بقلم عندليب فرازي صابر
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تحتل قصص الحب مكانة خاصة في ثقافات الشرق الأوسط، وغالبًا ما تنتقل عبر الأجيال شفهيًا، لتلعب دورًا تعليميًا لتعريف المستمع بأنواع الحب المختلفة، وأهمها تلك التي تسفر عن انكسار القلب.
في الواقع، يأتي مشهد القلب المنكسر كنهاية أكثر شيوعًا من “السعادة الأبدية” في معظم ملاحم اللغة العربية، حيث غالبًا ما تباعد الخصومات القبلية والوضع الاجتماعي بين العشاق.
لعب العمق اللغوي في اللغة العربية دوراً مهماً في تعزيز فن السرد القصصي، ولتحقيق ذلك اعتمد الشعراء القدامى مثل إمرؤ القيس وعنترة بن شداد على مجموعة من الصور الشعرية التي سمحت لهم بوصف مراحل الحب المختلفة، ورسموا بوضوح المشاعر المرتبطة بها.
لقد تمكنوا هم وغيرهم من شعراء ما قبل الإسلام من تدوين المفهوم العربي للحب الرومانسي بطريقة لا تزال تؤثر على الشعر العربي والإسلامي حتى يومنا هذا.
وظهر الشعر العذري كأسلوب مميز لسرد قصص الحب في شبه الجزيرة العربية في القرن السادس لينتشر لاحقًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط وآسيا الوسطى مع ظهور الإسلام.
تؤكد قصص الحب العذري على مفاهيم الشرف والعفة في العلاقات الرومانسية، وتميزها عن الصور التقليدية للحب التي تتضمن عنصر الإثارة.
وفيما يغيب المرادف الدقيق للحب العذري عن اللغة الإنجليزية، فقد تمت مقارنته بمفهوم “الحب اللطيف” (courtly love) في الأدب الفرنسي والإنجليزي القديم.
يتمثل الحب العذري في صورة عاشق يعبر عن إخلاصه الدائم لحبيبته، والتي غالباً ما تتصف بالصفات الأخلاقية المثالية على عكس النمط الأنثوي المبتذل، دون أدنى توقع للحميمية الجسدية.
يصف الكاتب والفيلسوف اللبناني عبد اللطيف شرارة في كتابه “فلسفة الحب عند العرب” الحب العذري بأنه “حب بكر” مشتق من تكوين الشعر العفيف بين القبائل العربية.
وجاء في كتابه:” الحب الأفلاطوني هو تجريد فلسفي خالص، أما الحب العذري فهو حدث اجتماعي تاريخي يشعر به المحبون العرب… الأول هو عبارة عن فكرة، والأخير هو يجسد الحياة، والفرق بين الفكرة والحياة كبير”.
كما أن الصوفيين، المعروفين باستبطانهم الروحي، تفكروا أيضًا في الحب العذري كرمز للحب الإلهي، وربطوه بالسعي الأبدي لعلاقة أعمق بالله.
وفيما يلي ثلاث قصص شهيرة تجسد مفهوم الحب العذري.
ليلى وتوبة
من أبرز الأمثلة على الشعراء العذريين الشاعرة ليلى الأخيلية، وهي امرأة متزوجة تجرأت على التعبير عن حبها لرجل غير زوجها، من خلال الشعر.
في شبه الجزيرة العربية، اعتُبرت التعبيرات العامة عن المشاعر الرومانسية خلال القرن السابع الميلادي عارًا يمس الشرف، خاصة بالنسبة للنساء، فما بالك بالتعبير عن المشاعر نحو رجل آخر.
ومع ذلك، تحدت ليلى الأخيلية الأعراف المجتمعية وأعلنت صراحة عن حبها لعشيقها توبة بن الحميّر.
التقى الاثنان في المحكمة الأموية، حيث أعلن حمير علانية حبه للأخيلية غير المتزوجة آنذاك.
وغاضبًا من إعلانه العلني، قام والد ليلى بتزويجها من خاطب آخر، وهو سوار بن أوفة القشيري.
وأصبح حميّر المحزون صعلوكاً هائماً ومتجولاً يتنصل من الولاءات القبلية، فكان يتردد على الأخيلية، ليتلو القصائد لبعضهما البعض.
وعلى الرغم من شدة حبهما، لم تتصرف ليلى وحبيبها أبدًا وفقًا لمشاعرهما، وظل حميّر مخلصًا لليلى طوال حياته، وواصلت ليلى التعبير عن حبها لحميّر من خلال شعرها، حتى بعد طلاقها من زوجها الذي طالت معاناته.
وفي إحدى الروايات حول وفاتها، قيل أن الأخيلية ماتت حزناً بجوار شاهد قبر حميّر.
صمدت شذرات من شعر الأخيلية على مر العصور، وحُفظت في مؤلفات مختلفة، بما في ذلك كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني.
أعيني ألا فابكي على ابن حمير … بدمع كفيض الجدول المتفجر
لتبك عليه من خفاجة نسوة … بماء شؤون العبرة المتحدر
سمعن بهيجا أزحفت فذكرنه … وقد يبعث الأحزان طول التذكر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ … بنجد ولم يطلع مع المتغور
ولم يرد الماء السادام إذا بدا … سنا الصبح في أعقاب أخضر مدبر
ولم يقدع الخصم الألد ويملأ … الجفان سديفاً يوم نكباء صرصر
ألا رب مكروب أجبت وخائف … أجرت ومعروف لديك ومنكر
فيا توب للمولى ويا توب للندى … ويا توب للمستنبح المتنور
وخلال القرن السابع، كان من المعتاد أن تصبح النساء شاعرات، لكنهن ركزن في الغالب على شعر الرثاء، الذي كان غالباً شكلاً من أشكال التعبير الحزين لندب المحاربين الذين سقطوا في الحروب، وعادة ما تتلوه النساء لإعداد رجالهن للمعركة.
