واشنطن في فخ تل أبيب: هل تدفع أمريكا ثمن أوهام إسقاط النظام الإيراني؟

بقلم جعفر ميرزا

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

مثلت الضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت ثلاثة مواقع نووية إيرانية في 22 يونيو/حزيران لحظة فارقة طالما خشيها كثيرون بشأن دخول الولايات المتحدة بشكل مباشر إلى ميدان عدوان الاحتلال المتصاعد ضد الجمهورية الإسلامية.

وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شدد على أن تلك الضربات كانت محدودة ولا تنمّ عن نية لتغيير النظام في طهران، إلا أن التجارب التاريخية في المنطقة تدحض هذا الزعم. 

إذ لطالما لجأت دولة الاحتلال إلى إدخال الولايات المتحدة في صراعات الشرق الأوسط عبر تمرير معلومات استخباراتية مغلوطة، كما حدث في العراق سابقًا، ويحدث اليوم مجددًا مع إيران.

وفي ظل التحذيرات الإيرانية من “عواقب وخيمة”، تبدو احتمالية توقف التدخل الأمريكي عند هذا الحد ضعيفة، بل يُخشى أن تندفع واشنطن مرة أخرى لتحقيق هدف استراتيجي قديم للاحتلال يتمثل في إسقاط النظام الإسلامي الإيراني.

فهذا رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ألمح صراحة إلى هذا الطموح، عندما ربط بين العمليات العسكرية الجارية وإمكانية الإطاحة بالمرشد الأعلى للجمهورية، آية الله علي خامنئي.

ورغم نفي واشنطن العلني لأي نوايا من هذا القبيل، إلا أن واقع التحالف الوثيق بين الطرفين يكشف أن الولايات المتحدة كثيرًا ما سعت أو على الأقل ساهمت في تحقيق الرؤية الإسرائيلية، سواء بالتدخل العسكري المباشر أو من خلال الدعم السياسي واللوجستي.

وبالفعل، أفضت الضربات الأمريكية الأخيرة إلى تصعيد متبادل، حيث ردّت إيران في اليوم التالي بإطلاق ما وصفته وسائل إعلام غربية بأنه “هجمات رمزية” استهدفت قاعدة العُديد الأمريكية في قطر، ومواقع أخرى في العراق.

وفي حال تطورت هذه المواجهة، قد تجد واشنطن نفسها أمام خيار مغرٍ لطالما راود بعض صقور الإدارة الأمريكية وهو المضي في ما يُسمى بـ”الحل النهائي”، أي إسقاط النظام الإيراني تحت ستار تحقيق الاستقرار الإقليمي.

وعلى الرغم من إعلان ترامب مساء يوم الإثنين عن وقف إطلاق النار وهو وقف هشّ قابل للانهيار في أي لحظة، إلا أن الأجندة الاستراتيجية وراء الضربات لم تتغير، فالمؤسسة السياسية الأمريكية، لا سيما داخل الكونغرس، لا تزال مهووسة بوهم مفاده أن تغيير النظام في طهران سيُفضي إلى شرق أوسط أكثر استقرارًا.

غير أن هذه الرؤية قاصرة وخطيرة، كما حذر باحثون مرموقون مثل فالي نصر، مشيرين إلى أن هذه الاستراتيجية تفتقر للفهم العميق لتركيبة النظام الإيراني وأيديولوجيته.

ويُثار هنا تساؤل جوهري، غالبًا ما يغيب عن دوائر صنع القرار في الغرب مفاده هل سيؤدي سقوط النظام إلى تفكيك البنية الفكرية والدينية التي يقوم عليها المشروع الإسلامي الإيراني بالفعل؟

بنية فكرية راسخة

إن الاعتقاد بأن رحيل خامنئي يعني نهاية النظام هو تبسيط مخل للقضية، إذ أن الأسس الأيديولوجية للجمهورية الإسلامية لا تختزل في شخص واحد، بل تمتد إلى عمق التاريخ الشيعي.

فالعقيدة التي يقوم عليها النظام، والمعروفة باسم “ولاية الفقيه”، تنبع من فكر ديني راسخ في المذهب الشيعي الاثني عشري، يتيح للفقهاء تولي زمام القيادة في غياب الإمام الثاني عشر، المهدي المنتظر.

لقد انتقلت هذه الفكرة، التي كانت محصورة يومًا ما في أروقة الحوزات الدينية إلى الحقل السياسي بجرأة عقب الثورة الإسلامية عام 1979، بقيادة آية الله روح الله الخميني، ومنذ ذلك الحين، غدت ولاية الفقيه الركيزة الفكرية والسياسية للدولة الإيرانية.

