بقلم مها أبو هلال
أقر مجلس الشيوخ الأمريكي، الشهر الماضي، قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2024، وهو مشروع قانون مخصصات يحدد الأولويات العسكرية، ويفرض بشكل دائم قيوداً على محاولات الانتصاف لقضايا الانتهاكات في خليج غوانتانامو.
وكما حدث في السنوات العديدة السابقة، يتضمن مشروع القانون لهذا العام، حظراً على الأموال المخصصة لإغلاق معسكر الاعتقال سيء السمعة، ولنقل الرجال المعتقلين من المعتقل إلى أفغانستان وليبيا والصومال وسوريا واليمن والولايات المتحدة، بالإضافة إلى حظر تعديل السجن.
وبدعمهم لهذه القرارات، يصوت المشرعون الفيدراليون مرة أخرى لصالح إدامة مشكلة غوانتانامو، والعنف الذي اشتهر به، والمسؤولية الجماعية للرجال المسلمين المحتجزين الذين اعتبروا مدانين حتى تثبت براءتهم.
وعلى الرغم من المعارضة المعلنة من البيت الأبيض، يبدو أنه من غير المرجح أن يتم استخدام حق النقض ضد مشروع القانون.
ولم يتخذ الرئيس جو بايدن، الذي قطع وعودًا سابقة بإغلاق المعتقل، أي إجراء للشروع في هذه العملية، بل ورد أنه استثمر ملايين الدولارات العام الماضي في تجديد أجزاء من المنشأة وتحديث قاعة المحكمة الخاصة بها في خطوة وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها تمثل “تراجعاً عن الشفافية في قضايا الأمن القومي السرية في المعتقل”.
وللعام الثاني والعشرين، لا زالت تخضع الانتهاكات وانعدام المساءلة في غوانتانامو للقانون، لكن دون أن تلوح لها نهاية في الأفق.
وبرغم أن الإقرار السنوي لقانون تفويض الدفاع الوطني والتوقيع عليه من جانب الرؤساء المتعاقبين كان سبباً في الحفاظ على الوضع الراهن في غوانتانامو، إلا أن الاعتبارات المتعلقة بالميزانية ليست السبب الوحيد وراء بقاء المعتقل الأبدي قائماً ولم تكن السبب الوحيد أيضاً وراء سيادة الإفلات من العقاب.
قسوة مستمرة
يصادف هذا الشهر مرور 21 عاماً على صياغة مذكرات التعذيب المشينة والتوقيع عليها من قبل مكتب المستشار القانوني الأمريكي، والتي تجيز فعلياً استخدام التعذيب وتسمح للولايات المتحدة بارتكاب جرائم حرب علناً وبلا خجل.
وتنص إحدى المذكرات على أنه كي يُعد إلحاق الألم الجسدي تعذيباً، يجب أن يكون “معادلاً في شدته للألم المصاحب لإصابة جسدية خطيرة، مثل فشل الأعضاء، أو ضعف وظائف الجسم أو حتى الموت”.
وأظهر الرئيس السابق باراك أوباما، عقب نشر المذكرات، حرصاً على الإعلان أنه لن تتم محاكمة أي شخص بناء على هذه الجرائم، لكنه علق بعد بضع سنوات قائلاً: “لقد عذبنا بعض الأشخاص”.
لم تستمر الوحشية في عهد أوباما فحسب، بل زادت القيود المفروضة على قانون تفويض الدفاع الوطني منذ العام 2010.
وأدى هذا التعذيب، بما في ذلك الاعترافات المنتزعة تحت الإكراه والعنف الشديد، إلى اعتبار المعتقلين المتبقين في غوانتانامو في عداد المذنبين، الأمر الذي يعني إدامة معاناتهم المتواصلة، فلا شك أن تقاعس أوباما عن التحرك شكل سابقة للإفلات من العقاب، وهي سابقة سيتم تبريرها مراراً وتكراراً.
وقبل أسابيع فقط من تصويت أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي على مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني ليصبح قانوناً، نشرت الأمم المتحدة تقريراً عن الانتهاكات في خليج غوانتانامو أعدته المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، فيونوالا ني أولاين وكانت أول محقق مستقل تابع للأمم المتحدة يزور المنشأة منذ حوالي 22 عاما.