وبرزت تماضر بنت عمرو، المعروفة باسم الخنساء، وهي شاعرة من قبيلة بني سليم عاصرت النبي محمد، كرائدة في هذا النوع من الشعر ولا تزال واحدة من أشهر الشاعرات في العالم العربي.
وفي تلك الحقبة، سيطر الشعراء الذكور على قصائد الحب، بما في ذلك الشعر العذري، وكانوا يعبرون به عن آلامهم النابعة من مشاعر الحب غير المتبادلة، وهذا جعل إنجازات الأخيلية في هذا النوع أكثر بروزًا.
عروة وعفرة
عروة بن حزام، المولود في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، والذي يُعرف بأنه صاحب أول قصة حب عذري في العالم العربي، يقع في حب ابنة عمه عفراء بنت عقال.
لكن والد عفراء يرسل عروة بحثاً عن عمل ليكسب المال بعدما رفض عرضه الزواج منها كونه ليس ثرياً بما يكفي للزواج بها.
يمتثل عروة لطلب عمه، وبعد عدة سنوات من العمل، استطاع أن يدخر ما يكفي من المهر، لكن بدلاً من أن يجد عروسه تنتظره عند عودته، أروه بدلاً من ذلك قبرًا وأخبروه أنه لعفراء.
وتفجر الألم الذي كاد أن يودي بحياة عروة على فقدان حبيبته عندما اكتشف أنها لا زالت على قيد الحياة، وقد زوجتها عائلتها من رجل آخر.
ثم يسافر عروة اليائس إلى بلاد الشام حيث تعيش عفراء مع زوجها، وعند لقاء الرجل، يعرّف عروة نفسه على أنه قريبها وتتم دعوته للبقاء في منزلهم.
ولأن الضيوف من الذكور كانوا يُمنعون في التقاليد العربية من رؤية نساء المنزل، قام عروة بإلقاء خاتمه في إناء من الحليب تحمله الخادمة، على أمل أن تتعرف عليه عفراء وتعلم بقدومه.
وعند اكتشاف الخاتم، أدركت عفراء هوية ضيفها الغامض ليجد الاثنان طريقة للقاء، معلنين عن مشاعرهما تجاه بعضهما البعض قبل أن يغادر عروة حاملاً وشاح عفراء وذكريات لقاءهما العابر.
ولأن عروة لم يكن قادراَ على مواصلة حبه لعفراء بسبب زواجها، فقد فرّغ أحاسيسه في الشعر وأصبح منهكاً هزيلاً قبل أن يتخلى عن الحياة، وعندما سمعت عفراء بوفاة حبيبها، فارقت الحياة هي أيضًا.
طاهر وزهرة
انتقل تأثير قصص الحب العذري إلى ما وراء العالم الناطق بالعربية ليصل إلى مجتمعات مسلمة أخرى مثل الأتراك.
إحدى القصص الأناضولية الشعبية، التي تجسد النوع العذري من الشعر، هي قصة طاهر وزهرة.
تبدأ الحكاية بسلطان قوي يعبر عن سعادته بوجود كل شيء في الحياة باستثناء بهجة الشعور بالأبوة، وهو شعور يفهمه وزيره الذي لم ينجب أطفالاً.
وقرر السلطان ووزيره الاستعانة بساحر من أجل إنجاب أطفال يرثونهما ويحملون نسبهما، ولتحقيق ذلك يمنحهما الساحر تفاحة مسحورة ليتشاركاها، ويؤكد لهما أن كلاهما سينعم بالذرية على أن تُمنح طفلة السلطان اسم زهرة، ويُدعى ابن الوزير اسم طاهر، فيما تم تحذيرهما بعدم فصل طاهر وزهرة أبدًا.
وكما وعد الساحر، يولد الأطفال، ولكن عندما يكبران ويقعان في حب بعضهما البعض، تحل بهما مأساة تفرقهما عن بعض.
وفي نسخ مختلفة من الحكاية، تظهر عقبات مختلفة منها أن أحد ورثة السلالة الحاكمة عارض زواجهما وحاول التفريق بينهما، ومنها أيضاً أن رجلاً يدعى كاراديكن وقع في حب زهرة وحاول تخريب علاقتهما، ورواية أخرى تقول أن والدة زهرة لم تر أن طاهراً يستحق ابنتها، من منطلق أن ابنة السلطان يجب أن تتزوج حصراً من ملك آخر.
وبينما يقبع طاهر في زنزانة في قصر في ماردين، تمكن بعد عدة سنوات من الهروب والعودة إلى قونية، ليكتشف أن ذلك اليوم يصادف يوم زفاف زهرة.
وبشكل مأساوي، وجد حراس القصر طاهر وقتلوه قبل أن يصل لزهرة، التي كانت لا تزال ترتدي فستان زفافها.
وكغيرها من الشخصيات الحزينة المعروضة هنا، تموت زهرة أيضًا من الحزن وتدُفن إلى جانب حبيبها.
ولقرون عديدة، ألهمت قصة حبهما شعراء اللغة التركية بمن فيهم شاعر القرن العشرين ناظم حكمت.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)