيش هو القوة نفسها التي شكلها الاستعمار المصري ثم البريطاني، وتهيمن عليه طبقة الضباط الذي ينتمون إلى قاعدة اجتماعية ضيقة في مراكز المناطق النهرية الشمالية.
في تاريخ السودان الحديث، اندلع القتال في الخرطوم سابقاً كنتيجة للانقلابات الفاشلة والناجحة على حد سواء، التي كانت تنتج عن صراعات أيديولوجية وسياسية داخل طبقة الضباط السودانية الراسخة، لم تشهد ضربات جوية من قبل.
حتى وقت قريب، لم تكن قوات الدعم السريع تسعى للسلطة داخل الخرطوم بشكل واضح، ل إن القيادة العسكرية اعتبرتها وكيلها في الحروب الإقليمية إن صح التعبير، فما الذي حصل في السودان مؤخراً؟
صراع خطير
استفاد حميدتي من تحول السودان من اقتصاد نفطي إلى اقتصاد الذهب منذ عام 2011، نتيجة انخفاض الصادرات النفطية، فسارع في تحويل قوات الدعم السريع إلى جيش مرتزقة شبه مستقل، صار ثرياً من خلال تهريب الذهب من دارفور من ناحية، ومن خلال إرسال قواته للقتال مع التحالف السعودي الإماراتي في اليمن من ناحية ثانية.
ولما وقعت احتجاجات 2013، استخدم البشير قوات حميدتي لقمع التظاهرات في الخرطوم، وأنشأت قوات الدعم السريع قواعد رئيسية لها داخل العاصمة، وفي مفارقة عجيبة، في أبريل 2019، كان حميدتي من أشد الداعمين لإسقاط البشير!
تمحور الخلاف بين حميدتي والبرهان حول الجدول الزمني وإدارة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة
اليوم تصف القوات المسلحة السودانية قوات الدعم السريع بأنها “ميليشيا متمردة”، ولكنها تختلف عن قوات متمردة سابقة لأنها كانت يوماً جزءاً رئيسياً من البنية التحتية الأمنية الأساسية للنظام في الخرطوم، وهذا ما يجعل الصراع مختلفاً وخطيراً للغاية.
يمكن القول أنه من أوضح بوادر هذا الصراع الأخير كانت ربما الثقة الزائدة التي حملتها بقايا نظام البشير المنتمين إلى حزب المؤتمر الوطني المنحل رسمياً، ففي الأيام التي سبقت القتال الأخير، كان قادة حزب المؤتمر الوطني يجتمعون بشكل علني، على الرغم من الحظر الرسمي للحزب عام 2019، فأقاموا إفطاراً للبشير في كوبر في الحي الحضري، على اسم السجن الذي يقبع فيه عدد من المخلوعين.
بعد اندلاع القتال، قام حميدتي علناً بتصنيف الأمين العام للحركة الإسلامية الصاعدة ووزير خارجية البشير السابق، علي كرتي، على أنه أحد مهندسي ما وصفه بمحاولة “جر البلاد إلى الحرب والعودة إليها”.
الأسباب الجذرية
يرجع خلاف حميدتي مع الجنرال عبد الفتاح برهان إلى انقلاب أكتوبر عام 2021، الذي أطاح بالمدنيين الذين كانوا يتقاسمون السلطة مع الجيش وقوات الدعم السريع في الحكومة الانتقالية بعد الثورة، حيث تمحور الخلاف حول الجدول الزمني وإدارة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة.
بعد الانقلاب، بدأ البرهان بإعادة تمكين شخصيات مختارة من حزب المؤتمر الوطني كانت تعمل سابقاً في الجيش والخدمة المدنية، الأمر الذي أزعج حميدتي فقد كان يعلم أنهم لن يغفروا له أبداً خيانته للبشير في انقلاب 2019، فقد اعتبرته قوى الحرية والتغيير والجهات الإقليمية المناهضة للإسلاميين، على رأسها الإمارات، سداً محتملاً ضد عودة الحركة الإسلامية وحلفائها في الجيش إلى السلطة.
انحاز حميدتي في البداية إلى انقلاب البرهان، فازداد بعداً عن المدنيين بذلك، ولذلك حاول فتح قنوات جديدة مع قوى الحرية والتغيير في أكتوبر 2022، وأصبح لاحقاً مؤيداً قوياً لاتفاق ديسمبر 2022 الإطاري، والذي كان من المفترض أن يكون بداية لحكومة انتقالية مدنية بحتة في السودان، مقراً بأن “انقلاب 2021 كان خطأ” على حد تعبيره.
