بقلم شون ماثيوز
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر بلغت السمعة السيئة للمخابرات المصرية أعتاب الولايات المتحدة، فقد اتهم الادعاء السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز بالفساد لحصوله على مئات الآلاف من الدولارات والذهب مقابل ممارسة نفوذه لنقل المساعدات العسكرية والمعلومات الحكومية “بالغة الحساسية” إلى مصر.
تزخر لائحة الاتهام المكونة من 39 صفحة بالمعلومات عن اجتماعات سرية في غرف فندقية ورسائل مشفرة وإشارات إلى “جنرال” عسكري غير مسمى، وتوثق لقائين سريين بين مينينديز ومسؤولين في المخابرات المصرية في واشنطن، تزامن أحدهما مع زيارة عباس كامل، رئيس مديرية المخابرات العامة المصرية للعاصمة الأمريكية.
وشبه مسؤولون سابقون في المخابرات والدفاع الأمريكي معطيات التقرير بالحالة الكلاسيكية لألعاب التجسس، حيث وصف ضابط استخبارات أمريكي كبير سابق ما ورد بأنه يبدو “وكأنه عملية استخباراتية لم تستخدم فيها مهارات جيدة لطمس الآثار”.
وأضاف:” وجود الأوراق النقدية وسبائك الذهب دون إنكار منطقي لسبب إعطائها لعضو في مجلس الشيوخ، إنهم يقولون فقط إنهم سيئون للغاية أو يائسون، أو يتطلعون إلى إمكانية التخلص من مينينديز “.
“درة التاج المصري”
حصل مينينديز على معلومات غير سرية، ولكنها “حساسة للغاية” من وزارة الخارجية حول عدد وجنسية العاملين في سفارة الولايات المتحدة في القاهرة وذلك بعد فترة وجيزة من تعرفه بوائل حنا، رجل الأعمال المصري الأمريكي الذي يقول ممثلو الادعاء إن له علاقات بالمخابرات المصرية، حيث نقل المعلومات عبره إلى مسؤول مصري.
غير أن الخبراء يرون أن الأهمية الأكبر لمينينديز بالنسبة للمصريين تعود إلى منصبه باعتباره العضو الديمقراطي الأعلى في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ.
وكممارسة طويلة الأمد، تخطر وزارة الخارجية رؤساء وأعضاء لجان العلاقات الخارجية في مجلسي الشيوخ والنواب قبل الشروع في عمليات نقل الأسلحة، حيث كان مينينديز واحدًا من أربعة مشرعين أمريكيين فقط يمكنهم منع إرسال الأسلحة.
إنها ورقة رابحة لم يتردد عضو مجلس الشيوخ عن ولاية نيوجيرسي عن اللعب بها على الإطلاق، وخلال العام الماضي، هدد بتعليق مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية بعد أن خفضت إنتاج النفط، وذكر مرارًا وتكرارًا أنه لن يوقع على بيع طائرات F-16 لتركيا.
ووصف عباس دهوك، المستشار العسكري الكبير السابق لوزارة الخارجية والذي عمل سابقًا ملحقاً عسكرياً لواشنطن لدى السعودية مينينديز بأنه “درة التاج بالنسبة لمصر”، مضيفاً: “عندما يتعلق الأمر بموافقة المشرعين على المساعدات الخارجية، لا يمكنك الوصول إلى من هو أعلى من ذلك”.
لم توجه اتهامات لأي مسؤولين مصريين بالفساد في القضية، غير أن شبكة إن بي سي ذكرت الأربعاء أن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان يجري تحقيقًا معاكساً لتحقيق الاستخبارات يتناول دور المخابرات المصرية.
“المنطقة الحمراء”
ووصف دهوك ممارسة ألعاب التجسس بأنها أسلوب حياة في الشرق الأوسط، مؤكداً أن “العمليات الاستخباراتية موجودة دائمًا تحت السطح في علاقاتنا الثنائية، ونحن في الولايات المتحدة نفعل الشيء ذاته، حيث نحاول جمع المعلومات والتأثير على السياسات، وهذا أمر مقبول، لكن ملاحقة عضو مجلس الشيوخ الأمريكي على الأراضي الأمريكية، يطال المنطقة الحمراء”.
“سيحاول الأمريكيون الحصول على بعض النفوذ من هذا، لكن ليس لدى بايدن أي مصلحة في استغلال ذلك علنًا” – روبرت سبرينغبورغ، خبير في الشؤون المصرية
وقال روبرت سبرينغبورغ، الخبير المصري في المعهد الإيطالي للشؤون الدولية:” إذا كنت قائداً عربياً خليجياً تشاهد هذا، عليك أن تفكر: يا لهم من مجموعة من البلهاء، هؤلاء الرجال”.
