لم يكن من السهل على راعي الماشية سليمان نصر، البالغ من العمر 44 عامًا، تفكيك الخيمة التي كانت تؤوي عائلته المكونة من سبعة أفراد، لكنه لم يمتلك خياراً آخر.
كانت مجموعة من عشائر البدو الفلسطينيين، بمن فيهم عائلة نصر، قد نزحت من أراضي النقب التي سيطرت عليها إسرائيل عام 1948 وسكنت ولمدة 45 عامًا في منطقة القابون شرق رام الله، وسط الضفة الغربية المحتلة.
أجبرت هجمات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المستمرة هذه العائلات على ترك أراضي الأجداد مجدداً اليوم.
وتحدث نصر عن كيفية شن المستوطنين لهجماتهم التي تصاعدت بلا هوادة خلال الشهرين الماضيين، والتي بدأت من مستوطنة شيلو الواقعة بين مدينتي رام الله ونابلس، واصفاً تلك الهجمات بـ “الممنهجة”.
وقال: “تتعرض مخيماتنا وماشيتنا فعلياً للاستهداف كل يوم تقريباً، حيث تُلقى الحجارة نحونا، ويتعرض أطفالنا للعنف، وتتلقى نساؤنا الإساءة اللفظية، كما يعتدون علينا بالهراوات والأدوات الحادة بينما يحاولون سرقة ماشيتنا”.
واضطر 36 فرداً من عشيرة الكعابنة فجر الاثنين إلى تفكيك خيامهم وحزم أمتعتهم والانتقال إلى منطقة غير مأهولة تقع بين قريتي المغير وأبو فلاح شرق رام الله، فلم يكن لديهم أي خيار آخر من أجل الابتعاد عن الوجود غير المرحب به لمستوطني شيلو.
ولا يزال هذا النزوح القسري يتكرر، ففي أيار / مايو، أُجبر 78 طفلاً من قرية عين سامية قرب بلدة كفر مالك على المغادرة بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة التي شملت هدم العديد من المنازل بالإضافة إلى المدرسة الوحيدة في القرية.
وأوضح نصر:” لم تكن مغادرتنا للأرض، التي اتخذناها لعقود وطناً، مسألة خيار، بل كانت ضرورة، فالجيش الإسرائيلي والمستوطنون لم يتركوا لنا أي خيار، وللأسف لم نتلق دعماً من أي جهة رسمية أو منظمة شعبية”.
ووفقًا للبدو أنصاف الرُحَّل، فقد اقتحم الجنود خيامهم ومنازلهم المؤقتة مرارًا وتكرارًا، وقضُّوا مضاجعهم بذريعة التفتيش، كما تعرضت عائلاتهم لاعتداءات جسدية في مناسبات مختلفة.
ويتكون هذا التجمع من قرابة 300 فلسطيني يسكنون خياماً وأبنية بدائية من الطين والقصدير.
دفعت ممارسات الجيش الإسرائيلي اليومية والقائمة على اعتبار هذه المباني منشآت غير قانونية جميع العائلات البدوية في شمال شرق رام الله إلى التجمع في مكان واحد.
تنخرط المجتمعات البدوية في الضفة الغربية المحتلة في صراع موحد مع سياسات إسرائيل التمييزية، حيث تجد غالبية هذه العائلات نفسها في المناطق المصنفة C الخاضعة لسيطرة إسرائيل بناء على اتفاقية أوسلو.
إحدى هذه التجمعات تقع في منطقة مسافر يطا جنوب الخليل، حيث تخوض 20 مجموعة مترابطة معركة متواصلة في مواجهة المساعي الإسرائيلية لتهجيرهم من أجل توسيع المستوطنات المحيطة وضم أراضيهم.
“لقد ولدت هنا على هذه الأرض التي أطلق عليها العديد من الأجيال قبلي اسم الوطن، وذلك قبل الاحتلال الإسرائيلي بوقت طويل” – سمير حمامدة
أما بالنسبة لسمير حمامدة (57 عامًا)، فإن الماشية تشكل مصدر العيش الوحيد له ولعائلته، ومع ذلك، فإن الإجراءات الإسرائيلية التي لا هوادة فيها تنغص حياتهم بهدف إرغامهم على التنازل عن أراضيهم.
ويقول حمامدة: “بعد عام 1967، أصبحت الحياة تمثل صراعًا مستمرًا بسبب الاعتداءات الإسرائيلية التي لا تنتهي، نحن صامدون بالعيش هنا، لكنها بالكاد تسمى حياة”.
تجذرت بذور المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في منطقة جنوب الخليل خلال فترة السبعينيات عبر السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، ليمتد التوسع الاستيطاني بعدها نحو المناطق الطبيعية البكر في مسافر يطا، ليتم تحويلها إلى مستوطنات إسرائيلية.
ويقول السكان الفلسطينيون إنهم سيقفون بحزم في مواجهة قرارات المحاكم الإسرائيلية، والتي تقضي بإخلاء المجتمعات البدوية، وردا على ذلك، أطلقت إسرائيل العنان لمستوطنيها وجنودها وشنت حملة قمع لإجبار الفلسطينيين على الرحيل.
وأوضح حمامدة أن “هجمات المستوطنين على أراضينا والاعتداءات المتفرقة أصبحت أمرًا روتينيًا مروّعًا، إنهم يسرقون ماشيتنا، وأحياناً يذبحونها بوحشية”.
وقال أن الجنود والمستوطنين “يعرقلون تحركاتنا ويقيدون وصولنا، بينما يقتحم الجنود مساكننا بحجة مطاردة المهربين ومن لا يحملون التصاريح، لقد أصبح إتلاف الممتلكات والإساءة الجسدية بالضرب والشتم محنتنا اليومية”.
سياسة التطهير
لا يعد الهجوم الإسرائيلي على مناطق البدو ظاهرة جديدة، بل هو معركة ممتدة لسنوات عديدة.
يسلط سهيل خليلية، مدير وحدة مراقبة الاستيطان في معهد الأبحاث التطبيقية في القدس (أريج)، الضوء على خطة طرد السكان البدو في القدس الشرقية، لتمهيد الطريق لإنجاز مشروع E-1 كجزء من مخطط توسيع القدس الكبرى.
وذكر خليلية أن إسرائيل أكدت عبر أكثر من عقدين من الزمن اعتزامها “تطهير مناطق شرق القدس وجنوب الخليل ومحيط وادي الأردن” عن طريق طرد البدو.
وترمي هذه المناورة الاستراتيجية إلى تهجير المجتمعات البدوية وحصرها في جيوب محددة، والواقع يفوق بكثير ما تنقله وسائل الإعلام.
وأضاف خليلية أن “معركة إسرائيل ضد المجتمعات البدوية تتسم بالشراسة وباستخدام اسرائيل كافة التكتيكات الممكن تصورها لطردهم بالقوة “.
وتظهر الإحصاءات التي كشف عنها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة (OCHA) عام 2017 حقيقة صارخة فيما يتعلق بالنزوح القسري المحتمل لـ 46 مجتمعًا بدويًا من وسط الضفة الغربية.
ووفقاً للبيانات، فإن 26 من هذه التجمعات تضم 4856 بدوياً يعيشون ضمن محيط القدس ويعانون من ظروف معيشية مزرية تتسم بالنقص الحاد في الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء ومحدودية الوصول إلى المرافق التعليمية والصحية الأساسية.
وتؤكد البيانات التي قدمتها الأمم المتحدة أن أكثر من 70% من سكان هذه المجتمعات هم من اللاجئين الذين طردتهم إسرائيل عام 1948 من منازلهم الأصلية في جنوب فلسطين المحتلة.
ويعتمد 90% من هؤلاء على رعي الماشية كمصدر أساسي لكسب الرزق، وقد تم وضع علامات على منازل معظمهم تمهيداً لهدمها، حيث يفتقر 85% منهم إلى الماء والكهرباء.
ونوّه خليلية إلى أن المنهجية الإسرائيلية تتضمن مجموعة من الإجراءات المؤلمة بما فيها هدم المنازل والمدارس وقتل الماشية بلا مبرر والتحرش المستمر بالرعاة والمزارعين والحرق المتعمد للمحاصيل والاعتداءات الجسدية العنيفة التي يمكن أن تكون قاتلة وتخريب الآبار وعرقلة بناء البنى التحتية الحيوية.
ترقى هذه الأساليب الممنهجة، حسب أريج، بشكل لا لبس فيه إلى جريمة التطهير العرقي.
وأوضح خليلية:” إن التجمعات البدوية الفلسطينية تقف عائقاً أمام توسيع المستوطنات، لذلك فهي تتلقى هذه الاعتداءات الوحشية دون ذنب”.
وختم:” تعكس الانتهاكات المنهجية التي يتعرض لها البدو في الضفة الغربية الفظائع التي ارتكبت بحق البدو في النقب وبئر السبع في فلسطين المحتلة خلال عام 1948″.