بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لم يهدف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزوه لأوكرانيا إلى استعادة جزءٍ من ساحل البحر الأسود فقط، بل تعدى طموحه ذلك، فقد أراد تغيير النظام العالمي ليظهر للغرب أنه لم يعد يمارس الاستعراض فحسب.
لكن العالم متعدد الأقطاب شهد أسوأ إطلالة لروسيا حين تحولت حرب أوكرانيا إلى كارثة عسكرية، خسر فيها الروس، خلال 17 شهرًا من القتال، ما لا يقل عن ضعفي أو حتى ثلاثة أضعاف عدد الرجال الذين خسرهم الجيش السوفيتي خلال نحو عقدٍ من الزمان خلال الحرب في أفغانستان.
علاوة على ذلك، فقد أخفق بوتين في الحفاظ على حليفتيه الصين وإيران إلى جانبه، ومهما استخدم بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ من تعابير لتلطيف علاقتيهما، إلا أن الحقيقة الثابتة هي أن الصين تبعد عقداً كاملاً، عسكريًا على الأقل، عن لعب دور المنافس الدولي لواشنطن، فقد دفع الغزو الروسي لأوكرانيا الصين إلى لعب دورٍ لم تكن مستعدة بعد للقيام به، فالهدف الاستراتيجي للصين يتمثل في زيادة تجارتها مع ألمانيا، لا في تهديدها باستمرار بهرمجدون نووي، كما يفعل المقربون لبوتين.
ولا يبدو الحليف الرئيسي الآخر لروسيا في هذا المشروع سعيداً أيضًا، فطهران لم تعد تنجذب إلى مد النظر نحو الشمال كما بدت قبل عام.
في ذلك الوقت، كان وفد من رؤساء شركات السيارات الإيرانية الحكومية قد عاد من موسكو معلقين آمالاً كبيرةً على تدفق الدولارات، فبعد أن ضربت العقوبات الغربية الأخيرة صناعة السيارات الروسية، أرادت روسيا الاستفادة من خبرة إيران في خرق العقوبات، وكانت روسيا تشتري كل ما تنتجه إيران: المحركات ومحاور الحركة والطائرات بدون طيار، وسم ما شئت.
قارن ذلك بالمزاج السائد في طهران اليوم، حيث يدور الخلاف الحالي حول قرار روسيا الغريب بدعم الإمارات في مطالبتها بالجزر الثلاث المتنازع عليها مع إيران في مضيق هرمز.
وفي ذلك الخصوص، قال محسن رضائي، القائد البارز في الحرس الثوري الإسلامي، إن على روسيا “تصحيح موقفها”، فيما يتهم القادة من المحافظين البارزين، كمحمد جواد لاريجاني ومحمد باقر غاليباف، موسكو بـ “لعب اللعبة الأمريكية” في الخليج.
التعامل مع الفوضى
تشوب العلاقة الروسية الإيرانية تصدعاتٌ أخرى كالاتفاقية الأخيرة “غير الرسمية وغير المكتوبة” بين الولايات المتحدة وإيران، والتي تعهدت إيران بموجبها بتوسيع تعاونها مع المفتشين النوويين الدوليين، عدم بيع الصواريخ الباليستية إلى روسيا، ووقف الهجمات على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، مقابل تخفيف بعض العقوبات، لكن روسيا تنظر بعين الريبة إلى هذا الاتفاق بصفتها طرفًا في الاتفاق النووي لعام 2015.
وبينما أدركت إيران إن الإبحار في النظام العالمي الجديد أصعب من مشاهدة النظام القديم ينهار، لم تكن كل القوى في الشرق الأوسط تسير مع إيران في هذا المسار، فهناك تركيا وهي الدولة الوحيدة التي تحاول التأقلم مع الفوضى من حولها على الرغم من خلافاتها السابقة والمستمرة مع روسيا والناتو.
إلا أن التعيين الذي أجراه الرئيس رجب طيب أردوغان مؤخرًا قد يكون حاسمًا في هذا الصدد، فبينما كان الجميع يترقبون التحول في سياسته النقدية عبر تعيين فريق جديد من المستشارين الاقتصاديين والماليين برئاسة محمد شيمشك، أجرى أردوغان تعييناً آخر بذات الأهمية لولايته الثالثة والأخيرة في منصبه.
لقد كان ذلك التعيين هو ترقية هاكان فيدان، المدير السابق لجهاز المخابرات الوطنية التركية (MIT) إلى منصب وزير الخارجية.