قدم التقرير المؤلف من 23 صفحة، والذي سلط الأضواء العالمية مجدداً على غوانتانامو، نقدًا لاذعًا لمعاملة الحكومة للمعتقلين الحاليين والسابقين وإدانة شاملة لجرائم الحكومة الأمريكية المنهجية المتمثلة في التسليم غير العادي والاحتجاز التعسفي والآليات المتعمدة لحرمان الأفراد من حقوقهم.
وكتبت المقررة الخاصة أن “العديد من إجراءات الحكومة الأمريكية تؤسس لحرمان هيكلي وعدم استيفاء الحقوق الضرورية لعيش إنساني وكريم، وتشكل على الأقل معاملة قاسية وغير إنسانية ومهينة في جميع ممارسات الاحتجاز في خليج غوانتانامو”.
مع بقاء 30 معتقلاً فقط من بين نحو 800 سجين كانوا محتجزين في المعتقل سابقاً، تحرص ني أولاين أيضًا على معالجة حياة المعتقلين السابقين في مرحلة ما بعد غوانتانامو، حيث لا زالت ظروفهم تحتفظ بقسوة السجن.
وجاء في التقرير: “بالنسبة للعديد من المعتقلين السابقين، فإن تجربتهم الحالية في وطنهم، أو في بلد ثالث، تصبح مجرد امتداد للاعتقال التعسفي في غوانتانامو، حتى أن بعضهم أعرب عن رغبته في العودة”.
لكن تجدد الاهتمام بالجرائم التي ارتكبت في غوانتانامو كان يعني أيضاً تجدد إنكار الحكومة الأمريكية لهذه الجرائم، وعلى الرغم من الانتقادات الرسمية، رفض المسؤولون الأميركيون بكل سرور المراجعة التفصيلية التي أجرتها المقررة الخاصة في رد عام كان من الممكن كتابته بنفس السهولة قبل زيارتها للمعتقل.
وفي انسجام تام مع كامل جهودها الرامية إلى إنكار أعمال العنف في غوانتانامو، لم يكن رد الولايات المتحدة مجرد رفض قاطع للتقرير، بل كان رفضاً رمزياً قوياً، على أعلى المستويات، لمتابعة أي علاجات أو حتى الاعتراف بأي شكل من أشكال المسؤولية عن الضحايا.
ولتحقيق هذا الهدف، أصرت الولايات المتحدة على أنها لا توافق “في جوانب كبيرة على العديد من التأكيدات الواقعية والقانونية”، وأنها “ملتزمة بتوفير معاملة آمنة وإنسانية للمعتقلين في غوانتانامو، بما يتفق تماماً مع القانون الدولي والقانون المحلي الأمريكي”.
وعلى الرغم من شهادات عدد لا يحصى من المعتقلين السابقين وحتى الحراس السابقين في المواقع السوداء في غوانتانامو ووكالة المخابرات المركزية، لا زالت حكومة الولايات المتحدة تكرر تأكيداتها نفسها، ما يُظهر أنه لا يوجد أي شخص أو منظمة لحقوق الإنسان أو هيئة مؤسسية، ناهيك عن شخص لا يتمتع بسلطة فعلية على الولايات المتحدة، يمكنهم أن يدفعوا الولايات المتحدة للرد بشكل مختلف.
ومع ذلك، قالت الولايات المتحدة أنها ستقوم “بمراجعة التوصيات بعناية” و”سوف تتخذ أي إجراءات مناسبة، حسب ما يقتضيه الأمر”.
لكن، ما الذي سيضمن التغيير بالفعل؟ فلطالما تمت إدانة الولايات المتحدة بشكل مستمر بسبب عملياتها في غوانتانامو ومعاملتها للمعتقلين دون جدوى.
وكانت الولايات المتحدة قد خضعت على مدى الأعوام الثلاثة عشر الماضية لثلاثة تقييمات لسجلاتها في مجال حقوق الإنسان بموجب عملية المراجعة الدورية الشاملة، ولفت كل تقرير من هذه التقارير الانتباه مراراً وتكراراً إلى الظروف المسيئة في غوانتانامو وحث على إغلاقه فوراً.
ومقابل كل انتقاد رسمي، أصدرت حكومة الولايات المتحدة رداً تنفي فيه مزاعم المعاملة غير الإنسانية، بينما تبرر سياساتها في غوانتانامو وعدم اتخاذ أي إجراء.
لم تستمر الوحشية في عهد أوباما فحسب، بل زادت القيود المفروضة على قانون تفويض الدفاع الوطني، منذ العام 2010، وخاصة تلك المتعلقة بحظر الأموال المخصصة للإفراج عن معتقلي غوانتانامو ونقلهم.
وكمثل أي رئيس آخر، اختار أوباما عدم استخدام حق النقض ضد مشروع القانون.
واجهة المساءلة
إن سماح الولايات المتحدة أخيراً لمحقق تابع للأمم المتحدة ومختص في شأن التعذيب بزيارة غوانتانامو دون قيود لم يكن بهدف الدعوة إلى المساءلة، بل لتعزيز واجهة المساءلة بعد 22 عاماً من خلال السماح بالزيارة في المقام الأول، فقط للرفض القاطع للوقوع في أي مخالفات.
وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة ليست ملتزمة بالمساءلة، بل بخلق روايات خلافية تجاوزت الحقيقة ببعيد، فإن إفلات الحكومة من العقاب هو جزء لا يتجزأ من البنية الأساسية القانونية للحرب على الإرهاب.
ومن اللافت أن المشرعين الأميركيين، في أعقاب تقرير الأمم المتحدة حول غوانتانامو، سيوافقون على قانون تفويض الدفاع الوطني مرة أخرى بدعم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ويبدو أنه لن يكون هناك أي نقاش سواء في الكابيتول هيل أو في وسائل الإعلام حول البنود المتعلقة بمركز الاعتقال.
ولطالما كان المشرعون الأمريكيون يتباهون، ولسنوات عديدة، بإطالة أمد التعذيب في غوانتانامو، لكن لا يبدو الآن أن هناك حاجة لمعالجة ما أصبح أمراً لا مفر منه.
إذا علمتنا السنوات العشرون الماضية أي شيء، فهو أنه لم تكن هناك أبدًا، ومن غير المرجح أن تكون هناك أي مساءلة عن هذا المشروع الكارثي والمعادي بشدة للإسلام والذي ليس له نهاية يمكن تصورها.
فبقدر ما تزعم الولايات المتحدة أنها تخوض حربًا على الإرهاب، كان معتقل غوانتانامو دائمًا موقعًا تمارس فيه أعمال العنف على الرجال المسلمين، الذين تم تصنيفهم على أنهم إرهابيون لا يمكن إصلاحهم، برغم أن معظمهم لم توجه لهم أي اتهامات مطلقًا، ناهيك عن عدم إدانتهم، ومع ذلك زج بهم في المعتقل وأُلقوا إلى الهاوية تحت مبرر غامض لحماية الأمن القومي.
لقد جعلت الولايات المتحدة حياة هؤلاء الرجال بلا معنى لدرجة أنه أصبح ينطبق عليهم قول المؤرخ أشيل مبيمبي: “لا أحد يحمل أدنى مشاعر المسؤولية أو العدالة تجاه هذا النوع من الحياة، أو بالأحرى الموت”.
بالنسبة لمكان يتم تعريفه بأنه مكاناً “آمناً، إنسانياً، قانونياً، وشفافاً”، يظل سجن خليج غوانتانامو مختلفاً تماماً عن ذلك، فقد تم إنشاؤه تحت بند “حالة الاستثناء”، وهو مكان مبني على انتهاك القانون، ومه هذا، لا يزال يعاقب عليه القانون، على نحو متناقض، لدرجة أن المعتقل السابق نزار ساسي كان قد وصفه بأنه مكان “لا يحق لك فيه التمتع بحقوق”.
وبدلاً من تخصيص الأموال اللازمة لإدامة الانتهاكات في غوانتانامو، يتعين على المسؤولين الأميركيين أن يستجيبوا لمطالب المقررة الخاصة بتقديم التعويضات لضحايا هذه الانتهاكات، ويتعين على الولايات المتحدة أن تغلق السجن وتعترف بالعنف الذي أطلقته هناك، وإلى أن تفعل ذلك، فإن أي قدر من الإنكار لن يتمكن من إخفاء حقيقة خليج غوانتانامو، الذي سيظل دائماً شوكة في خاصرتها.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)