“غريبة في بلدي”! الرحلة الحلوة المرة إلى أرض الوطن! الفلسطينية فدى جريس تروي قصتها

بقلم ريتشارد ساندرز

ترجمة وتحرير مريم الحمد

إن الأثر الكارثي لنكبة عام 1948 التي تسببت في تشتت الفلسطينيين على يد الإسرائيليين، يضفي على التاريخ الفلسطيني صفة خاصة، فقد كان المجتمع الفلسطيني آنذاك أشبه بجسد ممزق إلى ألف شظية مبعثرة هنا وهناك حول العالم!

تعد القصة التي تمثلها فدى جريس وعائلتها مميزة للغاية، فهي قصة الأقلية التي لن تغادر عام 1948، بقيت في الأرض ولم يتم تهجيرها حتى داخلياً، بقيت في منزلهم في قرية فسوطة المسيحية الجميلة، على بعد أميال قليلة من الحدود اللبنانية.

“خلال ثماني سنوات في إسرائيل، لم أشعر أبدًا بالسعادة ولا بالحرية” – فدىجريس- كتاب “غريبة في بلدي”

ومع ذلك، فتجربتهم مؤلمة، يرويها كتاب تتشابك فيه التعقيدات الشخصية بالسياسية، في قسمين، الأول قصة المؤلف والد فدى والثاني قصتها هي.

التفرقة والتهجير

في الكتاب، ترسم جريس صورة حية عن حياة الفلسطينيين في إسرائيل خلال فترة الخمسينات والستينات، حقبة يعتبرها الإسرائيليون مبهجة فيما يراها الفلسطيني حقبة الحكم العسكري والسلب والتمييز بامتياز.

كانت مجتمعات الفلسطينيين التي صمدت إبان عام 1948، محاصرة بشدة من قبل مستوطنات يهودية جديدة، وفي مفارقة قاسية، فقد اضطر الآلاف من الفلسطينيين إلى البحث عن عمل في مواقع بناء تلك المستوطنات، مما يعني توفير القوة للدولة الجديدة بشكل أو بآخر!

أما فيما يخص التنقل، فقد كان مطلوباً منهم التنقل ضمن نظام معقد من التصاريح أشبه بما كان يسمى “قوانين المرور” السارية في جنوب إفريقيا في نفس الفترة التاريخية!

عام 1995، وطأت قدما فدى جريس إسرائيل لأول مرة في عمر 22 عاماً، بالنسبة لها كان الأمر أشبه بـ “معجزة” 

يمكن القول أن تجربة والد فدى، صبري جريس، تقاطعت في نواحٍ عدة مع تجربة نيلسون مانديلا، فقد ولد في عائلة تعمل بالزراعة، ثم أصبح محامياً، وفي عام 1959 أصبح جزءاً من مجموعة “الأرض”، وهي منظمة سعت للدفاع عن حقوق الفلسطينيين داخل إسرائيل، حتى كتب لاحقاً، “كان أحد أخطاء الأرض الواضحة هو الثقة بالعدالة والديمقراطية الإسرائيليين من ناحية، والتقليل من شأن المفهوم الصهيوني لـ” الأمن “وإلى أي مدى يمكن تفسيره على نطاق واسع عندما يكون ذلك مناسبًا من ناحية أخرى”.

كما وثق الكتاب نقلاً عنه ما كتبه “لقد أثبتت المقاومة السلمية أنها غير مجدية”، الأمر الذي جذبه للانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً بعد احتلال الضفة وغزة عام 1967، مما عرضه للإقامة الجبرية التي هرب منها لاحقاً عام 1970 مع زوجته حنا، حيث استقرا في بيروت وأنجبا فدى عام 1973.

في بيروت، أصبح صبري جريس مديراً لمركز أبحاث فلسطين، الذي كان يُعنى بالحفاظ على السجلات والثقافة الفلسطينية في الشتات.

ألم غير محتمل!

تظهر صفحات الكتاب القوة الهائلة للعلاقات الإنسانية حين تكون بمثابة بلسم وشفاء جزئي للصدمات العاطفية التي يسببها القمع الوحشي في الإنسان، ومع ذلك فلكل شيء ثمن، أحياناً يكون الحزن هو الثمن الذي قد ندفعه مقابل الحب، مثل تجارب معاناة الأقارب الذين انفصلوا وقت الولادة أو المرض أو الموت.

على الرغم من سكنه في بيروت التي لا تبعد سوى ساعتين بالسيارة، لم يكن لدى صبري جريس رابط بريدي أو هاتف للتواصل مع عائلته في قريته فسوطة، لم يتمكن من الاتصال إلا حين وافق رجل دين على تهريب الرسائل عبر الحدود.

في إحدى اللافتات التي رأتها فدى وهي تبحث عن شقة للايجار في مدينة نهاريا الساحلية، كتب “لا للكلاب ولا للعرب”

ثم تأتي الكاتبة إلى جوهر قصتها المتمثل بمقتل والدتها، إلى جانب 27 شخصاً آخر، في هجوم بسيارة مفخخة على مركز أبحاث فلسطين من قبل الكتائب المسيحية المدعومة من إسرائيل، في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام م1982، أما والدها فقد نجا بالصدفة من الحادث!

