بقلم محمد المصري
ترجمة وتحرير مريم الحمد
تمثل فكرة “إسرائيل الكبرى” هدفاً أساسياً لدى الصهيونية والنخبة السياسية الإسرائيلية، فلعقود من الزمن، عملت إسرائيل على تنفيذ عمليات نقل جماعي للسكان العرب من فلسطين التاريخية.
بالنسبة للقيادة الإسرائيلية الحالية، ومعها قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي اليوم، فقد قدمت الحرب على غزة ما يعتبرونه فرصة محورية لإخراج الفلسطينيين من غزة إلى الأبد.
منذ بداية الحرب في أكتوبر عام 2023، أبدت إسرائيل رغبتها في تجريد غزة من سكانها الفلسطينيين، ولكن خلال القسم الأعظم من الحرب، كان القادة الإسرائيليون مترددين في إعلان الخطة صراحةً لأنها ترقى إلى مستوى التطهير العرقي.
حتى لو فشلت خطة إسرائيل في نهاية المطاف، وهو ما يأمل أغلب المجتمع الدولي أن يحدث، إلا أنها سوف تكون قد خلفت وراءها إرثاً خطيراً، وهو دليل استراتيجية القرن 21 للتطهير العرقي!
اليوم ومع اقتراب إسرائيل من تنفيذ هدفها الشامل، بات من المهم دراسة مسارها نحو التطهير العرقي، والذي يمكن إجماله في 5 خطوات أساسية.
تعد إسرائيل من أقدم الدول المنظرة في مجال التطهير العرقي، فقد نفذت في عام 1948 واحدة من أكبر جرائم التطهير العرقي في العصر الحديث، ومنذ ذلك الحين، واصلت حملتها بشكل أبطأ في الضفة الغربية بشكل أساسي، حيث استولت على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية وأنشأت أكثر من 200 مستوطنة وبؤرة استيطانية غير قانونية وجلبت حوالي 700 ألف مستوطن إسرائيلي غير شرعي.
ويتضمن برنامج التوسع الاستيطاني الإسرائيلي غير القانوني مصادرة الأراضي بشكل روتيني، وهدم المنازل والأحياء، والترحيل القسري للسكان.
الخطوات الخمسة:
-
تكميم وسائل الإعلام:
في ظل عقود من محاولات إزالة الفلسطينيين من أراضيهم، أدركت القيادة الإسرائيلية الحالية أنه أول خطوة لإخلاء غزة من السكان، يجب تتمثل في تقييد التغطية الإعلامية المنتقدة لتصبح محدودة قدر الإمكان، ولذلك عزلت إسرائيل العالم الخارجي عن التغطية في غزة منذ بداية الحرب.
في أكتوبر عام 2023، شددت إسرائيل الأختام على حدود غزة ومنعت الصحفيين الدوليين من دخول القطاع، وفي الشهر نفسه، أبلغت كلاً من وكالة فرانس برس ورويترز بأنها لا تستطيع ضمان سلامة صحافييها في غزة.
إضافة إلى ذلك، وخلال مفاوضات وقف إطلاق النار في نوفمبر عام 2023، أعربت الولايات المتحدة، الحليف الأقرب لإسرائيل والممول الرئيسي لها، عن قلقها من أن التوقف المؤقت للقتال قد يسمح بوصول أكبر لوسائل الإعلام الدولية إلى غزة، ولذلك فمن المرجح أن إسرائيل والولايات المتحدة قد عملتا على ضمان استمرار إغلاق حدود غزة لمدة 6 أيام خلال تلك الفترة.
استهدفت إسرائيل الصحفيين بشكل ممنهج أيضاً، حيث قُتل أكثر من 200 صحفي في غزة حتى الآن، وهو رقم قياسي على مستوى العالم الحديث.
قبل أسبوعين، قصفت إسرائيل خيمة تجمع فيها عدد من الإعلاميين، مما أدى إلى حرق الصحفي الفلسطيني أحمد منصور حياً، وقد تم تصوير لحظاته الأخيرة في لقطات مروعة بالهاتف المحمول.
حظرت إسرائيل أيضاً العديد من وسائل الإعلام داخل حدودها وأغلقت مكاتب الجزيرة في مناطق أراضي 48 والضفة الغربية.
-
تقليص عدد السكان:
تضمنت هذه الخطوة إبادة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من خلال قصف جوي واسع النطاق، ففي اجتماع لمجلس الوزراء أواخر عام 2023، تحدث رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن رغبته في “تخفيف” عدد السكان “إلى الحد الأدنى”.
لتحقيق هذه الغاية، أسقطت إسرائيل آلاف القنابل بشكل عشوائي على هذا قطاع غزة، مما أسفر عن استشهاد عشرات الآلاف من الفلسطينيين أغلبهم من النساء والأطفال.
هذه المرة، لم تكترث إسرائيل بتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، بل لجأت إلى ملاحقة الضحايا كسياسة عامة، ولعل المثال الأكثر إثارة للخوف على ذلك هو نسبة الاستهداف التي بلغت 100:1، وهو النظام الذي يسمح للجيش الإسرائيلي بقتل “أكثر من 100” مدني أثناء استهداف قائد واحد من حماس.
من ناحية أخرى، فقد ضمنت سياسات “منطقة القتل” المختلفة قيام الجنود الإسرائيليين بإطلاق النار أولاً ثم طرح الأسئلة لاحقاً، وكما قال أحد القادة العسكريين الإسرائيليين مؤخراً للجنود: “كل من تقابله هو عدو، فإذا رأيت شخصاً ما، أطلق النار وقم بتحييد التهديد واستمر في التحرك ولا تتردد ولا تفكر في الأمر”.
في ديسمبر عام 2023، قتلت إسرائيل 3 من أسراها كانوا يتجولون في منطقة قتل رغم تلويحهم بالأعلام البيضاء، فقد كانت تلك مناطق يتم إطلاق النار بشكل روتيني على الفلسطينيين فيها.
ومع ذلك، فلم تكن التفجيرات وإطلاق النار هي الوسيلة الوحيدة التي سعت إسرائيل من خلالها إلى تقليص عدد سكان غزة، حيث اتبعت سياسة التجويع القسري أيضاً.
وكان الجنرال الإسرائيلي المتقاعد جيورا إيلاند قد صرح لوسائل الإعلام الإسرائيلية مطلع أكتوبر عام 2023، بأنه من الضروري خلق “أزمة إنسانية” في غزة، ثم نشر إيلاند لاحقاً ما عرف بـ “خطة الجنرالات” التي تحدد استراتيجية التجويع التي يُمنح فيها الفلسطينيون خيار “الاستسلام أو المجاعة”.
يبدو أن إسرائيل اتبعت تعليمات إيلاند، فطوال فترة الحرب، منعت إسرائيل دخول الغذاء والماء إلى غزة، وفي صيف عام 2024، أعلنت الأمم المتحدة أن المجاعة قد انتشرت وأن العديد من الأطفال قد ماتوا بسبب سوء التغذية، فيما خلصت هيومن رايتس ووتش والمرصد الأورومتوسطي وبتسيلم إلى أن إسرائيل تقوم بتجويع الفلسطينيين عمداً مستخدمة “التجويع كسلاح في الحرب”.
-
تدمير نظام الرعاية الصحية:
لقد سعت إسرائيل إلى تدمير نظام الرعاية الصحية في غزة قدر الإمكان، وذلك لضمان استمرار المعاناة لآلاف المصابين في التفجيرات، فقد قامت إسرائيل بمهاجمة المستشفيات وتدميرها بشكل ممنهج.
في ديسمبر عام 2024، ذكرت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أن مثل هذه الهجمات أدت إلى وصول النظام الصحي في غزة “إلى حافة الانهيار التام، مع تأثير كارثي على حصول الفلسطينيين على الرعاية الصحية والطبية”.
استهدفت إسرائيل أيضاً العاملين في مجال الصحة، مما أسفر عن استشهاد أكثر من 1000 طبيب وممرض واعتقال أو تعذيب أكثر من 300 آخرين، وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ففي ديسمبر الماضي، اختطفت إسرائيل مدير أحد آخر المستشفيات العاملة في غزة، الدكتور حسام أبو صفية، وفي مارس الماضي، قتلت 15 مسعفاً وعامل إنقاذ ودفنتهم في مقبرة جماعية مع سيارات الإسعاف الخاصة بهم.
الأهم من ذلك، أن إسرائيل عملت على منع دخول الإمدادات الطبية الأساسية، حيث خلص تحقيق أجرته شبكة “سي إن إن” عام 2024 إلى أن إسرائيل منعت دخول “أدوية التخدير وآلات التخدير وأسطوانات الأكسجين وأجهزة التنفس الصناعي وأنظمة تنقية المياه”، بالإضافة إلى “أدوية علاج السرطان ومستلزمات الولادة والعكازات والمولدات و أجهزة الأشعة السينية”.
إن نقص أدوية التخدير يعني أن العديد من الفلسطينيين قد تعرضوا لبتر أطرافهم دون تخدير، كما أدى نقص الوقود اللازم لتشغيل المولدات إلى تعطل الحاضنات، مما أدى إلى وفاة الأطفال حديثي الولادة.
