بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
بكل تأكيد، فإن الحرب الدائرة ليست في صالح بايدن، فبعد 3 أيام من هجوم حماس، ألقى الرئيس الأمريكي خطاباً جعل شخصاً عاشقاً للمستوطنين مثل سفير دونالد ترامب السابق إلى إسرائيل، ديفيد فريدمان، مستعجباً، فقد صدق بايدن على رواية قطع حماس لرؤوس الأطفال، ثم اضطر للتراجع عنها.
وبصرف النظر عن ذلك، فهو حريص على وعد إسرائيل بمنحها كل ما تحتاجه “للرد على الهجوم”، مدعياً أن حماس تستخدم المدنيين في غزة كدروع بشرية، مما أعطى إسرائيل جرأة لتجاوز قواعد الحرب في القانون الدولي دون أي خط أحمر يذكر!
تتابعت الأحداث بعد ذلك، وأسقطت إسرائيل ما يعادل ربع قنبلة نووية من الانفجارات على غزة في 10 أيام فقط، وفي الوقت الذي كان يستعد فيه بايدن لرحلته إلى تل أبيب، قصفت إسرائيل مستشفى في غزة، كانت قد قصفته وهددته قبل ذلك، بالإضافة إلى تحذير 20 مستشفى آخر في القطاع!
لأول وهلة، بدا وكأن سيناريو التهجير على وشك أن ينجح، تحت ستار ممرات إنسانية، كما ظلت الحدود اللبنانية هادئة ولم يرد حزب الله في البداية، وتم الترويج في الإعلام الغربي لسردية التغلب على حماس وإعادة احتلال غزة، لكن سرعان ما جاءت نقطة التحول بعدما أدرك وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أن نكبة أخرى على ما يبدو خط أحمر
لكن هذه المرة، قُتل ما يقرب من 500 فلسطيني، فكانت المذبحة سبباً في ابتهاج وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، قائلاً “طالما أن حماس لا تطلق سراح الرهائن بين يديها، فإن الأمر الوحيد الذي سوف يدخل غزة هو مئات الأطنان من المتفجرات من سلاح الجو، وليس أوقية واحدة من المساعدات الإنسانية”.
وبذلك يكون قد صرح بمسؤولية إسرائيل عن الهجوم قبل الأوان، تماماً كما فعل المسؤول في الفريق الرقمي لنتنياهو، حنانيا نفتالي، الذي نشر على اكس “عاجل: ضربت القوات الجوية الإسرائيلية قاعدة إرهابية لحماس داخل مستشفى في غزة”، ولكن سرعان ما قام بحذف المنشور.
بعد ذلك، أعلن متحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن “صاروخاً معادياً” كان في طريقه إلى إسرائيل ولكنه فشل وأصاب المستشفى، ولكن الصواريخ الفلسطينية تفتقر إلى القوة الانفجارية التي تكفي لقتل 500 شخص، كما قام الجيش بنشر فيديو على أنه دليل قبل حذفه لاختلاف التوقيت في الفيديو عن الوقت الحقيقي للضربة.
بل زاد الجيش الإسرائيلي على ذلك، بنشر تسجيل صوتي يُزعم أنه لعناصر من حماس يناقشون فشل إطلاق الصاروخ، ثم عادت القناة 4 العبرية وأظهرت زيفه بسبب استخدام لهجة وصياغة خاطئة.
ضوء أخضر واضح
كان بايدن ينوي زيارة العاصمة الأردنية عمان، ولكن بعد تجمع مئات الأشخاص أمام السفارتين الأمريكية والإسرائيلية مطالبين بطرد السفير الإسرائيلي وإلغاء معاهدة السلام، أُلغيت زيارته، وفي تل أبيب، أغرق نفسه أكثر بعد تعليقه على هجوم المستشفى بالقول “بناءً على ما رأيته، يبدو أن الفريق الآخر هو من قام بذلك، وليس أنت” مخاطباً نتنياهو.
أما خلف الكواليس، فقد بدأت الأمور تخرج عن السيطرة، ولم تعد عجلات عربة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط قادرة على الحمل الثقيل، فالإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة خلف الكواليس مهدت الطريق للأزمة التي تعيشها المنطقة اليوم.
لم تكتفِ واشنطن بإعطاء الضوء الأخضر للقصف الذي دفع سكان شمال القطاع بالنزوح إلى جنوبه، ولم يقتصر دعمها على تزويد إسرائيل بقنابل JDAM وقذائف مدفعية عيار 155 ملم، بل حاولت إقناع مصر لاستقبال اللاجئين.