وبعد مرور أكثر من 40 عاماً على الحادثة، إلا أن الألم بالنسبة لفدى لا يزال صعباً وغير محتمل، فبعد الحادثة انتقلت العائلة إلى قبرص، ليتم اقتلاعها مرة أخرى عند بدء محادثات السلام بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في بداية التسعينات.

لقد كان صبري جريس مستشاراً مقرباً من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والذي تشير الكاتبة إلى كونه قائداً “وطنياً حالماً عبقرياً ماكراً مقاتلاً ورجل سلام، كل الصفات في رجل واحد”.

كان صبري جريس من أوائل الذين دافعوا عن حل الدولتين، وفي نفس الوقت انتقد لاحقاً التسويات غير المجدية التي قام بها عرفات مع الإسرائيليين، ولكن رغم ذلك، كانت عائلته من القلائل التي مُنحت حق العودة إلى ديارهم كجزء من اتفاقات السلام.

عام 1995، وطأت قدما فدى جريس الأراضي المحتلة لأول مرة في عمر 22 عاماً، بالنسبة لها كان الأمر أشبه بـ “معجزة” كما كتبت، فقد قضت أياماً في سكرة الفرح بلقاء العائلة الممتدة في فسوطة، خاصة وأنها تعرفت على الغالبية منهم لأول مرة. 

“لا للكلاب ولا للعرب”!

سرعان ما ظهرت الحقيقة المرة في عنوان الكتاب، فقد كان الاندماج في مجتمع صغير ومحافظ حتماً صعباً، أما التحدي الأكبر فقد كان العنصرية والتمييز في المجتمع الإسرائيلي الأوسع، في إحدى اللافتات التي رأتها فدى وهي تبحث عن شقة للايجار في مدينة نهاريا الساحلية، كتب “لا للكلاب ولا للعرب”، وفي موقف آخر، أخبرها أحد العاملين في متجر لبيع الملابس بسخرية “أنت جميلة جداً، من الصعب أن يظن المرء أنك عربية”.

 تم التخلي ببساطة عن الفلسطينيين بالفعل، خاصة من قبل أولئك الذين يدعون القتال من أجل الحرية وتقرير المصير، الليبراليون الغربيون، فهم مستعدون للانخراط دوماً في الروايات التي تشيطن النضال الفلسطيني وتقلل من شأنه

لاشك أنه قد تم التخلص من القيود الصارمة التي كانت سائدة ضد العرب في القرن العشرين، فجلها قد انتقل إلى الضفة وغزة، ولكن إذا كانت إسرائيل في القرن العشرين تشبه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، فهي الآن أشبه بقوانين “جيم كرو” العنصرية في ولايات الجنوب في الولايات المتحدة الأمريكية!

تعلمت فدى العبرية وتمكنت من العثور على عمل في قطاع البرمجيات، لكنها غالباً ما كانت الفلسطينية الوحيدة في المكتب، وواجهت العنصرية والعداء الصريح في كثير من الأحيان، لا سيما بعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، فعندما هاجمت القوات الإسرائيلية جنين عام 2002، كان عليها تحمل زميلين أمريكيين يرتديان قبعة بيسبول ويضحكان لبعضهما، يقولان “نحن نكرههم يا رجل، ليس لديهم فرصة للنجاة”!

تقول فدى “خلال ثماني سنوات في إسرائيل، لم أشعر أبدًا بالسعادة ولا بالحرية”!

تم التخلي ببساطة!

خلال تلك 8 سنوات، هاجرت فدى لفترة وجيزة إلى كندا، لكنها عادت للعيش في مدينة رام الله بالضفة الغربية بسبب اشتياقها لعائلتها وشعبها، ففي رام الله، رغم وحشية الاحتلال، وجدت فدى مظاهر ترضيها عاطفياً وثقافياً من مظاهر الحياة الفلسطينية.

ويعد كتاب فدى جريس “غريبة في بلدي” مساهمة قيمة في إثراء المذكرات الفلسطينية، تختمه الكاتبة بأبيات الشاعر التونسي، أبو القاسم الشابي، الذي قال ” ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر”.

الصمود الفلسطيني دائماً ما يثير الدهشة، لكن لا يمكن تجنب الاكتئاب الذي يصاحب تلك الدهشة في كثير من الأحيان، فقد تم التخلي ببساطة عن الفلسطينيين بالفعل، خاصة من قبل أولئك الذين يدعون القتال من أجل الحرية وتقرير المصير، الليبراليون الغربيون، فهم مستعدون للانخراط دوماً في الروايات التي تشيطن النضال الفلسطيني وتقلل من شأنه، لمنح رخصة للقمع الإسرائيلي وترك الفلسطينيين دون طريق واضح.

في كتابها أيضاً تتحدث جريس عن تجربة صديق والدها، موسى عاصي، الذي اعتقله الإسرائيليون لمدة 8 سنوات خلال فترة السبعينات، تقول “لقد استخدمت المخابرات الإسرائيلية أساليب استجواب قاسية للغاية، أحدها كان تنفيذ رعشة شديدة على موسى حتى أصيب دماغه بضرر مؤقت وبدأ في الهلوسة”.

تم إطلاق سراح عاصي عام 1978، وعاش حتى عام 2012، لكنه كان قد “فقد أي وعي بنفسه أو بمن حوله، ومات دون أن يعرف مكان وجوده”، لكن ما حصل له يمكن أن يكون بالفعل استعارة مناسبة في وصف ما يتعرض له كل الشعب الفلسطيني من معاملة!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة