بقلم جوزيف فهيم
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يمثل عرض فيلم Poor Things ، الفائز بجائزة الأسد الذهبي، في المهرجانات السينمائية الأخيرة نعمة ونقمة في نفس الوقت، فبالنسبة لعشاق السينما، يجسد أفضل أعمال يورجوس لانثيموس حتى الآن تحفة فنية اكتسبت حباً بالإجماع، حيث لم يرق أي عرض آخر في مهرجان البندقية أو تورونتو إلى مستوى إبداعها الجمالي وجرأتها السياسية.
وبالنسبة لأفلام الشرق الأوسط، فقد كانت معركتها الدائرة في المهرجان شاقة، إذ لم يفلح معظمها في معركة موسم الخريف المزدحم بالمنافسين.
ومع ذلك، فقد أظهرت بعض الأفلام ومضات واعدة وخطّت آفاقا جديدة تثير الإعجاب، حتى لو لم يسجل لها النجاح التام، فيما كشفت أفلام أخرى عن الفجوة الفكرية والفنية الواسعة بين أمثال لانثيموس والآخرين.
يمثل فيلم Behind the Mountains أحد الأمثلة على ذلك، وهو أحدث أفلام المخرج التونسي الشهير محمد بن عطية، الذي عُرض فيلماه Hedi و Weldi لأول مرة في مدينتي برلين وكان على التوالي.
ويقوم الممثل التونسي مجد مستورة في الفيلم بدور رفيق وهو شاب يبدو عاديًا قبل أن يفقد صوابه فجأة، ولسبب غير مفهوم يعمد إلى تخريب مكان عمله قبل أن يصدر بحقه حكم بالسجن لأربعة أعوام.
يقوم رفيق الذي انفصل عن زوجته السابقة بخطف ابنه والهروب به إلى الجبال، وبعد أن تنجح الشرطة في الوصول إليهما يقتحم منزلًا في قرية صغيرة ويحتجز سكانه كرهائن، محاولًا إقناع الجميع بأنه يستطيع الطيران.
الصفة الثالثة لفيلم بن عطية تتمثل بكونه الأضعف حتى الآن، فهو خليط من الأفكار غير الناضجة والمشاعر السينمائية المتباينة، التي تفتقر بشدة إلى التماسك.
كما أن الفيلم يجمع بين قصة أب وابنه وفيلم إثارة عن احتجاز رهائن، ودراما خارقة للطبيعة، إنه يخلط أجناساً سينمائية مختلفة معًا بشكل يفتقر إلى التناغم في صورة فيلم يطمح لأن يكون متعدد الأجناس لكنه في النهاية لا شيء.
فنحن لا نعرف أبدًا من هو رفيق حقًا ولماذا يتصرف بهذه الطريقة، كما أن الفيلم لا يحوي أي تلميحات إلى الواقع الحالي في تونس، وبدون هذه العناصر، يتلخص الفيلم فيما يمكن وصفه بمجرد استعارة تافهة من أجل البحث عن التحرر.
لكن تحرر من ماذا؟ من القيود المحلية؟ القمع الاجتماعي؟ عبء المسؤولية؟ لا نعرف أبدًا، وبدون هذه التفاصيل يصعب الاهتمام بشخصية لا تمثل أكثر من مجرد خربشات طفولية فلسفية.
أما فيلم Backstage لعفاف بن محمود وخليل بنكيران فقد بدا أكثر طموحاً، حيث تدور أحداثه حول أعضاء فرقة رقص عربية يواجهون مخاوف عميقة تضع قدرتهم على مواصلة الحياة موضع الشك عندما تتعطل حافلتهم السياحية في جبال الأطلس المغربية.
تتخذ الحبكة والتوصيف مكانة متراجعة لما يعتبر تأملًا دقيقًا في أدوار الجنسين، والهوية العربية وقيمة العمل الإبداعي في منطقة يعد فيها الفن ترفًا.
يعد الفيلم في النهاية احتفالاً بالحواس، حيث إن تفاصيله الدقيقة هي أقوى ما فيه، إذ يستكشف الحياة الجنسية الأنثوية والاستقلال الذاتي، الانسياب بين الجنسين وتعدد العلاقات، والانفصال بين الطبيعة الحرة للفن والواقع المقيد والمستبد للمجتمعات العربية.
لكن الجودة لا تنطبق على كل ما في الفيلم، فمشاهد الرقص تعبر عن ذوق مكتسب، والتوصيف يحتاج إلى تعمق أكثر، أما دور الفن في المنطقة والذي يمكن القول إنه الموضوع الأكثر إثارة للاهتمام فبالكاد تم التطرق إليه.
يعتبر Backstage فيلمًا حساسًا جداً تكتنفه المغامرة من الناحية الجمالية ويُقدّر صبر جمهوره الواعي.
“ستشرق الشمس”
في هذا العام، كانت إيران حاضرةً في مهرجانات الأفلام بجميع أنحاء العالم، ولم يكن مهرجان البندقية “Venice” استثناء عن ذلك، حيث سلطت العروض الضوء على الإمكانات والمشاكل الكامنة في نظر صناع الأفلام في المنفى.
“ستشرق الشمس” هو أحد الأمثلة على ذلك، وهو فيلم وثائقي للفنانة والمخرجة آيات نجفي، التي تقيم في برلين، حيث تدور أحداث الفيلم في تشرين أول/ أكتوبر 2022، بعد فترة وجيزة من اندلاع احتجاجات ماهسا أميني.
يركز الفيلم على شركة مسرح تحاول إنتاج نسخة معاصرة من مسرحية ليسستراتا لأريستوفانيس، وهي الكوميديا اليونانية القديمة التي تدور أحداثها حول مجموعة من النساء اللواتي امتنعن عن ممارسة الجنس مع رجالهن من أجل إيقاف الحرب البيلوبونيسية.
تلتقط كاميرا نجفي الانقسامات الدائرة بين أفراد المجموعة الذين يشككون في نغمة المسرحية ونطاقها في أعقاب الاحتجاجات، ثم يتجه الفيلم تدريجيًا نحو نبرة أكثر جدية، حيث تبدأ الشهادات المروعة عن سوء المعاملة والاعتداء الذي تعرضت له النساء على أيدي الشرطة في التسلل إلى السرد الملتوي.
يركز تصوير فيلم نجفي إلى حد كبير على الأطراف السفلية للممثلين، مع إخفاء وجوههم طوال الوقت، كما أن الفيلم يُظهر جسد المرأة الإيرانية بطريقة لم نشهدها من قبل، وترجع بعض أسباب ذلك إلى جرأة المفاهيم التي يناقشها، وإلى حضور الاستغلال والإثارة الشائكة التي تطغى على التفاصيل.
ومع تقدم الفيلم، يتراكم وابل الشهادات بشكل متزايد فيقلل من وقع الصدمة الأولية، لكن ينبغي الإشادة بالمشاهد البصرية للفيلم لكونها مبتكرة بينما يظل الموضوع ملحًا كما كان قبل 12 شهرًا، وإن اتسم التنفيذ بالثقل الشديد والسعي لجلب الانتباه والاهتمام بالذات لدرجة تسهل التشكيك في النية من وراء انتاجه.
بالإضافة إلى ذلك، فليس هناك ما يشير إلى الحصول على موافقة الممثلين الأمر الذي يتطلب المزيد من التحقق الأخلاقي في فيلم ليس ضارًا كما يبدو.
عروض تركية
عادت تركيا إلى مهرجان البندقية من خلال إنتاجين يوضحان نقاط القوة وأوجه القصور في سينماها المستقلة.
الفيلم الأول هو “يورت” (مسكن)، وهو فيلم تاريخي مذهل للمخرج نهير تونا عن التلميذ أحمد (دوغا كاراكاس) البالغ من العمر 14 عامًا، والذي يتشتت بين مدرسته الغربية المنتمية إلى الطبقة العليا ومسكنه الإسلامي المخصص للأولاد الذكور فقط والذي يسجله فيه والده قسراً لتلقي التعليم الديني.
تم تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، وتدور أحداثه في عام 1997، في ذروة الصراع بين الأتراك “البيض” العلمانيين التقليديين والحركة الإسلامية الناشئة.
