بقلم عاينه خان
ترجمة وتحرير مريم الحمد
تم اختراع أول شريط كاسيت على يد المهندس الهولندي الذي كان يعمل لدى شركة فيليبس، لو أوتنز، قبل 60 عاماً، تحديداً عام 1963، حيث ظهر لأول مرة في معرض في برلين، وبعد بيع أكثر من 100 مليار شريط كاسيت حول العالم، لم يعد الناس مضطرين إلى شراء التسجيلات أو الاستماع إلى محتوى عليه رقابة أو حراسة من قبل شركات التسجيل ومحطات الراديو، فقد أحدث هذا الجهاز الرخيص بحجم الجيب ثورة أعطت الناس شعوراً بقوة الوصول للآخرين لأول مرة.
كان تأثير الكاسيت ملموساً في الشرق الأوسط بشكل كبير، ففي العالم العربي كان أكثر من مجرد وسيلة للاستماع إلى الموسيقى، فقد تحول إلى وسيلة ثقافية وسياسية وحتى دينية، تخلد الموسيقى وتنشر المعرفة وتدعو إلى الثورة، وترتبط الأحبة في الغربة عبر رسائل يبعثونها عن طريق الكاسيت.
مع بدء أحداث الغزو العراقي للكويت عام 1990، دفعت حرب الخليج لاحقاً الملايين من العمال المهاجرين إلى العودة إلى ديارهم، فأخذ العمال المصريون معهم الأساسيات فقط، التي أجهزة التسجيل منها!
في مصر على وجه التحديد، انتشرت تكنولوجيا أشرطة الكاسيت بسبب السفر عبر الحدود خلال فترة الطفرة النفطية، أي عندما أصبحت الهجرة عادة شعبية ارتبط خلالها الكاسيت كرمز للحراك الاقتصادي المتصاعد.
يقول مؤلف كتاب “إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة”، أندرو سايمون، أن “فجر ثقافة الكاسيت تزامن على نطاق أوسع مع بداية الاستهلاك الشامل في مصر، ليس فقط على خلفية الطفرة النفطية، ولكن أيضًا على خلفية الانفتاح الاقتصادي في الفترة من 1971 إلى 1980″، وأضاف “لقد كان عدد المصريين الذين يتنقلون أكثر من أي وقت مضى، وكانت إحدى الأشياء التي اشتروها في كثير من الأحيان من الخارج هي مشغلات الكاسيت، إلى جانب المراوح الكهربائية”.
في سبعينيات القرن العشرين، كانت الإذاعة المصرية تحت سيطرة الدولة منذ تأسيسها عام 1934، فكان مما أثار استياء لجان الفحص المسؤولة عن تصفية المحتوى ليوافق المعايير المطلوبة أنه “بشكل مفاجئ صار بإمكان أي شخص تسجيل صوته والوصول إلى الجمهور المستهدف أي جمهور جماهيري” على حد وصف سايمون، موضحاً أنه تم تهريب الكثير من تكنولوجيا الكاسيت عبر الحدود المصرية، حيث يقول “سواء كان ذلك بين النخب أو الطبقة العاملة، فأشرطة الكاسيت كانت في الواقع تكنولوجيا تجاوزت الطبقات”.
مع بدء أحداث الغزو العراقي للكويت عام 1990، دفعت حرب الخليج لاحقاً الملايين من العمال المهاجرين إلى العودة إلى ديارهم، فأخذ العمال المصريون معهم الأساسيات فقط، التي أجهزة التسجيل منها!
كان من أول المطربين الشعبيين الذين اشتهروا مع ظهور الكاسيت، أحمد عدوية، الذي باع من شريطه الأول “الصح الدح أمبو” عام 1973 مليون نسخة تقريباً
كما وجد مشغل الكاسيت، الذي يعتبره سايمون ملخص “اقتصاد الرغبات” في السبعينات، طريقه إلى جلسة تصوير للرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، الذي اغتيل في عرض عسكري متلفز عام 1981، ففي صورة نشرتها صحيفة أخبار اليوم المصرية، يظهر السادات متكئاً على كرسي يرتدي نظارة شمسية ويستمع إلى مشغل كاسيت، فيقول سايمون معلقاً “على الرغم من أن السادات كان من نخبة المجتمع المصري، كونه رئيسًا للدولة، إلا أن الهدف الأساسي من جلسة التصوير تصويره على أنه مصري عادي”.
الكاسيت وسيلة المطربين الشعبيين
لقد أدى ظهور الكاسيت إلى تمكين المواطن المصري العادي من المساهمة في الثقافة ونشرها في مصر، من خلال الموسيقى الشعبية التي تُعزف بالحفلات أو زوايا الشوارع أو المركبات، فقد وجدت موطئ قدم لها في أشرطة الكاسيت التي لم تكن تحاصرها محطات الإذاعة التي كانت ترفض بث تلك الموسيقى وتسميها “المبتذلة”.
كان من أول المطربين الشعبيين الذين اشتهروا مع ظهور الكاسيت، أحمد عدوية، الذي باع من شريطه الأول “الصح الدح أمبو” عام 1973 مليون نسخة تقريباً، رافق ذلك دعاية في محاولة لتشويه سمعة المطربين الشعبيين الذين يغنون من يوميات المصريين، في الصحافة المصرية، بحسب سايمون.
عملت الصحافة على قلب التعليقات، فكان ذلك إيذاناً بـ “سقوط الموسيقى وموت الذوق العام ونهاية الثقافة الرفيعة” كما يقول سايمون، موضحاً أنه “من وجهة نظر النقاد الثقافيين، لم يكن للناس العاديين في السبعينيات والثمانينيات أي عمل في صنع الثقافة المصرية، يجب أن يكونوا مستهلكين للثقافة، وليس منتجين للثقافة”.
ويذكرنا التشهير بالمطربين الشعبيين بالسبعينات بالانتقادات الأخيرة لأغاني المهرجانات، الموسيقى الشعبية الالكترونية التي حصدت ملايين المشاهدات على موقع يوتيوب وساوند كلاود، حيث وُصف هذا النوع عند بداية ظهوره في المناطق الأفقر في مصر، بأنه “غير أخلاقي”، حتى حُكم على أحد نجوم المهرجانات بالسجن عاماً كاملاً بتهمة “الاتجار بالبشر” في مصر.
رقمنة تسجيلات الكاسيت
في السنوات الأخيرة، حظيت أشرطة الكاسيت بشعبية متجددة بين الأجيال الشابة التي تكتشفها لأول مرة فعلياً، فمع استمرار الحرب الأهلية والاحتلال والتقنيات المتغيرة في العالم العربي، أصبح الكاسيت مصدراً غنياً للحنين والتاريخ خاصة لأولئك الذين يعيشون في الشتات، حيث قاموا بتحويل الذخيرة الموسيقية والأعمال الفنية إلى صيغة رقمية قبل نسيانها.
ويعد أرشيف الكاسيت السوري أحد المشاريع التي تحاول الحفاظ على عصر الكاسيت حاضراً في العالم العربي، وهو عبارة عن مجموعة من التسجيلات الممتدة من السبعينات حتى العقد الأول من القرن 21، وتتضمن أشرطة كاسيت وموسيقى عراقية أنشأها المنتج مارك جرجس، الذي بدأ تجميع الأرشيف من مئات أشرطة الكاسيت التي اشتراها من محلات الموسيقى والأكشاك حول سوريا قبل بدء الحرب الأهلية.
يشمل أرشيف جرجس مجموعة متنوعة من الدبكة وموسيقى البوب الشعبية والكلاسيكية والحفلات الموسيقية الحية وحفلات الزفاف والألبومات المنتجة في استديوهات وحتى موسيقى الأطفال.
أهم ما بقي من إرث الكاسيت هو الأهمية العاطفية التي يحملها حتى يومنا هذا، فقبل ظهور الرسائل الصوتية على واتساب بسنوات طويلة، كانت لأشرطة الكاسيت لدى العرب المهاجرين عن أوطانهم قيمة عاطفية كبيرة كوسيلة للتواصل
ويعد مشروع “مجاز”، الذي يمثل شركة تسجيل ومنصة بحثية يديرها فلسطينيون من تأسيس مؤمن سويطات، أرشيفاً آخر للأشرطة النادرة من فلسطين، تم الحصول على الكثير من محتواها من شركة تسجيل كانت في جنين ما بين الستينات وحتى نهاية التسعينات، فيها مزيج من المقطوعات الثورية وأغاني التحرير والانتفاضة وتسجيلات حفلات الزفاف البدوية والفلاحين، وحتى موسيقى الفانك والجاز الثقيلة في الثمانينات.
أما الفنان البصري ومصمم الجرافيك المصري المقيم في السويد، عمرو حميد، فهو مؤسس أرشيف الكاسيت المصري، حيث تحتوي مجموعته على ما يقارب 7 آلاف كاسيت، جميعها موسيقى من مختلف مناطق مصر، وحتى تسجيلات شخصية، فقد نشأ اهتمام حامد بالفكرة من علبة لأشرطة الكاسيت عثر عليها بالصدفة في منزله!
يقول حميد عن الكاسيت “كانت هذه الوسيلة الوحيدة التي كانت لدينا في ذلك الوقت في بداية التسعينيات، كان الأمر كله يتعلق بالموسيقى، ولكن عندما كبرت بعد بضع سنوات من دراستي في كلية الفنون الجميلة، بدأت أنظر إلى أغراضي، واكتشفت أن لدي صندوقًا مليئًا بأشرطة الكاسيت، فتساءلت من صمم هذه الأشياء الجميلة؟” تصميمات؟’ كان من الصعب حقًا العثور على إجابات، لذا كانت هذه بداية المشروع”.
تمكن حميد من التعرف على بعض الفنانين من خلال نشر أغلفة أشرطة الكاسيت على انستغرام وسؤال المتابعين عنها، كما تمكن من تكوين متابعين جدد من زملائه المتحمسين، فقد ظهرت على بعض الأغلفة شخصيات مثل محمود الخطيب أو “بيبو”، لاعب كرة القدم الأسطوري للنادي الأهلي، بالإضافة إلى صور للمطرب الشعبي أحمد عدوية أمام أهرامات الجيزة.
كان الكاسيت أيضاً وسيلة هامة للتوعية والثقافة السياسية في المنطقة العربية، ففي أيام ما قبل الإنترنت عام 1978، قاد آية الله الخميني ثورة كاملة في إيران، وذلك باستخدام أشرطة الكاسيت التي سجل عليها خطباً رنانة من منفاه في قرية هادئة غرب باريس، تم بيع الأشرطة في أوروبا وتسليمها إلى إيران قبل عودته في فبراير عام 1979.
وفي أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، برزت أغاني حزب الله والخطب التقليدية لزعيم الحزب، حسن نصر الله، وتم بيعها على نطاق واسع.
ووفقاً للأكاديمي الأمريكي، إريك شوي، فقد أدت الهواتف وأجهزة التسجيل إلى شكل من أشكال “الإحياء الديني” في البلدان ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط.
رسائل أشرطة الكاسيت
بعد مرور 60 عاماً على اختراع الكاسيت، ربما يكون أهم ما بقي من إرثه هو الأهمية العاطفية التي يحملها حتى يومنا هذا، فقبل ظهور الرسائل الصوتية على واتساب بسنوات طويلة، كانت لأشرطة الكاسيت لدى العرب المهاجرين عن أوطانهم قيمة عاطفية كبيرة كوسيلة للتواصل.
تذكر الأستاذة اللبنانية في جامعة غرينتش في لندن، رانيا عبد الحافظ، أنها عندما كانت 11 عاماً، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وهي الحرب التي خلفت أكثر من 120 ألف قتيل وأجبرت مليون شخص على الفرار من البلاد، اضطرت لترك مدرستها الداخلية في بيروت والالتحاق بوالدها في أبو ظبي.
لم تتمكن عائلة رانيا من رؤية أهلهم في لبنان لمدة عامين، ولم تكن حتى الاتصالات الهاتفية سهلة في ذلك الوقت، تتذكر رانيا بوضوح كيف كانت تنزعج من صوتها في رسالة مسجلة أرسلتها عائلتها إلى جدتها وخالتها وأعمامها الذين كانوا لا يزالون في لبنان، تقول “لم تكن أشرطة موسيقية، بل كنا نتحدث فقط، كنا نقول أشياء مثل “نحن نفتقدكم، كيف حالكم؟ دعونا نسمع منكم”.
لاحقاً، مع توقف الخدمات البريدية بسبب الحرب، أرسلت عائلة حافظ رسائلها على أشرطة كاسيت مع أي شخص كان مسافراً إلى لبنان، حيث تقول رانيا “ربما كانت جدتي متحفظة قليلاً في قول الكثير، أتذكر ربما بضع كلمات منها، حيث كانت التكنولوجيا جديدة للغاية بالنسبة لها، لكن عمتي كانت تتحدث أكثر”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)