بقلم غادة الحداد
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لطالما حازت القصص التي تدور حول الهروب من السجن، مثل The Shawshank Redemption وThe Great Escape وغيرها، على اهتمام الجمهور بسبب تغذيتها للأدرينالين والعواطف الإنسانية في دواخلنا، لكن لا يزال هناك شح في الأفلام التي تسلط الضوء على الأسير الفلسطيني وتوقه للحرية.
يعد فيلم “الهروب” بنسخته الفلسطينية بمثابة شهادة على إمكانية صمود البشر في رحلة كفاحهم من أجل الحرية
“الهروب” بالنسخة الفلسطينية، فيلم وثائقي جديد للمخرج محمد الصواف، تم إنتاجه بعد قيام أسرى فلسطينيين بست محاولات للفرار من السجون الإسرائيلية شديدة الحراسة بين الأعوام 1987-2004، ويأخذنا الفيلم في رحلة معمقة إلى معنى الحرية لدى هؤلاء الأسرى، من خلال استكشاف ما يدور في نفسية السجين والسجان على حد سواء.
من خلال الفيلم، يمكن تصور عقل السجين مثل الدوامة التي تدور وتدور في محاولة للتعامل مع معضلة رئيسية واحدة، وهي كيفية استعادة حريته المسروقة، شعور وصفه الأسير الفلسطيني المحرر، عماد الدين الصفطاوي الذي اعتقل 18 عاماً، في الفيلم بقوله “أن يتم سجنك هو أسوأ ما يمكن أن يحدث في حياتك”!
يطبق نظام السجون الإسرائيلي اليوم إجراءات عقابية شديدة القسوة أكثر من أي وقت مضى، من أجل جعل سجونه التي تقع في مناطق نائية معزولة أكثر أمناً بالنسبة له، وتشمل الإجراءات الكلاب المدربة على اكتشاف النشاط المشبوه ومعدات المراقبة وأبراج المراقبة، مما يجعل تصور الهروب منها بعيد المنال، ولكن هل تكسر تلك الإجراءات من إرادة الأسرى الفلسطينيين فعلاً؟ لا أعتقد ذلك.
روح إنسانية
يعد فيلم “الهروب” بنسخته الفلسطينية بمثابة شهادة على إمكانية صمود البشر في رحلة كفاحهم من أجل الحرية، فطبيعة النفس البشرية لا تقبل بالسجن والقيد، وعليه لن يقبل الأسرى الفلسطينيون يوماً بالمظالم التي يتعرضون لها.
تلك هي الرسالة التي ينسجها المخرج من خلال القصص والمقابلات والشهادات والمشاهد التمثيلية التي يتضمنها الفيلم، في محاولة لرسم صورة حقيقية لمحاولات الهروب ومعناها، فخلال مشاهدة الفيلم، تم تذكيرنا بحادثة الهروب الشجاعة من سجن جلبوع، حيث فر 6 سجناء فلسطينيين عام 2021، عبر شق نفق للخروج بواسطة الحفر بملعقة، فقد كان ذلك بمثابة تذكير على تصميم من يسعون للحرية مهما كانت القيود.
وفي الفيلم، نستكشف الحرمان الذي عاناه هؤلاء السجناء، والذي يشكل دافعهم الأول للرغبة بالهروب، لم يكن مجرد حرمان مادي أو تقييد الوصول إلى الأغراض والحاجات الشخصية، بل كان كما لخصه، الأسير السابق محمد أبو جاموس، في الفيلم بقوله “حرمت من أبي وأمي وعائلتي وشبابي وضاعت حياتي في السجن”!
يذكرني كلامه بهذه السطور من قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش، والتي تظهر بوضوح التغييرات التي تحدث في حياة الأسير فجأة وتعبر عن الحرمان، حين قال:
تغير عنوان بيتي
وموعد أكلي
ومقدار تبغي تغير
ولون ثيابي ووجهي وشكلي
وحتى القمر
حظ رائع!
ما يجمع خطط الهروب الفلسطينية الست هو أنها كانت مصممة بدقة وإبداع، وباستخدام أدوات بسيطة هي الوحيدة التي يمكن للسجناء الوصول إليها، وتضمنت نشر القضبان الفولاذية لنافذة المراحيض بمنشار مهرب من خارج أسوار السجن، كما تضمنت حالات أخرى قيام سجناء بحفر نفق تحت السرير حتى مرحاض غرفة الزيارة، وارتداء ملابس النساء ليتمكنوا من الهروب مع زيارة العائلات، أو حتى حفر نفق بأدوات بدائية كالمسامير!
في كل الحالات، من المدهش الحظ الرائع والعون الإلهي الذي رافق هؤلاء الأسرى في رحلتهم للحرية، في الفيلم، يروي الصفطاوي كيف نزل ضباب كثيف فجأة يوم هروبه مع زميل له، مما أدى إلى تغطية السجن وتشتيت انتباه الحراس للحظات، يقول “في اللحظة التي بدأت فيها بالتسلق غادرت كلاب الحراسة المكان”.
“من واجبنا مشاركة هذه الروايات في جميع وسائل الإعلام، ليس للترفيه ولكن للتثقيف” – محمد الصواف- مخرج فيلم “الهروب”
لقد كان الأسرى مدركون للمخاطر التي قد يتعرضون لها خلال عملية الهروب، فقد يتم القبض عليهم وإطالة عقوبتهم، أو قد يتعرضون لعقوبات إضافية مثل القيود على الزيارات العائلية، لكن طعم الحرية كان يستحق المجازفة والعناء، فقد كانوا يفضلون القتال على الاستسلام، لقد ضحوا بالكثير من أجل حريتهم.
يذكر الصفطاوي أنه، في أثناء هروبه عام 1987، أصيبت يده بجروح على سياج من الأسلاك الشائكة حول منشأة سجن في غزة، يقول “كانت تلك أكثر اللحظات إيلاماً بالنسبة لي، فمن أجل حريتي كنت سأقطع يدي السجن بواسطة سلك شائك”!
حياة مهدورة
في كثير من الأحيان، وجد السجناء العزاء والدعم من بعضهم البعض من خلال السعي الدؤوب والتفكير الدائم في كيفية الحصول على الحرية، فإذا ما وضع سجين خطة ما، أيده الجميع تقريباً.
أقل ما يمكن تقديمه لأولئك الذين أجبروا على ترك حياتهم وعائلاتهم، هو سرد قصصهم، هذه كانت رسالة مخرج الفيلم محمد الصواف الذي قال “من واجبنا مشاركة هذه الروايات في جميع وسائل الإعلام، ليس للترفيه ولكن للتثقيف”.
في نهاية الفيلم، يسلط المخرج الضوء على كيفية اختزال رغبات السجناء في لقاء أمهاتهم، بحيث تصبح أكبر الأمنيات، وذلك من شدة الشوق، حتى أثر بي موقف أحد الأسرى يطلب من أمه ألا تموتن فأجابته “سأضع في يدي سيفاً حتى إذا جاء ملاك الموت، قلت له ألا يأخذ روحي قبل أن يعود ابني إلى البيت”.
لقد أحببت فيلم “الهروب” حقاً، ومن الضروري الاهتمام بإنتاج المزيد من الأفلام حول تجارب الأسرى الفلسطينيين، فهذا أقل ما يمكن فعله تكريماً لحياتهم ونضالهم، فحياتهم المهدورة وأرواحهم تستحق قراءتها وتحويلها إلى أفلام، كضمانة على عدم إسكات قصصهم وأصواتهم.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)