بقلم نيكي قطورة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
إن الكلمة الإنجليزية gauze والتي تعني “الشاش” المستخدم في تضميد الجروح جاءت من كلمة غزة، حيث كانت المدينة الساحلية في القرن السادس عشر مركزًا رئيسيًا للنسيج اشتهر بالنساجين المهرة، أما الآن، وبعد مرور 500 عام، فإن كبير الجراحين في الصليب الأحمر أفاد بأن غزة لم تعد تملك الشاش لعلاج المصابين الذين يعانون من الحروق الشديدة”.
تشير هذه المفارقة المروعة إلى واقع شديد التعقيد، فالإبادة الجماعية لا تقاس بعدد القتلى فحسب، وإنما كذلك بكيفية قيام الاحتلال الإسرائيلي بدفع الأحياء ببطء نحو الموت.
وفي نص انتشر على نطاق واسع على منصة X مؤخراً أفاد الكاتب يوسف منير أن “كل طفل يُقتل في غزة اليوم كان من الممكن أن يكون على قيد الحياة لو تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار بالأمس”.
تدفعنا هذه العبارة إلى النظر مجبرين صوب عنف الإبادة الجماعية الذي يواجهه الفلسطينيون اليوم وإلى الحاح الضرورة السياسية الجماعية للمطالبة بوقف فوري ودائم لإطلاق النار.
ورغم صحة أقوال منير وأن وقف إطلاق النار بات ذا أهمية قصوى، إلا أن هذه الأقوال لا تروي القصة بأكملها.
وبينما يراقب العالم برعب تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين 14 ألف شهيد، لا يُقال سوى القليل عن أكثر من 33 ألف جريح جراء الغارات الجوية المتواصلة، ولا عن الأطراف المكسورة والمبتورة والصدمات الجسدية وفقدان البصر وغير ذلك من الأمراض والإعاقات التي لا تصدق، هذه هي الآثار المركبة لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على القطاع المحاصر.
والأكثر إثارة للقلق من أعداد الجرحى هو الانهيار الكامل لنظام الرعاية الصحية في غزة، حيث أدى القصف الإسرائيلي لجميع المستشفيات والحصار التام المفروض على القطاع إلى منع دخول الاحتياجات الضرورية للسكان من الغذاء والماء والكهرباء والوقود، مما أدى إلى شلل الخدمات الطبية والحيلولة التامة دون قيام الأطباء برعاية الجرحى وإنقاذ حياتهم.
“عنف بطيء”
بالنسبة للأستاذ والمؤلف في جامعة برينستون، روب نيكسون، فإن “العنف البطيء” هو قوة “فتاكة استنزافية” تمارس “تدريجيًا وبعيدًا عن الأنظار، عنف الدمار المنتشر عبر الزمان والمكان”.
وهذا العنف البطيء هو أسلوب العمل المعتاد للاحتلال الإسرائيلي، فقبل 7 تشرين الأول / أكتوبر، كانت إسرائيل تتحكم بالفعل في كمية الطعام، حتى بعدد السعرات الحرارية، التي تدخل غزة.
كما تم وقف إمدادات الكهرباء والمياه والوقود والإمدادات الطبية، مما أدى إلى إضعاف الأهالي ودفعهم ببطء نحو الموت.
ولكن كما رأينا بوضوح منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، فإن لهذا العنف البطيء سرعات مختلفة أيضًا، ففي كتابها “الحق في التشويه”، على سبيل المثال، لاحظت جاسبير بوار أن نشاط الشرطة ضد السود في الولايات المتحدة “أظهر ميلًا واضحًا للقتل، حيث يتم إطلاق العديد من الرصاصات على جسد أعزل في حالة من الإسراف في القتل، كما قد يسميها البعض”.
في فلسطين، تجري الأمور على النقيض من ذلك، فقد لاحظت الكاتبة منطقًا مختلفًا، شمل الحق في التشويه، و”التسبب في الأذى والحفاظ على السكان الفلسطينيين في حالة ضعف دائم، لكن على قيد الحياة، من أجل السيطرة عليهم”.
