بقلم كاثرين هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
يبدأ فيلم “وداعاً طبريا” بلقطات محببة لامرأة وطفلها وهما يسبحان في مياه بحيرة طبرية على الشاطئ الغربي لبحيرة طبريا، نابعة من مما روته المخرجة الفرنسية الفلسطينية الجزائرية، لينا سوالم، بقولها: “عندما كنت طفلة، أخذتني أمي للسباحة في هذه البحيرة وكأنها أرادتني أن أتشربها في ذاكرتي”.
يحاول الفيلم سرد تلك القصة، وذلك من خلال تجميع ذكريات عائلة مخرجته التي فرقها الاحتلال الإسرائيلي، وتنتهي القصة بالبحيرة، حيث عاشوا قبل نكبة عام 1948، عندما قامت إسرائيل بتهجير 700 ألف فلسطيني.
تتجسد المفارقة بشكل مؤثر في وصف هيام للقاء خالتها حسنية، حيث سمح لها جواز السفر الفرنسي بعبور الحدود التي قسمت الأسرة عام 1948، مما منع حسنية من العودة، وقد وصفت هيام لقاءهما معاً بقولها: “مثل المغناطيس”
مؤخراً، قامت الفنانة من أصل فلسطيني، هيام عباس، والمعروفة في الغرب بدور مارسيا روي في مسلسل “الخلافة”، بزيارة البحيرة مرة أخرى مع والدتها نعمت، فوجدوا شواطئ البحيرة قد أصبحت محاطة بالحواجز وتصطف على جانبيها المتاجر المزينة بلافتات باللغة العبرية، وفي صمتهما، يقترب جنود إسرائيليون منهما.
يروي الفيلم قصة هيام عباس، التي غادرت قرية دير حنا في سن 23 عاماً لمتابعة مهنة التمثيل في فرنسا، حيث تعود لزيارة منزلها لرعاية نعمت المريض.
خلال الفيلم، تقوم المخرجة لينا سالم برسم تاريخ التهجير الفلسطيني من خلال قصص 4 أجيال من النساء في عائلتها، هي الرابعة منهم، ومن بين النساء في الفيلم جدتها أم علي، التي نزحت من طبريا عام 1948 مع زوجها وأطفالها الثمانية، وعمتها حسنية التي لجأت إلى سوريا بعد المنفى، ووالدتها هيام التي غادرت فلسطين إلى أوروبا في العشرينات من عمرها.
تحديق في ألف ميل
يحاول فيلم “وداعاً طبريا” نسج قصص تلك النساء معاً، وذلك من خلال خليط من مقاطع الفيديو التي تعود لمنازلهم من التسعينيات، بالإضافة إلى لقطات أرشيفية وصور عائلية وأشعار ومقابلات مع هيام وأخواتها.
وفي فكرة تكرر طوال الفيلم، تقوم لينا ووالدتها بترتيب الصور الفوتوغرافية على جدار شقة جدتها لتشكل خريطة غير مكتملة لتاريخ العائلة، وغالباً ما تركز لقطات كاميرا الفيديو المتعلقة بزيارات طفولتها السنوية إلى دير حنا على النساء الأربع معاً، حيث تحول التركيز باستمرار من امرأة إلى أخرى، من لينا الصغيرة المنغمسة في اللعب إلى أم علي وهي تضفر شعرها الأبيض بهدوء.
أما هيام، فلا تظهر بوضوح في كثير من اللقطات المنزلية والصور الفوتوغرافية والمقابلات مع ابنتها، فكثيراً ما تحول نظرها عن الكاميرا وتومض عيناها من مسافة متوسطة، وكأنها تحدق في ألف ميل أمامها، ومن تلك اللقطات ظهورها في لقطات فيديو لحفل زفافها الثاني وهي تحدق في الفضاء وحولها الضيوف المبتهجون.
من جانب آخر، وإدراكاً منها لانزعاج والدتها، فقد قدمت لينا طرقاً بديلة لتصوير الماضي من خلال إقناع هيام بإعادة تمثيل المحادثات مع والدها وشقيقتها وزميل سابق في المسرح الوطني الفلسطيني.
علاوة على ذلك، فقد صورت لينا شوق هيام للهروب من بيتها، الأمر الذي عبّرت عنه في الشعر الذي كتبته في إحدى الليالي وهي في سن المراهقة، فألقته أمام الكاميرا.
وتتجسد المفارقة بشكل مؤثر في وصف هيام للقاء خالتها حسنية، حيث سمح لها جواز السفر الفرنسي بعبور الحدود التي قسمت الأسرة عام 1948، مما منع حسنية من العودة، وقد وصفت هيام لقاءهما معاً بقولها: “مثل المغناطيس”.
“لا تتركيني”
في أحد المشاهد تقف هيام على الشرفة، وتستدير على الفور مشيرة نحو البحر ولبنان وسوريا والأردن، وتختتم قائلة: “وهنا نحن في المنتصف”.
إن إحساسها بـ “البينية” يعكس حالة فلسطين نفسها، ففي مكالمة عبر تطبيق واتساب مع هيام، توسلت والدتها نعمت قائلة: “لا تتركيني”، وكانت تلك المرة الأخيرة التي نراها فيها في الفيلم قبل وفاتها.
رغم عدم ظهور الاحتلال الإسرائيلي بشكل بارز داخل لقطات الفيلم، إلا أننا نسمع ضجيجه بشكل مستمر في الخلفية، فهناك هدير طائرة نفاثة تحلق في سماء المنطقة أو جنود يرتدون الملابس العسكرية يسيرون قرب هيام على ضفاف بحيرة طبرية.
يظهر تأثير عنف الاحتلال الأساسي من خلال قصص 4 أجيال من النساء تحاول لينا بمحبة تجميعها معاً، كما تشير لينا في الفيلم إلى أن معرفتها باللغة العربية هي “جزء” من لغة والدتها.
يعد الفيلم محاولة لمقاومة العنف والمحو الفلسطيني من خلال الحفاظ على الذاكرة ونقلها، ويطرح الفيلم تساؤلاً مهماً في نهايته: “ماذا لو اختفت بقايا هذا المكان؟”
في الوقت الذي نشهد فيه محو غزة، حيث قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 40 ألف شخص ودمرت أكثر من نصف مباني القطاع بالأرض، فقد أصبح هذا السؤال أكثر أهمية، حيث يصبح الحفاظ على الذاكرة شكلاً أكثر إلحاحاً من أشكال المقاومة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)