كقاعدة عامة في كل أنحاء العالم، تُحجز إدارة وكالة المخابرات الوطنية في أنحاء العالم للصقور، فمثل هذه المناصب حساسةٌ جدًا بالنسبة للحكام مطلقي الصلاحيات في الشرق الأوسط لدرجة أنها تُمنح لأفراد العائلة أو للأخ الأكبر أو الابن فقط.
إلا أن تعيين فيدان يخالف هذه القاعدة، فهو عالم سياسة تلقى تدريبه على يد المؤرخ والأكاديمي الاسكتلندي نورمان ستون، وهو ليس صقرًا عسكريًا رغم أنه خدم في الجيش، كما أنه مفكر وليس سفاحاً، ويقرأ الكتب، وهو أكثر مما يمكن أن يوصف به اثنان من رؤساء الولايات المتحدة الجدد، كما انه يتحدث الإنجليزية بطلاقة ولديه اطلاع فكريٌ واسع يجعله قادراً على مناقشة الاحتمالات الضعيفة لاستقلال اسكتلندا بذات الأريحية كما لو كان يناقش علوم الدين الإسلامي.
لذلك، فقد قوبل تعيين فيدان كرئيس لجهاز المخابرات الوطنية التركية عام 2010 بشكوك كبيرة من المؤسسة الأمنية التركية، ولم يأتِ الانتقاد منهم فقط: فقد وصف إيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، فيدان بأنه “صديق إيران”، قائلاً إن الأسرار المشتركة مع تركيا “يمكن أن تكشف على إيران خلال الأشهر العديدة المقبلة”.
المعقل الأخير
قبل تقلد فيدان لمنصبه، كانت المخابرات الوطنية التركية، كما هو حال جميع المؤسسات التركية الأخرى، تركز على الشأن الحالي، وكان الناس يتندرون بالقول إن المخابرات كانت على علم بأسماء عشيقات كل وزير ونائب، لكنها لم تستطع التعرف على اسم رئيس مخابرات الجيش السوري.
قبل انضمامه إلى المخابرات الوطنية التركية، التحق فيدان الذي كان آنذاك يشغل منصب نائب وكيل الوزارة في مكتب رئيس الوزراء بمفاوضاتٍ سريةٍ مع حزب العمال الكردستاني (PKK) في النرويج، فقد سجل الحزب المحادثات، وظهر التسجيل عندما ألقت الشرطة البلجيكية القبض على أحد أعضاء الحزب فنقلته لنظيرتها التركية التي كان جزء من رجالها يتبعون فتح الله غولن، فسربوا محتواه.
وتمكن أتباع غولن من التسلل إلى مواقع هامة في الدولة التركية: الشرطة والقضاء وجزء كبير من وسائل الإعلام، وكان لديهم جامعاتهم الخاصة وشبكة من المدارس الخاصة، وكانت المخابرات الوطنية التركية المعقل الأخير داخل المؤسسة الأمنية التي لم يتمكن أتباع غولن من السيطرة عليه.
دعم أتباع غولن رمضان آكيورك، الذي تم تعيينه رئيسًا لمخابرات الشرطة قبل عدة سنوات، لشغل منصب رئيس جهاز المخابرات الوطنية التركية عام 2010، وكان النقاد والكتّاب من أتباع غولن يكررون رأي باراك بأن فيدان كان “داعماً لإيران”.
لكن أردوغان ظل متشبثًا برؤيته على الرغم من أن الخلاف مع أتباع غولن لم يكن قد وقع بعد، واتُهم أكيورك فيما بعد بتجاهل اغتيال الصحفي والمفكر الأرمني التركي هرانت دينك، والتنصت على المثقفين والسياسيين بشكل غير قانوني، وحُكم عليه بالسجن المؤبد في قضية دينك.
حاول أتباع غولن الإطاحة بفيدان، فكان مكتبه في المقر القديم للمخابرات الوطنية التركية في أنقرة أول مقرٍ حكوميٍ يتم قصفه بطائرة هليكوبتر خلال الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، ولساعات اعتقد الجميع أن فيدان قد مات.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يقلل نظراء فيدان فيها النظر إلى قدراته، ولطالما كان الناجي الهادئ مفتونًا بالعلاقة بين الدهاء والسياسة الخارجية، والتي كانت موضوع أطروحته للحصول على درجة الماجستير التي أتمها عام 1999، وهو يقرأ اليوم رسالته بشكل ساخر إلى حد ما، لأن فيدان يستخدم CIA و MI6 كنماذج يجب أن تتموضع المخابرات التركية حولها.
