بقلم أسيل موسى
ترجمة وتحرير مريم الحمد
منذ بدء الحرب، كتبت العديد من المقالات حول العدوان الإسرائيلي على غزة، وقمت بتوثيق قصص وأعداد الضحايا والجرحى، كما حاولت تسليط الضوء على الوضع المزري الذي تعيشه المستشفيات، ولم أنسى الكتابة عن الأحياء التي دمرتها الغارات الجوية الإسرائيلية الوحشية بأكملها.
لكن كل ذلك كان أسهل من لحظة البحث عن كلمات للتعبير عن حزني بخسارة زميلي محمد الناعوق، فمحمود لن يكون بالنسبة لي مجرد رقم إحصائي بين ضحايا الحرب، بل هو إنسان وروح وقصة، فقد كان شاباً مميزاً طموحاً حالماً قوياً مهذباً وكريماً.
“نحن لا نملك ترف الحداد على أولئك الذين قتلهم الاحتلال بلا رحمة ودون أي مبرر، لأن تركيزنا الأساسي ينصب اليوم على تسليط الضوء على جرائم الإبادة الجماعية والمجاعة والعنف والدمار التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة، أكبر سجن مفتوح في العالم” – أسيل موسى- صديقة محمد
لقد قتلت إسرائيل محمود و18 فرداً من عائلته، بينهم 15 طفلاً، دفعة واحدة، في قصف استهدف منزلهم في حي دير البلح وسط غزة بتاريخ 22 أكتوبر، في منطقة ادعى الاحتلال أنها آمنة!
شهداؤنا ليسوا أرقاماً، فكل شهيد يمتلك رواية فريدة من نوعها، وغيابها لابد سيترك فراغًا عميقًا، فأحباؤهم يفتقدونهم بشدة.
شخص رحيم متعاطف
بالنسبة لنا، زملاء وأصدقاء محمود، فلا نملك ترف الحداد على أولئك الذين قتلهم الاحتلال بلا رحمة ودون أي مبرر، لأن تركيزنا الأساسي ينصب اليوم على تسليط الضوء على جرائم الإبادة الجماعية والمجاعة والعنف والدمار التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة، أكبر سجن مفتوح في العالم.
كان محمود من أول من بدأ الانغماس في تعقيدات الترجمة الدقيقة والتوثيق لكل ما يتعلق بكشف الروايات الإسرائيلية، وأنا أشعر اليوم بأنه حمل رسالته واستكمالها هو دين في رقبتي، سواء كان محمود معنا أم لا، فأفراد مثل محمود لا يغادرون حياتنا أبدًا، لأن إرثهم لا يستمر في إلهامنا.
ذات مرة، أخبرني محمود سراً متعلقاً به، وهو أن العمل الذي أثر فيه أكثر من غيره هو ترجمة نصوص زينب القلاق، التي عبرت عن مشاعرها بعد فقدان 22 من أفراد أسرتها خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2021، فقد كشفت تلك القصة التي تقصاها آنذاك عن روح رحيمة متعاطفة.
آخر كلماته، خلال مكالمة بيننا قبل مقتله بيومين، كانت عن الشعور العميق بالقمع، معبراً عن استيائه من حجم الجرائم مقابل صمت العالم!
كان محمود حاضراً دائماً مع ابتسامة لم تكن تفارق وجهه، وكان يسعى دائماً نحو تعلم مهارات متنوعة، فبالإضافة إلى عمله المتميز في الترجمة، عمل محمود أيضًا كمسؤول اتصالات في مؤسسة بال ثينك،وقد أدى تفانيه وكفاءته إلى اختياره قبل شهرين من الحرب لبرنامج تدريبي خاص في ماليزيا، وكانت تلك المرة الوحيدة التي غادر فيها القطاع.
فرحة غامرة
شارك محمود فرحته الغامرة بمشاهدة المطار لأول مرة وركوب الطائرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصر على حجز مقعد بجانب النافذة واصفاً منظر السحب أثناء الطيران بأنه “أشبه بالحلم”، وكأن افتتانه بالعالم خارج حدود غزة المحاصرة يذكرنا بشخص مفكر كان على يقين من وجود عالم واسع خارج حدود الاحتلال والقصف والظلم المستمر، فكثيراً ما تحدث عن جمال الطبيعة.
قبل العدوان الإسرائيلي على غزة، كان محمود قد أخبرني بحماسة أنه حصل على منحة أسترالية لمتابعة درجة الماجستير في العلاقات الدولية، كانت فرحته غامرة.
آخر كلماته، خلال مكالمة بيننا قبل مقتله بيومين، كانت عن الشعور العميق بالقمع، معبراً عن استيائه من حجم الجرائم مقابل صمت العالم!
لقد تجاوز محمود بنظري حدود الأرقام المجردة، فقد كان في قلبه كون واسع رحب، ولكن القصف كان إليه أقرب!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)