يظهر عدوان الإبادة الجماعية الذي شنته إسرائيل على غزة خلال الأسابيع الستة الماضية تقاربًا واضحًا بين عدة أنماط من الهيمنة الاستعمارية، والعديد من “سرعات” العنف، حيث يتداخل الموت السريع، في شكل غارات جوية (أو إسراف في القتل)، مع العمل الدؤوب لتدمير غزة ليحقق التشويه والسيطرة.
وأعلن المسؤولون الإسرائيليون أنهم يقصفون بهدف ” إيقاع الضرر أكثر من تحري الدقة”، وذلك من أجل تحقيق هدف نهائي هو ضم قطاع غزة في خطوة تعد استمرارًا للنكبة، ولتحقيق هذه الغاية، فإن إسرائيل لا تتسبب في سقوط أعداد هائلة من الضحايا بين المدنيين العزل فحسب، بل تعمل أيضًا على إضعاف الفلسطينيين وتهجيرهم قسراً من شمال غزة إلى جنوبها للسيطرة على أراضيهم.
لكن على الرغم من وتيرة القتل والسلب، فإن العنف البطيء بأشكاله المختلفة يعد أمرًا أساسيًا أيضًا.
القتل البطيء
لنأخذ على سبيل المثال التقارير الواردة من مستشفيات غزة التي شهدت إجراء عمليات قيصرية وبتر للأطراف دون تخدير، مما يجعل إخلاء مرضى الشمال نحو الجنوب أمراً مستحيلاً.
وقد ذكر الجراح غسان أبو ستة أن وحدات الدم اللازمة للمرضى بعد العمليات نفدت من المستشفيات، مما تسبب في وفاة الكثيرين بعد خضوعهم للجراحة، مضيفاً أنه لم يعد بوسع الطواقم الطبية تقديم العلاج الشفائي للجرحى بسبب القصف الإسرائيلي حيث صارت الأولويات تتمثل في إيصال ظروفهم الصحية إلى حالة الاستقرار قدر المستطاع.
كما أدى نقص الوقود إلى وفاة ما لا يقل عن خمسة أطفال خدّج، وهدد حياة عشرات الآخرين في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في مستشفى الشفاء المحاصر، لقد واجه هؤلاء الموت البطيء خلال إخراجهم من الحاضنات حين كان الأطباء يستخدمون ورق القصدير والماء الساخن للحفاظ على دفئهم، ويوم الاثنين، نقل 28 طفلاً من غزة إلى مصر لتلقي الرعاية الطبية.
يتسبب الحظر الشامل على دخول ضروريات الحياة الأساسية بدفع الفلسطينيين إلى الموت، فاستهلاك المياه غير الصالحة للشرب سيصيبهم بمرض الزحار ونقص الطعام سيتسبب بالمجاعة، وهو عنف يزيد من تفاقمه قصف جميع المخابز.
وفي الآونة الأخيرة، انتشرت أمراض مثل الكوليرا في مخيمات اللاجئين المزدحمة، حيث أدى انعدام وسائل التنظيف وضعف القدرة على الوصول إلى المياه النظيفة إلى وفاة الفلسطينيين بسبب الفشل الكلوي الذي يمكن الوقاية منه.
وكما أشار أحد مستخدمي X، فإن آن فرانك لم تُقتل في غرف الغاز في بيرغن بيلسن، بل قُتلت بسبب تفشي التيفوس في معسكر الاعتقال.
يمكن أن تملأ الأمثلة الكثيرة على العنف البطيء والخبيث صفحات كتاب، لكن الغرض من وراء اللجوء إليه ينقسم إلى شقين.
أولاً، إضعاف الفلسطينيين وهو ما ينبئ بالاستمرار في قتلهم ببطء بعد فترة طويلة من إعلان وقف إطلاق النار.