كان هذا عندما كانت القوة الأمريكية في أوجها، حين تم الترحيب بالمنتصر في الحرب الباردة باعتباره بلا منازع زعيم العالم عسكريًا واقتصاديًا.
إنشاء المؤسسات
أنتج العقدان اللاحقان لتعيين فيدان كرئيس للمخابرات “الحرب على الإرهاب” في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا وليبيا، وحالياً أوكرانيا، هذه كلها إخفاقات استخباراتية وسياسية خارجية كبرى لدى الغرب، لكن في عام 1999، اعتقدت الولايات المتحدة حقًا أنها لا يمكن أن تنكسر وأن بوسعها تشكيل الدول كما تشاء.
ما جذب اهتمام فيدان بأجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية هو كيفية تنظيمها ودمجها كمؤسسات، وهو ما شكل مصدر قلق كبير للأتراك لأن بلادهم ابتليت بضعف بنية المؤسسات، مما جعل فيدان يطمح لتغيير ذلك وشرع في إعادة تشكيل جهاز المخابرات الوطنية التركية وتحويلها إلى مؤسسة مهنية يمكن الاعتماد عليها.
وقام فيدان بذات الأمر مع وكالة المساعدات التركية TIKA، التي استخدمها فيدان كأداة لتوسيع نفوذ بلاده في البلقان في وقت كان فيه مرجل الحرب العرقية لا يزال يغلي.
وأعاد فيدان بناء جهاز المخابرات الوطنية التركية خلال فترة رئاسته له على مدار السنوات الـ 13 الماضية، وأعاد تأسيسها كمنظمة قادرة على التطور والتكيف مع التهديدات الجديدة، وأنشأ قسمًا مخصصًا للتحليل الاستراتيجي وآخراً للحرب الإلكترونية، لتصبح منظمة غير سياسية، وبخلاف ما جرت عليه العادة في تركيا، باتت الترقيات تتم في المؤسسة استناداً إلى الجدارة.
تتمتع المخابرات غير الحزبية بأهمية خاصة، فلو فاز كمال كيليتشدار أوغلو، المرشح المفضل لجو بايدن، بالانتخابات الرئاسية لكان من الممكن أن تُمنح قيادة جهاز المخابرات للزعيم اليميني المتطرف أوميت أوزداغ، إلى جانب ثلاث وزارات أخرى، لقد كان هذا هو جوهر البروتوكول السري الذي كشفه كيليتشدار أوغلو بعد خسارته الانتخابات.
برغم علاقته الوثيقة بأردوغان، فإن فيدان لا يُعد سياسيًا، فقد حمى أردوغان ظهره في أكثر من مناسبة، وظل فيدان مخلصًا لأردوغان بشكل ملحوظ عندما انشق آخرون من حوله وانضموا للمعارضة مثل رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو.
كما أن فيدان لا يعتبر فيدان نفسه خادمًا للدولة فحسب، بل وصيًا عليها، فحتى قبل أن ينتقل إلى وزارة الخارجية كان لدى جهاز المخابرات الوطنية التركية بعض الملفات المهمة من مناطق الصراع، فقد كانت الوكالة هي من ضمنت انتصار أذربيجان في جولة القتال الأخيرة مع أرمينيا، وهي التي أشرفت على الهجوم التركي ضد مجموعة فاغنر والجنرال المنشق خليفة حفتر في ليبيا، وهي من تفاوضت على صفقة الحبوب بين أوكرانيا وروسيا، ونسقت تبادل عدد لا يحصى من الأسرى.
خلال فترة ولاية فيدان، خلق جهاز المخابرات الوطنية التركية العديد من الأعداء، فوكالات الاستخبارات المتنافسة لا تحب المنافسين، خاصة من قبل مشغلين فعالين.
بدا الرأي في إيران منقسما حول تعيين فيدان وزيرا للخارجية، فقد أشادت قناة Telegram Afsaran-ir ، المقربة من الحرس الثوري الإيراني بعلاقة فيدان مع الحرس يوم مداهمة القوات الإسرائيلية للمبحرين في أسطول الحرية إلى غزة عام 2010.