بعد 12 يوماً من إطلاق يد إسرائيل، سيكون من الصعب إيقاف العجلات التي غادرت عربة السياسة الأمريكية، فقد أظهرت الأيام الماضية عجز الولايات المتحدة عن قيادة المشهد، ناهيك عن ضعف المهارات التحليلية والمعرفة الإقليمية المطلوبة لحرب ليست مستعدة لها
كانت صحيفة الأخبار قد ذكرت أن الولايات المتحدة حاولت التنسيق مع الأمم المتحدة و”المنظمات الدولية التي تتلقى تمويلاً من الاتحاد الأوروبي” لإقناع القاهرة بفتح معبر رفح، وتلك رشوة واضحة، يضاف إليها استعداد الولايات المتحدة لتمويل مصر بمبلغ يتجاوز 20 مليار دولار إذا ما وافقت على استقبال اللاجئين.
من جانبه، نقل موقع مدى مصر أن مسؤولين مصريين أجروا محادثات عن تهجير جزء كبير من سكان القطاع، ولكن لحساسية الأمر، فقد شنت الدولة هجوماً على الموقع وفتحت تحقيقاً بدعوى “نشر أخبار كاذبة” بحق الموقع، ولكن مما لاشك فيه أن تلك المحادثات كانت جارية قبل أن يدرك السيسي تأثيرها على انتخاباته القادمة.
ومع وصول بايدن إلى إسرائيل، كانت قد أُلغيت معظم جولته الإقليمية المخطط لها، فالغضب في الضفة والأردن ولبنان والعراق ومصر جعل زعماء تلك الدول العرب يرفضون لقاء بايدن حفاظاً على سلامته!
11 سبتمبر الإسرائيلي
لقد ارتكبت الولايات المتحدة 3 أخطاء فادحة في ردها على هجوم حماس، فقد شجعت إسرائيل على مهاجمة عزة دون ضبط للنفس، وطرحت منذ البداية سيناريو التهجير إلى مصر، كما دفعت بالمنطقة نحو حافة حرب إقليمية.
منذ اللحظة الأولى كانت السردية المستخدمة أن ما حصل هو 11 سبتمبر الإسرائيلي، وأن حماس لا تختلف عن داعش، وأن على إسرائيل واجباً اخلاقياً ليس للرد على هجوم حماس فقط، بل للقضاء على الحركة برمتها.
هذا التصور جعل إسرائيل تعتقد أنها قادرة على استخدام الضربات الجوية من غزة، ليس للقضاء على حماس فقط، بل أيضاً لإجراء تغييرات بنيوية على ميزان القوى في الشرق الأوسط، وذلك يعني بالضرورة مواجهة حزب الله وإيران لاحقاً، وذلك ما ألمح إليه بيني غانتس زعيم المعارضة ونتنياهو بالإشارة إلى “تغير الواقع الأمني والاستراتيجي في المنطقة”.
تعليقاً على ذلك، كتب رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز موشيه ديان بجامعة تل أبيب، مايكل ميلشتاين، يقول “هذه الحرب أكثر من مجرد صراع بين إسرائيل وحماس، في الغرب يرون أن حرب السيوف الحديدية لحظة حاسمة وفرصة لمرة واحدة لإعادة تشكيل بنية الشرق الأوسط، والتي من المتوقع أن تؤثر أيضًا على علاقات القوة في العالم بأسره”.
لأول وهلة، بدا وكأن سيناريو التهجير على وشك أن ينجح، تحت ستار ممرات إنسانية، كما ظلت الحدود اللبنانية هادئة ولم يرد حزب الله في البداية، وتم الترويج في الإعلام الغربي لسردية التغلب على حماس وإعادة احتلال غزة.
لكن سرعان ما جاءت نقطة التحول بعدما أدرك وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أن نكبة أخرى على ما يبدو خط أحمر، فقد صرح وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بأن الدول العربية تعهدت بعدم السماح بطرد الفلسطينيين من وطنهم، بالإضافة لموقف مصر والسعودية، مما اضطر بلينكن للاعتراف أخيراً بأنه كان “غير موفق”، وبعده صرح بايدن بأن “احتلال غزة سيكون خطأً كبيراً”.
كانت هناك تحذيرات إضافية أخرى من جانب آخر، فقد هدد وزير الخارجية الإيراني، حسين عبد اللهيان، بفتح “جبهات متعددة” ضد إسرائيل إذا ما استمرت بالهجمات على غزة، قائلاً “الوقت ينفد بسرعة كبيرة، إذا لم تتوقف جرائم الحرب ضد الفلسطينيين على الفور، فسوف تنفتح جبهات متعددة أخرى، وهذا أمر لا مفر منه”.
إذا لم تفهم الولايات المتحدة كل تلك الرسائل بعد، فما عليها سوى النظر إلى المظاهرات غير المسبوقة في المنطقة!
حرب إقليمية
مع وصول بايدن إلى إسرائيل، كانت المنطقة تشهد حالة من الغليان، فمن الواضح أن المؤسسة العسكرية الأمريكية لم تحسب جيداً لكلفة مغامرة القصف هذه، فوفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، فقد سحبت القوات الإسرائيلية أكثر من 8 بطاريات صواريخ باتريوت خلال العام الماضي من العراق والكويت والأردن والسعودية، فضلاً عن نظام الدفاع “ثاد” من السعودية.
