على امتداد ساحل بيروت، تزدحم النوادي الليلية بالراقصين على أنغام الموسيقى الصاخبة حتى شروق الشمس، ويملأ اللبنانيون والسياح حانات الجميزة وباراتها، حيث يمكن سماع صوت موسيقى البوب في كل أركان الشوارع الضيقة.
هذا المشهد اختفى بشكل أو بآخر خلال العامين الماضيين من الحي البيروتي، الذي لا تزال علامات الدمار ماثلة للعيان فيه من جراء انفجار المرفأ الذي سوّى معظم المنطقة بالأرض عام 2020.
ورغم استمرار معاناة البلاد من أزمة اقتصادية وشلل سياسي، يبدو أن أصحاب المطاعم والحانات باتوا يشعرون الآن وبحذر ببعض الارتياح.
فقد ذكر آندي نعيم، مدير إحدى الحانات في الجميزة أن عدد مرتادي الحانة أصبح الآن أكثر من ذي قبل، مستدركاً بالقول:” لكننا لا نستطيع التنبؤ بمدى نشاطهم”.
يتوقع وزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال وليد نصار أن يزور لبنان أكثر من مليوني شخص هذا الصيف، وهو العدد الأعلى منذ سنوات، حيث تأمل الحكومة والشركات التي تعاني من ضائقة مالية أن يوفر السياح والمغتربون دفعةً نقديةً لاقتصاد البلاد المتعثر.
لكن على بعد بنايات قليلة فقط من حانات الجميزة، يطل الواقع الاقتصادي الكئيب في لبنان برأسه القبيح.
كان يمكن لفداء قاسم، 52 عامًا، ذات يوم التسوق والاشتراك في الصالة الرياضية، أما اليوم، فأصبح عليها أن تفكر مليًا قبل الدفع لتعبئة خزان الوقود في سيارتها، حتى أنها تستخدم المواصلات العامة للقيام بأي زيارة ضرورية.
وبيّن صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي أن الاقتصاد اللبناني لا يزال “يعاني من ركود حاد”، فيما أكد صندوق الأمم المتحدة للطفولة أن تسعة من كل 10 أسر في لبنان لا تستطيع شراء الأدوات المنزلية الأساسية.
وبدلاً من تحقيق الإصلاحات الاقتصادية التي يطالب بها صندوق النقد الدولي، كان لبنان يعتمد على الملايين التي ينفقها مواطنوه المقيمون في الشتات عند زيارتهم للبلاد وعلى تحويلاتهم من المهجر، في سياسة اقتصادية يصفها الخبراء بغير السليمة.
وذكر سامي زغيب، الخبير الاقتصادي ومدير الأبحاث في The Policy Initiative، ومقرها بيروت:” النموذج بأكمله غير مستدام”، مضيفًا أنه قد يؤدي إلى تفاقم الفجوات الاقتصادية في البلاد.
ومنذ أواخر عام 2019، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها، حيث وصل سعر الصرف غير الرسمي إلى 140 ألفًا للدولار في منتصف آذار / مارس.
ووفقًا للبنك الدولي، فقد سجل لبنان في نفس الشهر أعلى معدل تضخم في أسعار المواد الغذائية في العالم على أساس سنوي، مع زيادة بنسبة 261٪ في الأسعار بين فبراير 2022 و 2023، فيما يقدر أن ثلاثة أرباع سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر.
ويهيمن الدولار الآن على السوق، رغم أن عددًا قليلاً فقط من الناس يتقاضون به أجورهم، وقد لجأت الشركات إليه لاستقرار قيمته مما أدى إلى “دولرة” الاقتصاد بحكم الواقع.
وقال زياد بستاني، أحد مؤسسي حانة رويز في بيروت أن عملية الدولرة لم تسعف الاقتصاد لكنها ساعدت في توضيح التكاليف، حيث ظلت الأسعار تعدل باستمرار ولسنوات بناءً على تحرك قيمة العملة المحلية.
ويقول أصحاب الأعمال إن استخدام الدولارات أصبح أمرًا بالغ الأهمية لأن بيع البضائع بالليرة مقابل الاستيراد بالدولار أدى إلى خسائر فادحة، لكن هذا الاستقرار المؤقت في العملة زاد من اتساع الفجوة الاجتماعية في لبنان.
وقالت قاسم وهي في حيرة مما شاهدته في الحانات والمقاهي “البلاد مقسمة بين من يكسبون بالدولار ومن يكسبون بالليرة اللبنانية”.
حل مؤقت حتى للسياحة
ورغم ازدهار الأعمال خلال الصيف، إلا أن الشركات ذات الطبيعة الليلية في لبنان تعلم أنها لا تستطيع الاعتماد على ذلك، حيث قال بستاني:” لا أؤمن بنظام يعمل لمدة شهرين فقط ثم ينهار من تلقاء نفسه.
ولا يزال موقع الفعاليات الشعبية في حي الكرنتينا شبه الصناعي KED، قائمًا بطريقة ما على الرغم من وقوعه على بعد مسافة قصيرة من ميناء بيروت المدمر واضطراره إلى الإغلاق أثناء جائحة كورونا.
ويقال أن الموقع يقدم أنشطة متنوعة بينها موسيقى غريبة لعلها تسهم في جذب زبائن متنوعين على مدار العام.
وقال غابي ماركاريان، مؤسس الموقع:” النظام الذي أنشأناه مكتفٍ ذاتيًا، لكن وعلى الرغم من رؤية زيادة كبيرة في العملاء مؤخرًا، إلا أنهم أكثر حذراً في الإنفاق وسط الأزمة الاقتصادية”.
ربما تكون الصدمة الأولية للأزمة الاقتصادية المستمرة منذ أربع سنوات قد تلاشت، ولكن خلف موسم السياحة الساحر والرائع لا يزال الاقتصاد المنهار، حيث قال زغيب:” لقد توصل الناس للتو إلى طريقة للتكيف”.