وفي المقابل، ذهب موقع الدبلوماسية الإيرانية في الاتجاه المعاكس لذلك، فكتب إسلام زولقدربور:” بين عامي 2010 و 2020، نشرت تركيا تحت قيادة فيدان، استراتيجيات أمنية واستخباراتية كانت جميعها ضد مصالح إيران في المنطقة، جهاز المخابرات الوطني التركي هو الراعي الرئيسي للمنظمات الإرهابية ودعاة الحرب في شمال سوريا، وفيدان هو الشخصية الرئيسية التي تنظم سياساتها”.
إن الخط المتعلق بالعمل ضد مصالح إيران صحيح جزئياً، لكن ذلك يعتمد على كيفية تعريف المصالح.
خبير الحلبة السياسية
نجح جهاز المخابرات الوطنية التركية بحل 10 فرق اغتيال مختلفة خططت لها وكالات المخابرات الإيرانية الثلاثة، والتي لم تكن تستهدف الإسرائيليين واليهود على الأراضي التركية فحسب، بل كانت تستهدف أيضًا تركيا كنقطة انطلاق لعمليات القوقاز، وقد تم الكشف عن تفاصيل بعض هذه العمليات فقط.
كما قامت إسرائيل بممارسة ضغط على فيدان عام 2010، حيث سردت صحيفة هآرتس وقتها مخاوف مؤسسة الدفاع الإسرائيلية من تعيينه رئيساً لجهاز المخابرات الوطنية التركية، لكن الآن، يُنسب إليه الفضل في إعادة بناء العلاقات مع قيادة المخابرات الإسرائيلية، ما فشلت وسائل الإعلام الإسرائيلية في توضيحه هو استمرار اعتراض عمليات الموساد في تركيا.
وخلال فترة ولايته، أصبح فيدان خبيرًا من الدرجة الأولى في الحلبة السياسية الخليجية، فقد كان أول من تلقى اتصالات سعودية تتوسل إليه لدفن قضية الاغتيال الفاشل للصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول.
وكان فيدان أول من تأكد من نشر تسجيلات القتل على الملأ، وأول من أطلع مديرة وكالة المخابرات المركزية جينا هاسبل على ذلك. وبالمثل، فقد كان أول من أعاد العلاقات التركية مع الرجل الذي أمر بقتل خاشقجي، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
حالياً، دبّ الخلاف بين محمد بن سلمان والزعيم الإماراتي محمد بن زايد، لكن الطرفين يرتبطان بعلاقات دافئة ومتنامية مع تركيا، كل هذا من شأنه أن يتحول إلى محاضرة مثيرة للاهتمام في العلوم السياسية بعد تقاعد فيدان. يمكن أن يكون عنوان إحدى جلسات هذه المحاضرة:” كيف تصادق الرجلين اللذين بذلا قصارى جهدهما لقتلي”.
تنتظر فيدان أصعب المهمات، فالنظام العالمي القديم في طريقه إلى النهاية، على الرغم من أن الناتو لا يدرك ذلك على ما يبدو، لكن النظام العالمي الجديد لا يزال بعيدًا عن التكوين.
ما لديك بدلاً من ذلك هو حقل ألغام دبلوماسي كثيف ومفخخ مثل ذلك الذي يواجه القوات الأوكرانية وهي تحاول استعادة الأراضي المفقودة، حيث يسقط المفهوم النموذجي لتقسيم العالم إلى متضادات، كالديمقراطيات مقابل الأنظمة الاستبدادية، عند العقبة الأولى، فلحماية أسلوب حياتها، تتخلص الديمقراطيات الليبرالية من ليبراليتها، لا سيما تجاه الأقليات العرقية، وتصبح أكثر نزعةً إلى التجارة الخارجية، ويكافأ أسوأ منتهكي حقوق الإنسان بعمليات الإنقاذ وصفقات الأسلحة.
إن هذا الموقف يتطلب إدراكاً للفوارق الدقيقة بالإضافة إلى الذكاء والقدرة على الاستماع وتقييم المعلومات، وهو ما يستلزم وجود شخص قد تمرّس على إقامة علاقات شخصية ويمتلك الوسائل اللازمة لصياغة السياسة الخارجية.
كما يتطلب ذلك عقلًا قادرًا على إضفاء صوت وصورة على السياسة الخارجية، وهذا ما هو عليه وزير الخارجية التركي الجديد، فمن الأفضل لوزراء الخارجية الآخرين أن يأخذوه هو وتركيا على محمل الجد.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)