بقلم كريستوفر فيليبس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
بعد عدوان الاحتلال على غزة، يؤكد العديد من المعلقين أن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط يشهد تغييرًا جذريًا مستشهدين بالعديد من التطورات لدعم هذه الحجج، ومنها مزاعم تل أبيب بسحق حماس وحزب الله واحتلالها لأراضٍ لبنانية وسورية جديدة، وانسحاب إيران النسبي من هذه الساحات، وسقوط الأسد في سوريا، إلى جانب التحسن المصاحب في موقف تركيا.
وتؤكد عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتحول في نهج واشنطن هذه المزاعم بنشوء نظام جديد، ولكن إلى أي مدى تُمثل هذه التطورات تحولًا خطيرًا في المنطقة؟
وبالعموم فإن العديد من هذه التحولات لا تمثل سابقة في المنطقة، ولا سيما تقدم الاحتلال الأخير، صحيح أن حجم الدمار والخسائر في الأرواح في غزة ولبنان غير مسبوق، لكن التكتيكات العسكرية ليست كذلك.
فحماس وحزب الله يشبهان من نواحٍ عديدة منظمة التحرير الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيات، في ذلك الوقت كانت التدخلات العسكرية والاحتلال الذي تبع ذلك يرمي إلى تدمير المنظمة كما هو الحال الآن، وكانت أهداف حرب تل أبيب تتمثل في تدمير عدوها واحتلال منطقة عازلة.
أجبرت دولة الاحتلال منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان، لكن حرب 1982 حفزت في المقابل بروز خصم جديد هو حزب الله، وبالتالي لم تجعل تلك الحرب دولة الاحتلال أكثر أمانًا ولا أكثر هيمنة على بلاد الشام.
وفي الواقع، بدلًا من أن تُمهّد حقبة الحروب لهيمنة الاحتلال الإقليمية، شهدت الثمانينيات انغماس الدولة العبرية في احتلال مُستنزف أجبرها في النهاية على التراجع والتنازل.
وبالطبع فإن الأزمان تتغير، لكن هذه الإخفاقات أظهرت محدودية قدرة دولة الاحتلال، لا سيما من حيث القوات، مما أثار تساؤلات حول مدى قدرتها على ترجمة التفوق العسكري إلى هيمنة إقليمية.
إيران أُضعفت لكنها لم تُهزم
ينبغي أيضًا التخفيف من فكرة تراجع إيران، لقد تلقت ضربة موجعة بالتأكيد، لكن عدوان الاحتلال عليها لم يكبح قدرات هجومها الصاروخي المباشر على الدولة العبرية رغم انكشاف حدود ترسانة طهران التي طالما افتخرت بها.
غير أن إيران بعيدة كل البعد عن الهزيمة، فهي تحتفظ بحضور قوي في العراق، وقد خرج حلفاؤها الحوثيون في اليمن من الصراع في وضع أقوى.
وعلى الرغم من أن التصور السائد هو أن حماس وحزب الله قد ضعفا، إلا أنهما لا يزالان قائمين، بينما تحتفظ طهران بعلاقات مع جماعات سورية يمكن الاستفادة منها مستقبلاً.
كما أن الموقف الإقليمي للولايات المتحدة ليس مختلفًا كثيرًا عن الماضي، ذلك أن الأولويتين الأساسيتين لسياسة ترامب هما الدعم الهائل للاحتلال وتشديد العقوبات على إيران، هما ذاتهما النهجَ المعتمد لمعظم أسلافه بل وله نفسه حين ترأس الإدارة الأمريكية في ولايته الأولى.
ولا شك أن رغبة ترامب المعلنة في “السيطرة” على غزة هي من المستجدات في المنطقة، لكن يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه خطة جادة أم استراتيجية مساومة لإقناع حماس والقادة العرب.
وقد ركز ترامب مصالحه خارج الشرق الأوسط بالإضافة إلى دولة الاحتلال وإيران، لكن بعض التحولات الأخيرة قد تُفضي إلى تغييرات كبيرة، فسقوط نظام الأسد كان زلزالياً، وهو شديد الشبه بإسقاط صدام حسين عام 2003 في تطور قلب السياسة العراقية الداخلية والدولية رأسًا على عقب.
ولا يزال هناك الكثير من الغموض الذي يكتنف مستقبل سوريا، فكما تُظهر الأحداث الدامية التي شهدتها الأيام الأخيرة، قد تنهار البلاد وتتجه نحو مزيد من القتال، مع تقويض الآمال بسوريا أكثر استقرارًا وتجانساً.
