لفت التصعيد الوحشي الذي شنته دولة الاحتلال في لبنان خلال الشهر الماضي انتباه المراقبين وخبراء القانون الدوليين.
فقد وُجهت الاتهامات لقوات الاحتلال بارتكاب جرائم الحرب بدءاً من الهجمات على أجهزة الاتصالات يومي 17 و18 سبتمبر/أيلول والتي أسفرت عن استشهاد العشرات وإصابة الآلاف، مروراً بالغارات الجوية على المناطق المكتظة بالسكان وصولاً إلى الهجمات الأخيرة على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
ووفقاً لما قاله الخبراء لموقع ميدل إيست آي الشهر الماضي فإن من المرجح أن يكون الهجوم على أجهزة النداء وأجهزة الاتصال اللاسلكية مخالفاً للقانون الإنساني الدولي، حيث كان لزاماً على إسرائيل تقييم ما إذا كان من الممكن أن يلحق الأذى بالمدنيين.
وقد يكون في الهجوم كذلك انتهاك للاتفاقيات التي تعد إسرائيل طرفاً فيها بشأن الاستخدام المحدد للكمائن المتفجرة أثناء الصراعات.
ومنذ بدء التفجيرات، قصفت قوات الاحتلال العديد من المباني المدنية، بما فيها المرافق الطبية.
ففي الثالث من أكتوبر/تشرين الأول، أسفرت غارة جوية للاحتلال على منطقة الباشورة في بيروت عن استشهاد سبعة على الأقل من العاملين في المجال الطبي والإنقاذ بعد أن أصابت طابقاً من مبنى سكني يستخدمه عمال الطوارئ.
وتعد الهجمات المتعمدة ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية والإغاثة جرائم حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وانتهاكاً لاتفاقية جنيف.
كما وجهت اتهامات مماثلة لقوات الاحتلال بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال عدوانها على غزة طيلة العام الماضي أيضاً.
وبما أن دولة فلسطين من الموقعين على نظام روما الأساسي وعضو في المحكمة الجنائية الدولية التي تضم 124 عضواً، فإن المحكمة التي تتخذ من لاهاي مقراً لها تتمتع بسلطة إصدار أوامر اعتقال بشأن الجرائم المرتكبة في الضفة الغربية المحتلة أو القدس أو غزة.
وعلى هذا الأساس، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في مايو/أيار أنه يسعى إلى إصدار أوامر اعتقال لقادة إسرائيليين وآخرين من حماس رغم أن قضاة المحكمة الجنائية الدولية لم يصدروا هذه الأوامر بعد.
ويلقي موقع “ميدل إيست آي” نظرة على ما إذا كان من الممكن إصدار اتهامات مماثلة فيما يتعلق بالأفعال التي ارتكبت على طول الجبهة الشمالية للحرب.
لبنان يتراجع عن منح المحكمة الجنائية الدولية الاختصاص
وعلى النقيض من غزة، فإن المحكمة الجنائية الدولية غير قادرة حالياً على التصرف بشأن الجرائم على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية.
فقد قال أستاذ القانون الدولي العام في جامعة بريستول لورانس هيل كاوثورن لموقع ميدل إيست آي: “لكي تمارس المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها على الرعايا الإسرائيليين أو اللبنانيين فيما يتعلق بالصراع الحالي في لبنان، يتعين على أي منهما أن يصبح طرفاً في نظام روما الأساسي”.
وأضاف أنه غير المرجح أن يوقع لبنان على نظام روما الأساسي في أي وقت قريب، خوفاً من أن يواجه قادته العسكريون والسياسيون اتهامات بشأن مزاعم تاريخية.
من ناحيته، ذكر رئيس مؤسسة جوستيسيا في بيروت بول ماركوس لموقع ميدل إيست آي أن “الخوف لدى بعض القادة من المساءلة والمحاكمة عن جرائم سابقة ربما يكونوا قد ارتكبوها قد يكون سبب فشل لبنان في الانضمام للجنائية الدولية”.
غالباً ما تتجنب الدول تعريض زعمائها وقادتها العسكريين لخطر الملاحقة القضائية” – إيتان دايموند، خبير القانون الدولي
وأضاف أن الجرائم الخطيرة التي تصل إلى علم المحكمة الجنائية الدولية لا تسقط بمرور الوقت، حيث تتمتع المحكمة بالاختصاص فيما يتعلق فقط بالأحداث التي وقعت بعد 1 يوليو/تموز 2022.
وقال وزير العدل اللبناني هنري خوري لـ “ميدل إيست آي” أن أحد الأسباب السياسية لعدم انضمام لبنان إلى المحكمة الجنائية الدولية هو أن “هناك تردداً في الانضمام إلى هيئة دولية يراها البعض غير عادلة أو متحيزة ضد بعض البلدان”.
وإذا لم يصبح لبنان عضواً كاملاً في المحكمة الجنائية الدولية، فيجب عليه تقديم إعلان بموجب المادة 12(3) من نظام روما، يقبل فيه اختصاص المحكمة فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة على أراضيه بعد تاريخ معين.
وقال أندرو كلابهام، من معهد جنيف للدراسات العليا ومؤلف كتاب “الحرب”: “بهذه الطريقة، يمكن للمحكمة مقاضاة الجرائم المرتكبة في لبنان من قبل أي شخص وكذلك الجرائم المرتبطة بها في إسرائيل من قبل اللبنانيين”.
وأوضح أن “هذا هو الوضع بالنسبة لحرب روسيا وأوكرانيا، حيث قدمت أوكرانيا مثل هذا الإعلان”.
قبل أن تصبح عضواً في المحكمة الجنائية الدولية في عام 2015، قدمت دولة فلسطين أيضاً مثل هذا الإعلان الذي يعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
ووضعت حكومة لبنان نصب عينيها بحث اتخاذ مثل هذه الخطوة، ففي أبريل/نيسان، صوتت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية على توجيه وزارة خارجيتها لتقديم إعلان إلى المحكمة الجنائية الدولية يخولها التحقيق في جرائم الحرب المزعومة على الأراضي اللبنانية وملاحقتها قضائيا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لكن الطلب لم يُقدَّم قط، وبعد شهر، أشارت الحكومة إلى أنها ستقدم شكوى إلى الأمم المتحدة بدلا من ذلك دون ذكر أي سبب رسمي لهذا التراجع.
وقال إيتان دايموند من مركز دياكونيا للقانون الإنساني الدولي لميدل إيست آي أنه في حين يمكن من الناحية النظرية توجيه الاتهام إلى قادة أو مقاتلين من الرتب الدنيا، فإن “المدعي العام عملياً قضايا ضد مسؤولين رفيعي المستوى”.
وبدوره، أوضح هيل-كاوثورن أنه قد يكون هناك قلق من أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية سيحقق في جرائم مزعومة ارتكبها مواطنون إسرائيليون ولبنانيون بمن فيهم من حزب الله”.
وقال القاضي زياد شبيب، الخبير الدستوري اللبناني، إن السبب الذي ساقته الدوائر الحكومية والحقوقية لهذا التراجع هو الخوف من “تحول الجانب اللبناني من مدع إلى مدعى عليه فيما يتصل بالأعمال العسكرية التي نفذها” ضد إسرائيل.
وأضاف شبيب لموقع “ميدل إيست آي” إنه لا يجد مثل هذا التعليل صحيحاً، معتبراً أن قبول الاختصاص وفقاً للبند الثالث من المادة 12 لا يمتد إلى أي من الأفعال الجنائية غير المدرجة في الإعلان المكتوب الذي تقدمه الحكومة إلى المحكمة الجنائية الدولية”.
وقد جاء التراجع اللبناني بعد أيام قليلة من إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أنه سيسعى إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق زعماء إسرائيل وحماس.
وكان من بين القادة الإسرائيليين الذين وردت أسماؤهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت.
ومن بين قادة حماس الذين وردت أسماؤهم يحيى السنوار ومحمد ضيف وإسماعيل هنية الذي اغتالته دولة الاحتلال في وقت لاحق للاعلان.
ويواجه غالانت ونتنياهو تهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تتعلق بتجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب والتسبب عمداً في معاناة كبيرة والقتل العمد والهجمات المتعمدة على السكان المدنيين والإبادة، من بين العديد من التهم الأخرى.
ويواجه السنوار تهماً تتعلق بالإبادة والقتل وأخذ الرهائن والاعتداء الجنسي والتعذيب، من بين تهم أخرى.
وإذا أعاد لبنان النظر في تقديم إعلان لفتح ولايته القضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، فمن المرجح أن يكون القادة السياسيون والعسكريون محور اهتمام المدعي العام للمحكمة في هذه القضية أيضاً.
وقال كلابهام أنه “بقدر ما يأمر القادة بارتكاب الجرائم أو يحرضون عليها، فإنهم قد يكونون عرضة للملاحقة القضائية، ولكن من الممكن أيضاً محاكمتهم بتهمة المسؤولية القيادية أو العليا عن الفشل في منع الجرائم التي يرتكبها أولئك الخاضعون لسيطرتهم أو عدم معاقبتهم عليها”.
وقالت الحكومة اللبنانية إنها ستقدم شكاوى بشأن جرائم الاحتلال التي ارتكبت على أراضيها إلى الأمم المتحدة بدلاً من المحكمة الجنائية الدولية.
وبحسب هيل-كاوثورن فإنه وبما أن أياً من الدولتين لم توقع على نظام روما الأساسي، أو لم تصدر أي إعلان بقبولها للاختصاص القضائي، فإن “الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للمحكمة الجنائية الدولية مقاضاة مواطنين إسرائيليين أو لبنانيين عن جرائم ارتكبت في إسرائيل أو لبنان هي أن يحيل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الأمر إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية”.
وأضاف أنه من غير المرجح اللجوء إلى مثل هذا الإجراء نظراً لأنه قد يتم نقضه من قِبَل الولايات المتحدة وربما من قبل أعضاء دائمين آخرين في مجلس الأمن.
واستدرك قائلاً: “وإلا، فإن لبنان يستطيع رفع شكواه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي يمكنها تمرير قرارات تدين الدول، لكن هذه القرارات لن تكون ملزمة قانوناً رغم أنها تحمل وزناً سياسياً ودبلوماسياً كبيراً”.
وقال دايموند إن الجمعية العامة للأمم المتحدة أنشأت بين الحين والآخر آليات دولية، مثل الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM)، التي أنشئت في عام 2016 للتحقيق مع الأفراد المسؤولين عن الجرائم الخطيرة خلال الحرب في سوريا وملاحقتهم قضائياً.