وأضاف:” هناك مقدار صارخ من عدم الكفاءة، سيكون من الصعب على ضباط الجيش والمخابرات المصريين المحترفين تقبل هذا الأمر، إنهم يرون كل هذا.”
جاء توجيه لائحة الاتهام ضد مينينديز في وقت حساس بالنسبة للرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي حكم مصر بقبضة حديدية منذ وصوله إلى السلطة بعد انقلابه العسكري عام 2013 حينما أطاح بأول حكومة منتخبة ديمقراطيا.
ويقدم السيسي، وزير الدفاع السابق والجنرال الذي تلقى تدريبه في الولايات المتحدة، نفسه كشخصية ماهرة في إدارة شؤون الأمن القومي وتجنب الأزمات، إلا أن مصر باتت تعيش أزمة اقتصادية عميقة، في الوقت الذي قام فيه حلفاؤه الخليجيون بتشديد القيود على محفظته المالية.
ويوم الاثنين، أعلنت مصر تقديم موعد الانتخابات الرئاسية إلى 10 كانون الأول / ديسمبر بعدما كان من المقرر إجراؤها خلال عام 2024، وسط توقعات كبيرة بأن يفوز السيسي بولاية ثالثة.
وبطبيعة الحال، فإن لدى مصر سبب وجيه للسعي إلى التأثير على مينينديز، فلأكثر من 40 عاماً، واظبت أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان على تلقي قرابة 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية سنوياً، محتلة بذلك المرتبة الثانية في حجم المساعدات الأمريكية الخارجية بعد إسرائيل.
وفيما تدفع دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ثمن معداتها العسكرية الأمريكية، تعتمد مصر على المنح كجزء من برنامج يسمى التمويل العسكري الأجنبي (FMF).
يرجع تاريخ هذه المساعدة إلى عام 1978، عندما وقع الرئيس أنور السادات معاهدة سلام مع إسرائيل، واضعاً بذلك مصر في محور المظلة الأمنية الأمريكية فيما اعتبر انقلاباً كبيراً لصالح التقارب مع واشنطن بعد سنين مضطربة خلال الحرب الباردة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
أخذت هذه المساعدات تخضع للتدقيق بعد عام 2013 عندما وصل السيسي إلى السلطة في انقلاب عسكري أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيا في البلاد هو محمد مرسي، وفي العام التالي، أخضع الكونجرس جزءًا من المساعدات لاعتبارات حقوق الإنسان.
ورغم إدانة مينينديز العلنية لمصر في مناسبات متعددة بسبب سجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان، إلا أن لائحة الاتهام رسمت صورة لمشرع أمريكي يسهر على ضمان مواصلة تدفق لأسلحة إلى القاهرة.
كان مينينديز ينقل في كثير من الأحيان قراراته إلى صديقته التي أصبحت زوجته نادين، وبعد موافقته على نقل أسلحة بملايين الدولارات إلى مصر، أبلغ نادين التي نقلت الخبر إلى حنا الذي أوصله بدوره لمسؤول مصري.
الدبابات وطائرات F-16
ورغم الدعوات التي أطلقها بعض المشرعون لتقليص المساعدات بسبب سجل مصر السيء في مجال حقوق الإنسان، إلا أن الإدارات الأمريكية باتجاهيها السياسيين واصلت تنفيذ ذلك.
ومع انحسار “الحرب على الإرهاب”، تواصل واشنطن النظر إلى مصر كشريك استراتيجي، يقع على البحر الأبيض المتوسط وموطن لقناة السويس، التي يمر عبرها ما لا يقل عن 12% من التجارة العالمية.
تملك مصر شبكة من المصالح في عدد من النقاط الساخنة الإقليمية على طول حدودها من بينها ليبيا الغنية بالنفط والمقسمة بين حكومتين متنافستين، وقطاع غزة المحاصر، والسودان، حيث يخوض جنرالان متحاربان صراعاً دموياً على السلطة.
وحسبما يرى الخبراء فإن إبقاء مصر معتمدة على الأسلحة الأمريكية يشكل بذاته وسيلة للحد من نفوذ أعداء واشنطن، الصين وروسيا، التين تتابعان عن كثب صفقات الأسلحة مع القاهرة.