وبالمثل، قد يُحدث إضعاف حزب الله تحولًا في السياسة اللبنانية، فقد كسر الحزب بالفعل جمودًا سياسيًا دام عامين بشأن انتخاب رئيس جديد، مما قد يُساعد البلاد على الخروج من الركود السياسي والاقتصادي الذي شهدته خلال العقد الماضي، ولكن كما هو الحال في سوريا، من السابق لأوانه الجزم بذلك.
التكيف مع الواقع الجديد
يُمثل تحول سوريا إلى حليف لتركيا، مع إمكانية إقامة قواعد عسكرية كما ورد سابقًا، تحولًا مهمًا آخر، ومن شأن هذه النتيجة أن تمنح أنقرة موطئ قدم فعليًا في عمق بلاد الشام، وقد تزيد من حدة التوترات المتنامية بينها وبين دولة الاحتلال.
وعلى الرغم من أن هذا تطور جديد، إلا أنه لم يأتِ فجأةً، ذلك أن نفوذ تركيا الإقليمي كان يتسع أساساً منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002، فلأنقرة وجود عسكري حالياً في قطر وليبيا والصومال وشمال العراق وشمال سوريا، لكن تحويل دمشق من منافس إلى حليف يعتبر أمرًا بالغ الأهمية وإن كان ذلك يعتمد على موقف تركيا الحالي بدلًا من أن يُغيّره تمامًا.
ومن بين الأحداث التاريخية المحتملة الاتفاق بين الأكراد السوريين (قوات سوريا الديمقراطية) والرئيس الجديد في دمشق أحمد الشرع، على دمج القوات الكردية في الجيش الوطني السوري، إلى جانب دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون لدى تركيا عبد الله أوجلان لمنظمته لإنهاء حربها التي استمرت 40 عامًا ضد أنقرة، غير أنه مازال من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت أيٌّ من الخطوتين ستتجاوز مرحلة الإعلان إلى التطبيق.
فهل يُسهم كل هذا في بناء “نظام جديد” للشرق الأوسط؟ لقد أشار البروفيسور الراحل فريد هاليداي إلى أن الأحداث، التي تقع كل عقد تقريبًا، تُهزّ المشهد الجيوسياسي في المنطقة، مما يدفع المراقبين إلى إعلان عهد جديد.
لقد بدا أن الربيع العربي عام 2011، و”الحرب على الإرهاب” التي بدأت عام 2001، وحرب الخليج عام 1991، والثورة الإيرانية عام 1979، قد مهدت الطريق لتغيير إقليمي كبير، ولكن، كما حذّر هاليداي أيضًا، فرغم التقلبات في حظوظ قوى معينة نتيجة لهذه الأحداث، غالبًا ما كانت الاستمرارية أكثر من التغيير.
قد ينطبق هذا على التطورات اليوم، حيث يبدو أن حرب غزة وتداعياتها في لبنان وسوريا قد عززت نفوذ دولة الاحتلال وتركيا، بينما أضعفت نفوذ إيران وحلفائها، وفي الوقت نفسه، يبدو أن عودة ترامب قد قرّبت الولايات المتحدة من تل أبيب، وزادت من مناهضتها لإيران، ولكن لا ينبغي المبالغة في تقدير مدى كون هذا انحرافًا حقيقيًا عن الماضي
فقد اضطرت معظم القوى، مثل دول الخليج ومصر، إلى التكيف مع الظروف الجديدة، لكن مواقفها السياسية لم تتغير جذريًا، ولدولة الاحتلال سجلٌّ سيئ في استخدام قوتها العسكرية لزيادة نفوذها الإقليمي، أما تركيا فتتوسع، لكن هذا التوسع كان تدريجيًا وليس مفاجئًا؛ وبينما تتراجع إيران، فإنها ليست بالضرورة خارج الحسابات.
لقد اهتزت المنطقة بالتأكيد، لكن يبقى أن نرى ما إذا كان هذا يُشكّل “نظامًا جديدًا”، غير أن ما قد يكون أكثر أهمية في نهاية المطاف على المدى الطويل هو الأحداث خارج الشرق الأوسط، بمعنى كيفية الاستجابة العالمية لرئاسة ترامب، فأي إعادة ترتيب للتحالف الأمريكي الأوروبي، أو إعادة تأهيل لروسيا عالميًا، قد يكون له آثار جانبية غير متوقعة على المنطقة.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)