صحيح أن هناك اختلافات فقهية بين العلماء الشيعة حول مدى صلاحيات الفقيه، كما يظهر في مواقف آية الله علي السيستاني في النجف، إلا أن ثمة إجماعًا عامًا على مبدأ المرجعية العليا في غياب الإمام. 

وفي ضوء التكوين المؤسسي الحالي، من المرجح أن يكون الخليفة المحتمل لخامنئي من أتباع المدرسة الفكرية في قم، والتي لا تزال تحمل راية الفكر الخميني بكل حماسة، وبمعنى أوضح، فإن نهاية خامنئي، إن حصلت، لن تعني نهاية النظام

فالأساس العقائدي للنظام الإيراني ليس مرتبطاً بشخص القائد، بل راسخ مؤسسيًا في بنية الدولة وروحها، وستواصل هذه البنية إنتاج الفكر الثوري نفسه الذي تأسست عليه.

قوة ناعمة عابرة للحدود

من الأخطاء الفادحة الأخرى في التصورات الغربية، تجاهل القوة الأيديولوجية العابرة للحدود التي تتمتع بها إيران أو التقليل من شأنها.

فبينما تمتلك معظم الدول جاليات في الشتات، تتميز إيران بقدرتها الفريدة على ترسيخ الولاء العقائدي والروحي بين جالياتها، بل وامتداداتها المذهبية خارج حدودها الجغرافية.

لقد ألهبت الثورة الإيرانية في 1979 الحماس داخل أوساط المسلمين في شتى أنحاء العالم، لا سيما في أوساط الشيعة الإثني عشرية، إذ رأى فيها كثيرون لحظة مفصلية تعيد الاعتبار للفكر الشيعي في معادلة القوة، وتمنح صوتًا سياسيًا لحركات إسلامية لطالما عانت التهميش.

ورغم أن بعض المرجعيات الشيعية رفضت الصيغة السياسية لولاية الفقيه، إلا أن جزءًا غير هين من المجتمعات الشيعية في لبنان والعراق وباكستان والهند لا يزال يحتفظ بولاء روحي وأيديولوجي عميق للجمهورية الإسلامية.

هذا الولاء ليس وطنيًا بل عقائدياً، فنحن نادرًا ما نجد مسلمين سُنة يدافعون عن نظام آل سعود رغم قدسية مكة والمدينة، لكننا نجد في المقابل إعجابًا بالثورة الإسلامية بين أتباع طوائف متعددة، بما يتجاوز الهويات القومية والعرقية.

هذا يجعل من إيران كيانًا مميزًا في المشهد الإسلامي العالمي، وإذا ما أُطيح بنظامها عبر تدخل خارجي، فإن من المرجح أن تتعمق مشاعر التضامن والدفاع عنها، وينظر إليها بوصفها ضحية مؤامرة غربية جديدة.

شبكة عالمية… لن تزول بسقوط النظام

خلال العقود الماضية، بنت إيران شبكة دعم دينية وأيديولوجية واجتماعية تمتد عبر القارات الست، ومن طهران إلى بيروت، ومن لندن إلى بوينس آيرس، ومن كراتشي إلى ديترويت، تنتشر مراكز ثقافية ومساجد ومؤسسات إيرانية مرتبطة مباشرة أو غير مباشرة بمكتب المرشد الأعلى.

ولا يقتصر نشاط هذه الشبكات على التوجيه الديني، بل تُقدم أيضاً خدمات اجتماعية، وتعمل كمراكز للتأطير والتعبئة السياسية، وفي لحظات الأزمات، تصبح هذه المراكز بُنى مرنة قادرة على الحفاظ على الروح الثورية، حتى لو سقطت القيادة في طهران.

الجدير بالذكر أن كثيراً من أفراد الشتات الشيعي لا ينحدرون أصلاً من إيران، بل من دول كالعراق، ولبنان، والبحرين، وباكستان، وأفغانستان، والهند، ومع ذلك، يرتبط كثير منهم عاطفياً وفكرياً بالجمهورية الإسلامية، ليس بسبب قوميتهم، بل لانجذابهم إلى خطاب المقاومة والمظلومية الشيعية الذي تتبناه طهران.

ولو تم إسقاط النظام من الخارج، فسينظر إليه في أوساط هؤلاء كشهيد سياسي، لا كديكتاتورية انتهت، وسيتحول إسقاطه إلى أسطورة مؤسسة لجيل جديد من الحركات الإسلامية المقاومة، ربما أكثر عنفاً وأقل انضباطاً.