عواقب الأيام الماضية لم تظهر بعد، ولذلك فإن من مصلحة بايدن إنهاء الأمر سريعاً، من خلال وقف الهجوم البري وفتح الباب للمساعدات الإنسانية إلى غزة، وذلك حتى تتمكن من مفاوضة حماس بشأن تبادل الأسرى
الآن عليها أن تعكس العملية، فهناك حاملة طائرات في المنطقة، وأخرى في الطريق، وقد كانت آخر مرة حركت فيها الولايات المتحدة حاملة الطائرات في 2020، كما اضطرت إلى إعادة طائرات هجومية من طراز A-10 ومقاتلات من طراز F-15 وF-16 إلى الخليج.
ومن المفترض أن يردع كل هذا إيران، لكن ذلك لن يحدث، فقد كتب توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز، أنه “إذا دخلت إسرائيل إلى غزة الآن، فسوف تنسف اتفاقيات أبراهام، وتزيد من زعزعة استقرار الأردن ومصر، حلفاء أمريكا، وتجعل التطبيع مع السعودية مستحيلاً ، وتلك نكسات استراتيجية ضخمة، وبالمقابل، ستمكن حماس من إشعال النيران في الضفة بين المستوطنين اليهود والفلسطينيين، وسوف يؤثر ذلك بشكل مباشر في استراتيجية إيران المتمثلة في جر إسرائيل إلى التوسع، وبالتالي إضعاف الديمقراطية اليهودية من الداخل”.
الحقيقة لا تحتاج حماس إلى إشعال الضفة، فالمظاهرات ضد السلطة الفلسطينية والمطالبة برحيل عباس مشتعلة بالفعل، خاصة بعد استخدام قوات السلطة للذخيرة الحية ضد المتظاهرين، أما النقطة الاستراتيجية التي تحدث عنها، فأنا أتفق معه رغم أني لا أحب ذلك، كما أنه كان محقاً عندما اعتبر أن الغزو البري سيكون مقدمة لمجازر أوسع نطاقاً مما شهدناه حتى الآن.
خسارة الدعم
هناك ما يدور في واشنطن من أن طبيعة وسرعة ومدى هجوم حماس قد غير نظام الشرق الأوسط القائم وفق معايير الولايات المتحدة، فقد أشار السفير الأمريكي السابق في المنطقة، جيمس جيفري، إلى أن “قدرة حماس على التغلب على خط دفاع عسكري إسرائيلي كامل تجعل هذه الحرب في مستوى حرب عام 1973، فلم تهدد أي حرب حديثة نظام الشرق الأوسط مثل هذه، وهذه هي الطريقة التي تنظر بها الإدارة إلى الأمر”.
هذا التحليل يبدأ من الساعة التي بدأ فيها هجوم حماس، وليس من التحذيرات السابقة حول انهيار السلطة والتعديات على المسجد الأقصى وغياب المفاوضات ومحاولات عقد صفقة مع السعودية على حساب الفلسطينيين، وفوق ذلك إهمال ملف حصار غزة!
بعد هجوم حماس، ربما يكون بايدن قد فهم الرسالة أخيراً، ولكن بعد 12 يوماً من إطلاق يد إسرائيل، سيكون من الصعب إيقاف العجلات التي غادرت عربة السياسة الأمريكية، فقد أظهرت الأيام الماضية عجز الولايات المتحدة عن قيادة المشهد، ناهيك عن ضعف المهارات التحليلية والمعرفة الإقليمية المطلوبة لحرب ليست مستعدة لها.
لقد فقدت الولايات المتحدة، بسبب حرصها الدائم على تقسيم العالم إلى متضادين، ديمقراطية في مواجهة الاستبداد والعالم المسيحي مقابل المسلم، صلتها بالقيم التي تدعي أنها تدعو لها، فهل الكذب نيابة عن إسرائيل في جرائمها يساعد في الدفاع المزعوم عن القيم؟!
علاوة على ذلك، تخسر واشنطن حلفاءها، فلم يعد أحد ينظر لتصرفاتها بثقة، فعواقب الأيام الماضية لم تظهر بعد، ولذلك فإن من مصلحة بايدن إنهاء الأمر سريعاً، من خلال وقف الهجوم البري وفتح الباب للمساعدات الإنسانية إلى غزة، وذلك حتى تتمكن من مفاوضة حماس بشأن تبادل الأسرى.
أما إذا لم يتمكن بايدن من تحقيق ذلك، فسوف يكتشف أن حجم الضرر الذي يمكن أن تلحقه إسرائيل بنفسها وبالمنطقة وحتى بالعالم أكبر مما كان يتصور!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)