بقلم بيتر أوبورن
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الوحشي على المصلين الفلسطينيين داخل المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلة في إبريل الماضي، دعا وزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، “جميع الأطراف إلى احترام ترتيبات الوضع الراهن للأماكن المقدسة في القدس ووقف الأعمال الاستفزازية”.
خلص شامبروك إلى أن الحكومة البريطانية قدمت بالفعل وعداً للشريف حسين بإعطائه فلسطين، كما أوضح بأن البريطانيين كذبوا بشأن ذلك منذ البداية
لم يكن من الصعوبة بمحل استنتاج أنه لم يكن هناك سوى معتدٍ واحد في الأقصى، وهو إسرائيل، كان كليفرلي يعلم ذلك، كما كان يعلم أن اتفاق الوضع الراهن يضع مسؤولية الأمن الداخلي في الأقصى على عاتق ملك الأردن عبد الله الثاني، فاتفاق الوضع الراهن لا يعطي أي دور للقوات الإسرائيلية داخل المسجد، ومع ذلك، لم يتردد في إصدار تصريحه الكاذب!
تعد مراوغة كليفرلي مطابقة لما تحدث عنه مؤرخ الشرق الأوسط، بيتر شامبروك، في كتابه الجديد بعنوان “سياسة الخداع: بريطانيا وفلسطين 1914-1939″، حيث وضع خداع كليفرلي في سياقه التاريخي المأساوي، موضحاً أن سياسة كليفرلي المضللة لما حدث داخل الأقصى تضاف إلى سيل من التصريحات الكاذبة وغير المتوازنة من قبل مسؤولين بريطانيين.
في كتابه، يبين شامبروك كيف كذبت بريطانيا بشأن نواياها حول فلسطين منذ البداية، مما يعد جزءاً من انعدام الأمانة البريطانية بما يتعلق بفلسطين منذ أكثر من قرن.
البريطانيون والدولة العثمانية
يعود كتاب شامبروك في كتابه إلى زمن الصفقة التي أبرمها شريف مكة آنذاك مع الإمبراطورية العثمانية بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، فقد كانت بريطانيا آنذاك أعظم قوة في العالم، لكنها كانت تخشى من فقدان “ممتلكاتها” بعد وقوف العثمانيين مع ألمانيا في الحرب.
عندما صد العثمانيون الغزو البريطاني على تركيا عام 1915، تحولت آمال بريطانيا إلى يأس، فبعد ما اعتبره البريطانيون كارثة، رأوا أنه لم يكن أمامهم خيار سوى عقد صفقة مع الحسين بن علي، شريف مكة الذي مثل السلطة الدينية الرئيسية للعتبات الإسلامية المقدسة، بسبب عودة نسبه للرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
كانت بنود الصفقة بسيطة، أن يقود الشريف ثورة عربية ضد العثمانيين، مقابل قيام بريطانيا بمنحه دولة عربية واسعة النطاق بعد هزيمة العثمانيين، وتم تكليف السير هنري مكماهون، المندوب السامي في مصر، بمراسلة شريف مكة.
سنة 1920 هي السنة التي تم فيها اختراع ولاية دمشق، فقد أصبح هناك حاجة للتكيف مع الواقع السياسي الجديد لحكومة لويد جورج، التي كانت مصممة على تنفيذ آلية سياسية جديدة مؤيدة للصهيونية في فلسطين
في كتابه، يروي شامبروك قصة مراسلات شريف ومكماهون، والتي تبين فيها أن بريطانيا لم تقبل قط أن تكون فلسطين ضمن المنطقة التي وُعد بها الشريف، وهو موقف حظي بدعم أكاديميين مثل البروفيسور أشعيا فريدمان في كتابه “فلسطين: الأرض الموعودة مرتين؟” والذي صدر قبل 23 عاماً، بالإضافة إلى رواية إيلي خضوري “المتاهة الأنجلو- عربية” في عام 1976.
يدحض شامبروك، من خلال بحثه بين الأوراق والسجلات، ما توصل إليه خضوري وفريدمان، وخلص إلى أن الحكومة البريطانية قدمت بالفعل وعداً للشريف حسين بإعطائه فلسطين، كما أوضح بأن البريطانيين كذبوا بشأن ذلك منذ البداية، من بينهم ديفيد لويد جورج، وآرثر بلفور وجورج كرزون ووينستون تشرشل وغيرهم في وزارة الخارجية، ممن أدلوا بتصريحات مضللة.
استغلال مثير للسخرية
كان من جملة الخداع البريطاني الذي ظهر في مراسلات الشريف ومكماهون، التفسير المضلل لكلمة “مناطق” والتي كانت تعني “ولاية” باللغة العربية، وهو مشابه لاستخدام الأتراك لكن كان لها معنى مختلف لديهم، وهو أمر استغلته وزارة الخارجية البريطانية لاستبعاد فلسطين من المنطقة المخصصة للشريف، فكيف ذلك؟
في عام 1920، اخترعت وزارة الخارجية البريطانية “ولاية دمشق” العثمانية، التي امتدت حتى 300 ميل جنوب خليج العقبة، فهي لم تكن بهذا الشكل من قبل على أرض الواقع، فقد كانت المناطق العثمانية دقيقة للغاية من الناحية الجغرافية، فالولاية التي اخترعها البريطانيون كانت في الواقع ولاية سوريا.
كانت تلك الحقيقة واضحة ليس للعثمانيين فقط، وإنما لدى جميع القوى العظمى آنذاك، حتى على الخريطة التفصيلية التي استخدمها الجنرالات البريطانيون في المكتب الحربي في لندن أثناء تخطيطهم لهزيمة العثمانيين!
إضافة إلى ذلك، فقد أثبت شامبروك أن مكماهون كان يتعمد استخدام الكلمات بشكل مضلل في مراسلاته، فقد كان يعرف الفرق تماماً بين ما تعنيه كلمة ولاية في العربية وفي التركية، خاصة وأنه استخدمها في مواضع أخرى بشكل صحيح، ولو حدد في رسالته أنه يقصد كل المنطقة الواقعة غرب ولاية سوريا، لكانت فلسطين كلها قد استُبعدت من الصفقة التي أبرمها مع الشريف حسين، لكنه لم يفعل.
نكث الوعد
من الجدير بالذكر أن مكماهون عرض تلك الحقائق في رسالة توضيحية أُرسلت بعد يومين إلى وزارة الخارجية، أطلع فيها المسؤولين في لندن أنه استبعد السواحل الشمالية لسوريا، أي لبنان الحالية، من عرضه للشريف، وذلك لا يشمل فلسطين!
يؤكد شامبروك في كتابه على أن تلك الرؤية التي كانت مقبولة لدى صناع القرار والعسكريين والدبلوماسيين البريطانيين حتى عام 1920، السنة التي تم فيها اختراع ولاية دمشق، فقد أصبح هناك حاجة للتكيف مع الواقع السياسي الجديد لحكومة لويد جورج، التي كانت مصممة على تنفيذ آلية سياسية جديدة مؤيدة للصهيونية في فلسطين.
“وفي الشرق الأوسط، حيث تفاقمت آثار تلك الجروح لفترة طويلة، فإن اعتراف الحكومة البريطانية، ولو كان متأخراً، بالحقيقة المتعلقة بالتعهد الذي قدموه لشريف مكة سيكون موضع ترحيب بالتأكيد” بيتر شامبروك- صاحب كتاب “سياسة الخداع: بريطانيا وفلسطين”
منذ تلك اللحظة، وعلى مدار 20 عاماً تلت، رفضت بريطانيا نشر مراسلات الشريف ومكماهون في 24 مناسبة منفصلة، وذلك أن المسؤولين البريطانيين كانوا يعلمون أن سيكون من المستحيل الدفاع عن الوعد المتعلق بفلسطين، مما أدى إلى توتر العلاقات الأنجلو- عربية في الفترة بين الحربين العالميتين.
يكشف شامبروك أيضاً عن السبب الوحيد الذي جعل البريطانيين ينشرون المراسلات في نهاية المطاف عام 1939، وهو إبقاء العالم العربي في خندق بريطانيا وهي مقبلة على حرب عالمية جديدة.
لا عجب إذن أن المؤرخ الكبير أرنولد توينبي، الذي كان مسؤولاً في وزارة الخارجية خلال الحرب العالمية الأولى، كتب فيما بعد أن “فلسطين لم تكن مستثناة من المنطقة التي وعدت فيها الحكومة البريطانية عام 1915″، وعليه فإن وعد بلفور، الذي أُبرم عام 1917، كان يتنافى مع التزام سابق، وأشار توينبي إلى أن ذلك الخداع “يكاد يكون أسوأ جريمة يمكن أن يرتكبها دبلوماسي محترف، لأنه يضر بسمعة بلده بتلك الطريقة”.
جروح تفاقمت آثارها
يعد كتاب شامبروك إنجازاً تاريخياً كبيراً، فقد حل لغز اتفاق شريف ومكماهون، كما دحض الرواية البريطانية التي دامت قرناً من الزمان مدعية أن فلسطين كانت مستبعدة من الاتفاق مع الشريف، والفكرة التي روج لها أكاديميون مثل ألبرت حوراني ومارتن جيلبرت، ومفادها أن حقيقة الاتفاق كانت غامضة.
أظهر كتاب شامبروك أيضاً أن مراسلات الشريف مع مكماهون كانت ذات وزن قانوني أكبر من وعد بلفور الشهير للمجتمع اليهودي، والذي كان أقرب إلى بيان نوايا وليس اتفاقاً رسمياً بين طرفين.
وعلى عكس البريطانيين، فقد نفذ الشريف حسين ما عليه من الاتفاق، وقاد ثورة ضد الحكم العثماني في الحجاز، واضطر بعد ذلك الشعب الفلسطيني إلى التعايش مع عواقب كل ذلك منذ ذلك الحين!
يختتم شامبروك كتابه بدعوة بريطانيا للاعتراف بوعدها الذي نكثت به، حيث يقول “إن تضميد جراح التاريخ يتطلب الاعتراف بالخطأ واستعداد جميع الأطراف لتحمل المسؤولية عن السياسات التي اتبعوها”، وأضاف “وفي الشرق الأوسط، حيث تفاقمت آثار تلك الجروح لفترة طويلة، فإن اعتراف الحكومة البريطانية، ولو كان متأخراً، بالحقيقة المتعلقة بالتعهد الذي قدموه لشريف مكة سيكون موضع ترحيب بالتأكيد”.
للاطلاع على النص الأصلي: هنا