وقال دهوك:” يمكن للولايات المتحدة استخدام كل دبابات أبرامز إم-1 وطائرات إف-16 والمروحيات الهجومية المتمركزة في مصر بطريقة مثالية في المنطقة أو حتى في الشرق الأقصى في وقت قصير إذا احتجنا لذلك، أما إذا اشترت مصر سلاحاً روسياً فإن قدرتنا على ذلك سوف تتجمد”.
كرست الحرب في أوكرانيا هذا المنطق، فبحسب ما ورد رفضت مصر طلبات الولايات المتحدة بإرسال ذخيرة احتياطية إلى أوكرانيا، حتى مع تخطيط السيسي سراً لتزويد روسيا بـ 40 ألف صاروخ، حسبما كشفت معلومات استخباراتية أمريكية مسربة.
غير أن الولايات المتحدة عمقت من شراكتها العسكرية مع مصر، مراهنة على أن تعليق المساعدات قد يضر بالعلاقات مع دولة لا تزال واشنطن تعتبرها شريكا استراتيجيا.
وإبان أيلول/ سبتمبر، أعلنت إدارة بايدن أنها ستحجب 85 مليون دولار فقط من المساعدات التي تبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار للقاهرة.
وخلال ذات الشهر، نفذ الجيشان الأمريكي والمصري واحدة من أكبر مناوراتهما المشتركة في السنوات الأخيرة، بمشاركة 1500 جندي أمريكي في مناورات النجم الساطع العسكرية، واليوم، يلجأ مناهضو مصر إلى لائحة الاتهام لتقليص العلاقة الدفاعية.
هل مصر مضادة للرصاص؟
وذكر عضو الكونجرس الديمقراطي دون باير إنه تم القبض على القاهرة “وهي تنفذ عملية تجسس داخل مجلس الشيوخ الأمريكي”، حيث حث الإدارة على حجب المساعدات.
أما السناتور الديمقراطي كريس ميرفي فقال للصحفيين يوم الثلاثاء إنه يجب وقف المساعدات للقاهرة مؤقتا.
لكن الخبراء يعتقدون أن القاهرة قد تتمكن من الصمود في وجه الأزمة، بسبب قلة عدد منتقدي مصر في الكونجرس.
وقال دوغلاس سليمان، رئيس معهد دول الخليج العربية في واشنطن العاصمة، وسفير الولايات المتحدة السابق في العراق والكويت:” مصر تحظى بدعم قوي من الحزبين في الكونجرس لأنها كانت أول شريك سلام مع إسرائيل”، لكنه استدرك:” وهذا لا يجعلها مقاومة للرصاص، لكنه يساعدها على الصمود في وجه العواصف”.
وفي ذات الوقت، يعتقد الخبراء بإمكانية التقاء إدارة بايدن وحكومة السيسي وحتى المشرعين الديمقراطيين على ضرورة إخفاء هذه المزاعم مع اقتراب عام الانتخابات الأمريكية.
ويستشهد الخبراء على ذلك بأن أياً من المشرعين بمن فيهم منتقدي مصر لم يطالبوا وزارة العدل بالكشف عن أسماء المسؤولين المصريين المتورطين في قضية الفساد.
ودعا نشطاء حقوقيون ومشرعون إلى نشر التقرير الاستخباراتي الخاص بمقتل الصحفي جمال خاشقجي، حيث أدى قرار الرئيس بايدن بنشر التقرير إلى تراجع العلاقات مع الرياض.
وفي حدث منفصل، أعلن الادعاء الإيطالي أسماء المسؤولين المصريين مقتل مواطن إيطالي على الأراضي المصرية وحاكمهم غيابياً.
ورد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على الضغوط التي تعرض لها بشأن لائحة الاتهام الأسبوع الماضي بالقول إنه ليس لديه تعليق، مضيفاً إنها “مسألة قانونية نشطة ومتواصلة”.
وأوضح سبرينغبورغ:” قررت الحكومتان توخي الحذر الشديد فيما تقولانه، سيحاول الأمريكيون الحصول على بعض النفوذ الخاص مع مصر، لكن بايدن ليس لديه أي مصلحة في استغلال ذلك علنًا”.
بوسع القاهرة، إذا خرجت المساعدات العسكرية من هذه الأزمة بسلام، الاستفادة من حقيقة أن علاقاتها الدفاعية تحملت لائحة اتهام مينينديز وتحقيقات مكافحة التجسس.
وأشار جوناثان لورد، رئيس برنامج أمن الشرق الأوسط في مركز الأمن الأمريكي الجديد إلى أن “هذه مجرد نقطة ضعف اذا ما قيست بالضرر الكبير في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ومصر”.
وتابع:” المخاطر كبيرة جداً على البلدين الذين سيواصلان العمل معًا”.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)