أحد شروط الاتفاقية الإطارية كان دمج قوات الدعم السريع في داخل القوات المسلحة خلال مدة محددة، فقد كان الخلاف بين حميدتي والبرهان يتمحور حول الجدول الزمني وإدارة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، الأمر الذي وفر أرضية ما نشهده من قتال اليوم.
في مرحلة ما، بدا أن البرهان مصر على دمج قوات الدعم السريع قبل المضي قدماً في بقية الاتفاقية، فيما أصر حميدتي على أنه لن ييدمج قواته ما لم يتم إبعاد الإسلاميين عن قيادة القوات المسلحة السودانية.
تصاعدت التوترات تدريجياً، فبدأ حميدتي بنقل قواته من غرب السودان إلى الخرطوم ومدينة مروى شمالاً، حيث كانت القوات المسلحة السودانية والمصرية تجري تدريبات مشتركة، ومع اقتراب حميدتي من الإمارات، أصبحت قيادة القوات المسلحة السودانية أقرب إلى مصر.
كان التحرك نحو مروي، موقع ثاني أكبر مطار في السودان، يهدف إلى منع استخدام كل من القوات الجوية السودانية والمصرية ضد قوات الدعم السريع في أي صراع محتمل، ومع فشل الوسطاء في التهدئة، اندلع القتال في مروي وأماكن أخرى في الخرطوم، وبثت قوات الدعم السريع صوراً لجنود مصريين أسرتهم قواتها في مروي، وهم يحاولون تعزيز صورتها من خلال تقديم نفسها كمدافع عن السيادة السودانية.
السيناريو الأسوأ هو أن الصراع الطويل الأجل سوف يؤدي إلى مستوى غير مسبوق من زعزعة الاستقرار في السودان
إذا استطاعت القوات المسلحة السودانية الاحتفاظ بسيطرتها على المطارات، فإن التفوق الجوي سوف يعطيها ميزة رئيسية مقابل قوات الدعم السريع، الأمر الذي كان سبباً في عدم تمكن أي قوة متمردة من الزحف نحو الخرطوم في تاريخ البلاد الحديث، لكن هذه المرة، قوات الدعم السريع موجودة أصلاً في الخرطوم، ولها قاعدة رئيسية قرب مطار الخرطوم، يدور عندها القتال اليوم.
أزمة قد تطول
يوجد الآن خطر جدي لحدوث نزاع طويل الأجل بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، فالقوات المسلحة لديها كثير من القوات، لكن الدعم السريع لديها خبرة قتالية أكثر حداثة، لا سيما في اليمن، كما أن لديها قدرة على نشر قوة كبيرة من المركبات المدرعة، وبذلك تمثل التحدي الأكثر خطورة الذي تواجهه القوات المسلحة على الإطلاق بسبب وجودها في المناطق الوسطى من السودان.
حتى لو كان البرهان قادراً على هزيمة قوات الدعم السريع على المدى القصير أو المتوسط، لكن من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى عكس التقدم الأخير نحو حكومة مدنية، وإعادة تمكين المزيد من الديمقراطيين من حزب المؤتمر الوطني داخل الجيش وأجهزة الدولة.
في المقابل، يبدو أن قوات حميدتي، على شراستها، أقل حظاً في الانتصار، لكنه يأمل بأنه إن استطاع التخلص من البرهان، فقد يكون قادراً على التفاوض مع قادة القوات المسلحة
الأقل قرباً من حزب المؤتمر الوطني، لكنه سيناريو ضعيف، نظراً لازدراء قيادة القوات المسلحة لرجل يعتبرونه ذا ولاء إقليمي، وحتى من الناحية النظرية، لا يزال المدنيون منقسمين بين فريق يؤيد التغاضي عن تورط قوات الدعم السريع في مذابح دارفور والخرطوم وفريق يرفض ذلك.
على الرغم من جهود حميدتي لإنشاء حملة علاقات عامة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه لا يفتقر إلى قاعدة أيديولوجية او اجتماعية وسياسية جادة، فهو لم ينجح إلا في تكوين حلفاء بين النخب الإقليمية، وحاول تقديم نفسه لقادة الأحزاب السياسية السودانية على أنه فاعل أمني قادر على حماية مصالحهم، أما بالنسبة لعامة الناس، فالمشكلة تكمن في أن كلاً من حميدتي والبرهان يمثلان استمرارية لأشكال السياسة التي سعت ثورة 2018-2019 إلى التغلب عليها.
السيناريو الأسوأ ربما، هو أن الصراع الطويل الأجل بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، دون التوصل إلى نتيجة، سوف يؤدي إلى مستوى غير مسبوق من زعزعة الاستقرار في السودان.
للاطلاع على النص كاملاً من (هنا)