ثانياً، التعتيم على مسؤولية إسرائيل عن الوفيات التي تنجم في نهاية المطاف على مدى أشهر وسنوات أو حتى عقود وإخفائها عن الأنظار.
أسلحة كيميائية
ومنذ 7 تشرين الأول / أكتوبر، ألقت إسرائيل بأكثر من 30 ألف طن من المتفجرات والأسلحة الكيميائية مثل الفسفور الأبيض على القطاع الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتراً مربعاً، ما يعني أن 2.3 مليون فلسطيني يستنشقون حالياً أبخرة مسرطنة ستؤدي بلا شك إلى إصابتهم بأنواع مختلفة من السرطانات القاتلة بعد سنوات من الآن.
ومن المرجح أن يماثل مستوى الإصابة بالسرطان في غزة معدل الإصابات الذي تعاني منه فيتنام وناجازاكي وهيروشيما حتى يومنا هذا.
وكان الدكتور همام اللوح، أخصائي الكلى في مستشفى الشفاء، قد استشهد مع أفراد عائلته بمن فيهم طفلاه البالغان من العمر أربع وخمس سنوات في 12 تشرين الثاني / نوفمبر.
وفي آخر مقابلة نشرتها مجلة الديمقراطية، سُئل الطبيب عن سبب عدم إخلائه نحو الجنوب، فأجاب: “إذا ذهبت فمن يعالج مرضاي؟”
في الحقيقة، إن قتل الأطباء والعاملين الطبيين، بأعداد يستحيل إحصاؤها لأن الآلاف ما زالوا محاصرين تحت الأنقاض، هو في حد ذاته شكل من أشكال العنف البطيء.
ولم يعد بوسع الأطباء الذين لعبوا دوراً محورياً في مجتمعاتهم تقديم العلاج والرعاية الطبية لمحتاجيها، مما أدى إلى سقوط المزيد من الضحايا بعد فترة طويلة من وقف إطلاق النار، في معاناة ستظل ماثلة بوضوح بعد فترة طويلة من انتهاء العدوان.
أكثر من مجرد أرقام
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، قُتل واحد من كل 200 فلسطيني في غزة، وكثيرا ما تتكر عبارة أن شهداءنا ليسوا مجرد أرقام، بل هم عوالم كاملة تم تدميرها في غضون ثوان.
يحمل كل يوم في مسار هذه الإبادة الجماعية فظائع جديدة، ونحن نكرر شعار “لا يمكن أن يصبح الأمر أسوأ”، لكن منطق هذه الإبادة الجماعية وتنفيذها يضمنان أنه لا يمكن إلا أن يزداد الأمر سوءًا إلى أن يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
المذبحة تتفاقم، وكلما تم تدمير المزيد من المباني السكنية، وكلما طال أمد بقاء الناس دون طعام أو ماء، وكلما صنعت إسرائيل المزيد من اللاجئين والمشردين داخليا، كلما أصبح هذا العنف البطيء أطول وأكثر وضوحا.
ولا يأخذ أي من الأمثلة المذكورة أعلاه في الاعتبار العنف البطيء الذي مورس خلال العدوان على غزة في الأعوام 2008 و2012 و2014 و2021، أو العنف التاريخي في الأعوام 1967 و1956 و1948، أو العنف اليومي الذي يواجهه الفلسطينيون في ظل الصراع الذي طال أمده.
هذا لا يعني تقويض الدعوات الحاسمة لوقف إطلاق النار، إذ يجب علينا أن نفعل كل ما في وسعنا للتحريض والمطالبة بوضع حد لهذه الإبادة الجماعية.
لكن فهم توقيت الإبادة الجماعية، والطرق التي تمتد بها إلى ما هو أبعد من نهاية العالم الحالية وقبلها، يوضح أن وقف إطلاق النار ليس كافيا، بل يجب علينا أن نطالب بالحرية وإنهاء الاحتلال إذا كنا نأمل في وضع حد صارخ للعنف البطيء الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)