في شهادته، أكد الطبيب الأمريكي الذي عاد من غزة مؤخراً، مارك بيرلماتر، بأن الجراحين يعملون “بدون صابون أو مضادات حيوية أو مرافق للأشعة السينية”، مؤكداً على أن المرضى يموتون بشكل روتيني بسبب نقص الإمدادات.
من جانبه، وصف طبيب أمريكي آخر تطوع في غزة ويدعى سامر العطار، الموت البطيء لصبي صغير “فقد جلد نصف جسده” بعد القصف الإسرائيلي، ولم يتمكن الأطباء من إنقاذه، فقال: “لقد جلسنا وشاهدناه وهو يموت بلا حول ولا قوة”.
تتوافق هذه الاستراتيجية الإسرائيلية مع الوعد الذي قطعه وزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت في بداية الحرب، عندما أعلن عن “حصار كامل” على غزة، معلناً أنه “لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود”، كما تتوافق مع نصيحة إيلاند لوزارة الدفاع الإسرائيلية.
وفي مقال افتتاحي نُشر في نوفمبر عام 2023 في صحيفة يديعوت أحرونوت، أشار إيلاند إلى أن “الأوبئة الشديدة” من شأنها أن “تقرب النصر إلى إسرائيل”، وهو رأي أيدته شخصيات إسرائيلية بارزة من بينها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
-
جعل غزة غير صالحة للسكن:
لاشك أن الخطوات السابقة وحدها كافية لرسم مشهد من الجحيم، ومع ذلك يتوجها الخطوة الرابعة والتي قد تكون الأهم في جهود التطهير العرقي التي تبذلها إسرائيل.
سعت إسرائيل إلى جعل غزة غير صالحة للسكن بحيث لا يكون أمام الفلسطينيين خيار سوى الفرار، فقد دمرت المنازل والمدارس والجامعات والملاجئ والطرق بشكل ممنهج، فوفقاً لمنظمة أطباء بلا حدود، فإنه وبحلول يناير عام 2025، كان أكثر من 90% من الوحدات السكنية في غزة قد دمرت كلياً أو جزئياً.
من جانبه، علق مبعوث ترامب ستيف ويتكوف، بعد زيارة غزة في يناير الماضي، بأنه “لم يتبق شيء تقريباً”، رافضاً خطط إعادة الإعمار بوصفها “مستحيلة” على حد تعبيره، كما أشار ترامب إلى غزة على أنها “موقع هدم” على حد وصفه.
لم تكن هذه التعليقات ملاحظات محايدة، بل كانت تأييداً ضمنياً للخطة الإسرائيلية، ومنطقهم في ذلك: “بما أن غزة أصبحت الآن أرضاً قاحلة، فإن الاستجابة الإنسانية هي نقل سكانها المتبقين”!
-
شرعية دبلوماسية
تأمل إسرائيل في أن تكون الخطوة الخامسة بمثابة المرحلة النهائية في التطهير العرقي الكامل لغزة، حيث تتركز هذه الخطوة على المناورة السياسية العدوانية والتنسيق اللوجستي لتحقيق هذا الهدف.
في يناير الماضي، اقترح ترامب الطرد الجماعي للفلسطينيين من غزة، وهي خطة وافقت عليها إسرائيل على الفور، لكن ما يسمى بـ “اقتراح ترامب” لم يكن منشؤه ترامب، فقد بدأت الفكرة في إسرائيل كجزء من رؤيتها الأوسع “لإسرائيل الكبرى” وإستراتيجية التطهير العرقي الطويلة الأمد.
إن وصفها بأنها “خطة ترامب” يساعد في حماية إسرائيل وإضفاء مصداقية على الخطة، ولكن الأهم هو قيام إسرائيل بإنشاء وكالة لتسهيل إخلاء غزة من السكان كما أعلنت الاستيلاء على الأراضي داخل القطاع وضغطت على دول ثالثة، بما فيها الصومال وجنوب السودان، لقبول الفلسطينيين.
يبقى من غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل ستنجح في خطوتها هذه، فالتطهير العرقي الكامل غير مرجح في الوقت الحالي، حيث يرفض الفلسطينيون الخطة، كما اقترحت الجامعة العربية مبادرة إعادة الإعمار الخاصة بها لمدة 5 سنوات.
ويظل المستقبل مجهولاً بالنسبة للقطاع المحاصر، فماذا قد يحدث عندما لا يتبقَ شيء يمكن تدميره وعندما لا توفر أي دولة ملجأ، ويرفض الفلسطينيون المغادرة؟!
حتى لو فشلت خطة إسرائيل في نهاية المطاف، وهو ما يأمل أغلب المجتمع الدولي أن يحدث، إلا أنها سوف تكون قد خلفت وراءها إرثاً خطيراً، وهو دليل استراتيجية القرن 21 للتطهير العرقي!