كما يمكن لهذه الشبكات أن تحافظ على التضامن بين مكوناتها، وتُسهم في إعادة إحياء المشروع الإيراني في وقت لاحق، أو على الأقل، حفظ ذكراه كمرجعية بديلة عن أي نظام يتم فرضه بالقوة

هل فعلاً سيُحقق الغرب ما يريد؟

إزاء هذه المعطيات، يظل التساؤل الجوهري: ماذا سيجني الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة، من تغيير النظام في طهران؟ وهل سيقود ذلك إلى شرق أوسط أكثر استقرارًا، كما تدّعي بعض النخب السياسية؟ والإجابة الأقرب إلى الواقع هي: لا.

إذ أن القاعدة الأيديولوجية للنظام الإيراني أعمق من أن تُستأصل بإزالة رأس النظام، وأكثر تجذرًا من أن تُطوى بإسقاط مؤسسات الدولة، فالمؤسسة الحاكمة في طهران لا تقوم فقط على السلطة، بل على سردية تاريخية ولاهوتية تتغذى على المقاومة والصراع مع الغرب والاحتلال.

وفي حال سقط النظام، فلن يختفي هذا الخطاب، بل سيزداد حدة، ويجد في مشهد إسقاطه دليلاً جديدًا على مظلومية طالما حذّر منها قادته، لكن من سيستفيد فعلاً من هذا السقوط إن تم؟

ربما يكون المستفيد الوحيد الحقيقي هو دولة الاحتلال التي طالما سعت إلى تفكيك القوى الإقليمية الكبرى، سواء العراق سابقًا أو إيران اليوم، إذ أن زوال خصم بحجم إيران سيمنح تل أبيب تفوقًا استراتيجيًا مطلقًا في المنطقة لسنوات قادمة.

ولكن، هل يعني ذلك أن بقية المنطقة ستكون أكثر أمانًا؟ بالتأكيد لا، فإسقاط نظام طهران قد يُطلق موجات فوضى لا يمكن التنبؤ بمداها، تبدأ من الداخل الإيراني وتمتد إلى العراق ولبنان وسوريا واليمن، وحتى إلى المجتمعات الشيعية في الخليج، كما أن هذا السقوط قد يعزز المشاعر المعادية للغرب، ويقوّض أي محاولة لبناء توافق إقليمي.

التغيير من الداخل لا من الخارج

لا شك أن ثمة مظالم حقيقية داخل إيران، فهناك شريحة واسعة من الشباب والعلمانيين والنساء والمثقفين يطالبون بالتغيير، وبإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية. لكن، هذا الغضب لا يعني تلقائياً أن هؤلاء سيقبلون تدخلًا خارجيًا يطيح بحكم بلدهم.

بل إن أي تغيير مفروض من الخارج سيُقابل برفض شعبي واسع، كما جرى في العراق بعد عام 2003، وستُرى أمريكا من جديد باعتبارها قوة احتلال لا مخلّص، وستسقط بذلك ما تبقى من شرعية أي مشروع ديمقراطي تريد الترويج له.

لقد أثبتت تجارب أفغانستان والعراق وليبيا بما لا يدع مجالًا للشك أن التدخلات العسكرية الأجنبية، حتى لو أسقطت أنظمة استبدادية، فإنها غالبًا ما تخلق فراغًا تتحول فيه الدولة إلى ساحة صراعات أهلية، وتتكاثر فيها الميليشيات وتُطمس فيها الدولة.

مصالح مَن تُخدم فعلاً؟

في النهاية، يتجاوز السؤال مجرد ما إذا كان النظام الإيراني سينهار أم لا، ليصل إلى ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لتكرار أخطاء الماضي، فقط لمجرد أن دولة الاحتلال تضغط بهذا الاتجاه.

هل من المصلحة الأمريكية أن تغوص واشنطن مجددًا في مستنقع شرق أوسطي جديد؟ وهل ينسجم دعم أجندة تل أبيب مع أولويات الناخب الأمريكي الذي سئم الحروب البعيدة؟

الجواب عن ذلك يجب أن يُبنى على قراءة عميقة للواقع، لا على هوس إيديولوجي أو ضغط من لوبيات داخلية.

ففي نهاية المطاف، الرهان على تغيير النظام في إيران ليس فقط رهانًا خاسرًا، بل يحمل في طياته كوارث محتملة ستمتد لعقود، وتتجاوز حدود طهران.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة