بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
بعد زيارة للإمارات في أوائل سبتمبر، أوضح مسؤولون أمريكيون وأوروبيون أن الزيارة “كانت جزءاً من جهد أوسع مع دول شريكة لمناقشة العقوبات وغيرها من التدابير لإبقاء القطع الالكترونية بعيدة”، وهنا كانوا يقصدون الأيدي الروسية.
في المقابل، صرح الإماراتيون بالقول أن الزيارة كانت فرصة لتسليط الضوء على “إطار مراقبة الصادرات” والمقصود الإماراتية بالطبع!
لم يكن أحد ليخمن أن وراء التصريحات زيادة 7 أضعاف من صادرات القطع الإلكترونية الإماراتية إلى روسيا، لتصل مؤخراً إلى 283 مليون دولار تقريباً، وفقاً لبيانات الجمارك الروسية، ففي عام 2022 وحده، زادت صادرات الإمارات من الرقائق الإلكترونية بأكثر من 15 مرة، مقارنة بالعام 2021، و158 طائرة بدون طيار، إلى روسيا.
لقد أدى هرب النخبة الروسية من العقوبات الأمريكية إلى تضخم سوق العقارات في دبي، حيث تم إيقاف أكثر من 100 طائرة في مطار دبي، بما فيها طائرة بوينج 787 دريملاينر التي تبلغ قيمتها 250 مليون دولار ويملكها مالك نادي تشيلسي السابق رومان أبراموفيتش، وذلك بسبب منع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتأمين تلك الطائرات أو صيانتها، كما أدى توافد المهاجرين الروس الأغنياء إلى إغراق السوق المحلية الإماراتية بالأموال، وزادت تدفقات العملات الأجنبية 20% شهرياً منذ مايو 2022، بحسب أرقام شركة كابيتال إيكونومكس.
أما الطفرة الهائلة التي شهدتها التجارة الروسية فتمثلت في اتجاهين رئيسيين، أولهما أن الإمارات اشترت 60 مليون برميل من النفط الروسي خلال عام 2022، وهو رقم قياسي، كما اشترت 4 مليارات دولار من الذهب الروسي، في قفزة مذهلة من 61 مليون دولار في عام 2021.
كل هذا دعا مساعدة وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب والجرائم المالية، إليزابيث روزنبرغ، إلى القول بأن الإمارات يجب أن “تكون محط تركيز وتحقيق” فيما يتعلق بعلاقاتها بروسيا، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يشعران بالذعر بالفعل حين يتعلق الأمر بعلاقات أبو ظبي وروسيا.
عندما ينظرون إلى الشبكة العنكبوتية التي نسجها محمد بن زايد، لا تقلقهم العلاقات الإماراتية مع الأجزاء الغربية أو الشرقية أو الجنوبية، لكن قلقهم يزداد حين يتعلق بروسيا في الشمال، ويعتبرونها مهددة لمصالحهم الغربية، ومضرة بالاستقرار الإقليمي، تماماً كما يخشون من قائمة الانتظار المتزايدة للمهاجرين من تونس وليبيا!
لعبة النفوذ والقوة
في اليمن، تتمثل سياسة الإمارات في فصل الشمال عن الجنوب، والسيطرة على ميناء عدن وعلى جزيرة سقطرى، فقد أدى دعم الإمارات للمجلس الانتقالي الجنوبي إلى منحها امتياز السيطرة على العديد من الموانئ والجزر اليمنية، مما مكنها من الوصول إلى مضيق باب المندب والقرن الإفريقي بشكل أسهل.
وتعارض الإمارات، بسياستها هذه، مصالح جارتيها، السعودية وعُمان، فقد أعلنت الرياض انتهاء محادثات سلام مع الحوثيين بهدف إنهاء الحرب، أدت إلى حفاظ السعوديين على وجودهم في أقصى شرق جنوب اليمن كمنطقة عازلة بين الانفصاليين المدعومين من الإمارات وعُمان، مما يعني أن السعودية وعُمان باتا يشعران بالتهديد الإماراتي!
لم تفعل الحكومة الأمريكية أي شيء حتى الآن لتقويض محمد بن زايد بشكل جدي، رغم أنه عنصر محوري في كل تلك الفوضى، فالإمارات تواصل شراكتها طويلة الأمد مع واشنطن، رغم أن أموال بن زايد ومخططاته وأسلحته هي السبب الأهم في تدمير تلك الدولة الواحدة تلو الأخرى، كما أن لوكلائه جميعاً تاريخ مسيء في انتهاكات حقوق الإنسان!
من المؤكد أن التنافس الإماراتي السعودي في اليمن يدور حول الموانئ والنفط وليس الناس أو استقرار اليمن، فقد ذكرت تقارير سربتها قناة الجزيرة عام 2018، أن الرياض خططت لبناء خط أنابيب لنقل النفط السعودي إلى منطقة “نشطون” على الحدود العُمانية متجاوزاً بذلك مضيق هرمز، مما قد يؤثر على شبكة النقل الإماراتية.
أما في السودان، فقد دعمت الإمارات محاولة محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، الاستيلاء على السلطة في 15 أبريل الماضي، فقد بدأ الصراع بسبب محاولات دمج قوات الدعم السريع، التابعة لحميدتي، في الجيش النظامي، وبدأ النزاع الفعلي بعد قيام قوات الدعم السريع بمحاولة تقييد قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، بقبو منزله، في محاولة للاستيلاء على السلطة.
في نهاية المطاف، فشل انقلاب حميدتي، كما فشلت معظم الانقلابات التي دعمها الإماراتيون في المنطقة، لكنها لم تمضِ دون أن تشعل حريق حرب أهلية شرسة في السودان أدت إلى مقتل 4 آلاف شخص وتشريد 4.5 مليون سوداني.
في ليبيا، فشل خليفة حفتر، أمير حرب آخر تدعمه الإمارات، في محاولة للاستيلاء على العاصمة طرابلس عام 2019، ومنذ ذلك الحين بقيت ليبيا منقسمة، وضعفت قوة جميع الأطراف في التركيبة الليبية المعقدة، الأمر الذي كان ضرره الأكبر على الشعب الليبي، وقد تجلى مؤخراً في انهيار السدود الأخير، مما ترك الليبيين في مواجهة فيضانات عاتية اجتاحت منطقة درنة في الجانب الذي يسيطر عليه حفتر.
الحقيقة أن ما حصل في ليبيا يؤكد على أن المغامرات الخارجية دائماً ما تكون أولى مما تحتاجه البلاد من إصلاحات محلية، مثل الحفاظ على البنية التحتية مثلاً أو إصلاحها، فلم تتردد زوجة رئيس برلمان شرق ليبيا، عقيلة صالح، بوصف دمار درنة بأنه “قدر” فحسب!
من جهة أخرى، فقد قام حفتر بدعم حميدتي، وذلك ضد رغبة المصريين الذين دعموا حفتر سابقاً في محاولته السيطرة على طرابلس، فقد أشار عضو مجلس الدولة الليبي، سعد بو شرادة، إلى أن القوات التابعة لحفتر كانت تنقل الإمدادات العسكرية جواً من أراضيها إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، ثم بالسيارات من هناك إلى الداخل السوداني.
لا يهتم بن زايد كثيراً بالتكلفة البشرية التي تكلفها حروبه، من مصريين وليبيين وسودانيين ويمنيين، فلعبته هي السيطرة والنفوذ والقوة، وأن يظل العنكبوت التي يتوسط الشبكة وينسج خيوطها الممتدة
وإذا ما توقفنا عند جمهورية إفريقيا الوسطى، فالوضع العسكري أكثر اضطراباً، خاصة بعد خسارة مجموعة من المقاتلين القادة في سقوط طائرة يفغيني بريغوجين، كما تكبدت مجموعة فاغنر المزيد من الخسائر محلياً في دعمها للرئيس فوستين أورشانج تواديرا لولاية ثالثة، وعندما خسر الدعم الروسي، لجأ تواديرا مرة أخرى إلى المستعمرين الفرنسيين.
يقول المتحدث باسم اتحاد السلام المعارض، عبده بودا، “إن فاغنر وحكومة جمهورية أفريقيا الوسطى حريصون على تأمين وضع حليفهم حميدتي في السودان، لذلك دعموا قوات حميدتي بكميات كبيرة من الأسلحة”، في المقابل، تنفي حتى اللحظة، قوات الدعم السريع، تلقيها أي مساعدة خارجية، ولكن من يصدقها؟ فوجود القنابل الحرارية التي اشترتها الإمارات في أيدي قوات الدعم السريع يؤكد زيف ذلك!
مركز الفوضى والدمار
هناك شيء واحد يربط هذه الصراعات ببعضها، ويربط الإمارات بكل منها، وهو الذهب، فقد قام حميدتي بتكوين ثروة شخصية ضخمة من خلال نهب مناجم الذهب غير القانونية في السودان وشحنها إلى سوق الذهب في أبو ظبي، حيث يقوم شقيقه عبد الرحيم دقلو بإيداع أموالهما.
تقول وزارة التعدين السودانية أن 80% من الذهب السوداني يتم تصديره بطريقة غير قانونية، والواقع أن معظم تلك التجارة تمر عبر أبو ظبي، المركز الرئيسي للذهب الأفريقي غير المرخص.
من جانب آخر، تستفيد وزارة الخزانة الأمريكية على الهامش أيضاً من تلك الشبكة، حيث أعلنت في 6 سبتمبر فرض عقوبات على عبد الرحيم دقلو بسبب تهم “ذبح المدنيين والقتل العرقي واستخدام العنف الجنسي”، كما أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية القائد في قوات الدعم السريع، عبد الرحمن جمعة، على قائمتها السوداء بتهمة اختطاف وقتل والي غرب دارفور، خميس أبكر وشقيقه.
في المقابل، لم تفعل الحكومة الأمريكية أي شيء حتى الآن لتقويض محمد بن زايد بشكل جدي، رغم أنه عنصر محوري في كل تلك الفوضى، فالإمارات تواصل شراكتها طويلة الأمد مع واشنطن، رغم أن أموال بن زايد ومخططاته وأسلحته هي السبب الأهم في تدمير تلك الدولة الواحدة تلو الأخرى، كما أن لوكلائه جميعاً تاريخ مسيء في انتهاكات حقوق الإنسان!
بل أكثر من ذلك، ادعاء الإمارات أن “جهادها” يقتصر على القتال ضد الإسلام السياسي يعد زيفاً أيضاً، فوكلاء الإمارات في أفغانستان، هم شبكة حقاني، أحد الأذرع الفعالة لطالبان، فقد أصبح سراج الدين حقاني وزيراً للداخلية ويسيطر على الحقائب الرئيسية للأمن الداخلي والاستخبارات، ومن الجهة الاخرى، فقد قدمت ملجأً للرئيس الموالي للغرب أشرف غني بعد استيلاء طالبان على السلطة، في محاولة للحفاظ على موطئ قدم في أفغانستان.
تهدف التحركات الإماراتية هذه إلى الحد من نفوذ قطر على الجناح المعتدل داخل حركة طالبان، وهو الجناح الذي شارك في محادثات سلام مطولة في الدوحة في السابق، تماماً كما تفعل مع حميدتي، فمن خلال شركات وهمية وشبكة من المغتربين الأفغان، تتمتع شبكة حقاني ببنية تحتية قوية في الإمارات، كانت نتيجتها فوز شركة “كونسورتيوم إماراتي” بعقد لإدارة مطار كابول، بعد انهيار المفاوضات التركية والقطرية.
خلال العقد الماضي، استطاع محمد بن زايد تثبيت سردية حربه ضد الإسلام السياسي من خلال شراء مراكز الأبحاث في واشنطن والتصرف مثلما يفعل اللوبي الصهيوني والإسرائيلي في فرض زاويته النقاشية
ولا يهتم بن زايد كثيراً بالتكلفة البشرية التي تكلفها حروبه، من مصريين وليبيين وسودانيين ويمنيين، فلعبته هي السيطرة والنفوذ والقوة، وأن يظل العنكبوت التي يتوسط الشبكة وينسج خيوطها الممتدة.
في مرحلة ما، كان بن زايد قد وعد بتغيير المنعطف، فقبل عامين، ادعى كبار المسؤولين الإماراتيين أنهم أجروا “تقييماً استراتيجياً” للسياسة الخارجية، وسألوا أنفسهم عما حققوه بالفعل في اليمن ومصر وليبيا وتونس؟ ولكن المنعطف الذي كان يقصدونه انحصر في تطوير علاقتهم مع تركيا، والتي حاولوا أيضاً التخلص من رئيسها أردوغان في انقلاب فشل عام 2016، على اعتبار أن السياسة الجديدة تتمثل في التعاون الاقتصادي بدلاً من التعاون العسكري.
الواقع أثبت أن كل ذلك كان خدعة فحسب، ومرة أخرى، لم تحرك الولايات المتحدة، التي لديها 5 آلاف جندي متمركزين في قاعدة الظفرة الجوية في أبو ظبي، ساكناً!
وهم مزدوج
لقد أحدثت التوترات في كل من اليمن والسودان شرخاً كبيراً في العلاقات بين الرياض وأبو ظبي، وتجنب بن سلمان وبن زايد التواصل معاً معظم هذا العام، فقد اقتصر التواصل على اتصال محمد بن سلمان لتعزية بن زايد بوفاة أخيه غير الشقيق، سعيد بن زايد، في يوليو، بالإضافة إلى لقاء سريع على هامش قمة مجموعة العشرين التي عقدت في الهند مؤخراً.
بعد القمة مباشرة، زار بن سلمان سلطنة عُمان، المنافس الإقليمي للإمارات في المنطقة، وذلك بعد الإعلان عن انفراجة في قضية الحرب في اليمن، حيث وافق الحوثيون على إجراء محادثات سلام في الرياض، في خطوة أشاد بها رئيس المجلس الأعلى للحوثيين، مهدي المشاط، بقوله “استجابة للوساطة العمانية، سيتوجه الوفد الوطني برفقة الوفد العماني إلى الرياض لاستكمال المشاورات”.
كان الهدف من اجتماع قمة العشرين مواجهة ما يدور على وسائل التواصل الاجتماعي حول انقسام الرجلين، لكن الاجتماع لم ينجح في تبديد تلك الفكرة، فقد هاجم العضو السابق في مجلس الشورى السعودي، محمد الزلفة، الإمارات بالقول أنها تلعب دوراً أكبر من حجمها في اليمن، أما المحلل السياسي السعودي، خالد الهميل، فكتب على موقع اكس “هناك دولة تسعى لخدمة مصالحها على حساب سيادة الدولة اليمنية، للأسف، وسعت إلى حشد الأكوام من خلال زراعة الميليشيات على طول شواطئ اليمن وكذلك داخل عدن وغيرها، متخيلة أنها ستصبح الأدوات التي تقاتل بها ضد المصالح السعودية”، ولكنه عاد ونشر لاحقًا أنه اضطر إلى إزالة المنشور بناءً على طلب الأصدقاء السعوديين والإماراتيين.
في يوليو، كشفت صحيفة وول ستريت جورنال أن ولي العهد السعودي هدد بفرض عقوبات على الإمارات، وذلك خلال محادثة خاصة مع صحفيين قبل عام، مما يدلل أن الأمر أكثر من مجرد خلاف بين أغنى أعضاء مجلس التعاون الخليجي.
مع تراجع الدور الأمريكي في الخليج، بدأت تظهر على السطح معركة على السلطة حول من له اليد العليا في المنطقة، حيث يعتقد بن زايد أن بن سلمان مدين له بدوره في تقديمه إلى عائلة ترامب يوماً ما حين كان مجهولاً، وعلى الجانب الآخر، يرى بين سلمان أنه تجاوز تلك المرحلة ولم يعد بحاجة لإرشادات بن زايد، فكل الاضطرابات التي يغذيها جاره الإماراتي باتت تهدد مستقبل الاستثمار القادم من الغرب في مملكته، والذي يشكل جزءاً أساسياً في خطته للتغيير.
ومن جانبه، يعيش محمد بن زايد وهماً مزدوجاً، فهو يتمتع بثروة هائلة ولم يشعر بأي قيد أمريكي حتى اللحظة، بل على العكس تماماً، خلال العقد الماضي، استطاع محمد بن زايد تثبيت سردية حربه ضد الإسلام السياسي من خلال شراء مراكز الأبحاث في واشنطن والتصرف مثلما يفعل اللوبي الصهيوني والإسرائيلي في فرض زاويته النقاشية.
كان المرء يتصور أن واشنطن والعواصم الاوروبية سوف تركز على أهم مشكلتين، مقاييس عدم الاستقرار وحركة النازحين عبر السودان وليبيا وتونس وما يتبعها من أعداد غير مسبوقة من المهاجرين الذين يصلون إلى جزيرة لامبادوسا الإيطالية، لكن في مرحلة ما، سوف تصل تلك المشكلات إلى نهاية غير مرغوبة.
عندما يأتي ذلك الوقت، يجب على رئيس الإمارات، محمد بن زايد، أن يحسن التنبؤ فيما يمكن أن يحصل قبل فوات الأوان، وفي الوقت الذي يستمر فيه جاره الكبير، السعودية، في تذكيره، فإن إقطاعيته التي يحاول توسيعها صغيرة حقاً!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)