يمثل فيلم يورت لقطة سريعة لبلد يمر بمرحلة انتقالية: بلد منقسم بين العلمانية التقليدية للأب المؤسس لتركيا الحديثة، أتاتورك، والقوة الصاعدة للدين، التي يجسدها أردوغان، الذي فاز حزبه العدالة والتنمية بالسلطة بعد بضع سنوات.
يضيف المخرج بذكاء لمسة راقية إلى هذا المزيج، حيث يتم تصوير التوجه المفاجئ لوالد أحمد نحو الدين على أنه مناورة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وليس صحوة روحية مفاجئة.
وتعكس القسوة والقمع الذي تعرض له أحمد في المسكن القمع الذي من المتوقع أن يطلقه أردوغان في وقت لاحق خلال فترة حكمه.
غير أن افتقار الفيلم إلى الدقة يجسد بشكل مثالي الحالة الذهنية لتركيا في القرن الحادي والعشرين: أمة منقسمة لا تزال غير متأكدة من الاتجاه الذي يجب أن تسلكه، أمة لا تستطيع تحديد هويتها الحقيقية.
أما الفيلم الروائي الثاني لسلمان نجار، فهو “جرح التردد”، وهو فيلم أقل نجاحاً، وتدور قصته حول محامٍ من الطبقة المتوسطة العليا يتعامل مع قضية رجل يُحاكم بتهمة قتل صاحبة المصنع الذي يعمل فيه بينما كانت تعتني بوالدتها المحتضرة.
جانان (تولين أوزين)، التي عادت مؤخرًا إلى تركيا بعد قضاء فترة طويلة في الخارج، هي كالسمكة خارج الماء، تسعى جاهدة للتكيف مع مكان انقطعت عنه.
يضع المخرج نجار البطلة جانان في تحدٍ لمواجهة مجموعة متنوعة من الخيارات الأخلاقية، بدءًا من سحب القابس عن والدتها المتوفاة دماغيًا إلى خرق القواعد من أجل إنقاذ عميلها الانتحاري.
رغم ذلك، فإن “جرح التردد” مثير للاهتمام بشكل لا يمكن إنكاره، لكنه يتعامل مع أسس مألوفة، سواء كان ذلك في معالجته البدائية للطبقة الاجتماعية أو في تصويره للرمادية الأخلاقية التي تحدد الحياة التركية الحضرية.
كما تفتقر الدراما في قاعة المحكمة إلى التوتر، بينما كانت العديد من تصرفات جانان ساذجة للغاية بحيث لا يمكن تصديقها.
لقد كان هناك القليل مما لم تتم رؤيته أو معالجته من قبل، وعلى الرغم من أن السرد يتدفق بشكل جيد، إلا أن الفيلم في النهاية يبدو غير ناضج تماماً ومخيبًا للآمال.
باي باي طبريا
أما جوهرة اختيارات الخريف في الشرق الأوسط فكانت “باي باي طبريا”، الفيلم الوثائقي الثاني للمخرجة الفلسطينية الجزائرية لينا سويلم.
كان فيلم سويلم الأول، “جزائرهم”، يدور حول أجدادها وجيل الثورة الجزائرية من النازحين.
لكن سويلم فضلت هذه المرة تسليط الضوء على العائلة في طبريا، حيث وجهت عدستها نحو والدتها النجمة الفلسطينية في أفلام “هيام عباس صاحبة الخلافة” و”رامي” و”شهرة ميونيخ”.
يبدأ الفيلم بدراسة شخصية امرأة فلسطينية تمردت على عائلتها المحافظة لمواصلة مسيرتها في التمثيل، لكن سويلم وسعت نطاق الفيلم تدريجيًا لترسم صورة حميمية للغاية لعائلة مزقتها النكبة، التي لا زالت تلقي بظلالها على عائلة هيام عباس.
من خلال دمج مقاطع الفيديو المنزلية واللقطات المخزنة مع نهج السينما الحقيقية في التقاط العلاقة الحرة لهيام عباس مع أخواتها، يأخذ الفيلم انحرافًا غير متوقع في الثلث الأخير ليتطور إلى تأمل في الحزن والخسارة.
ما يحدث أخيرًا هو ملحمة عائلة فلسطينية ثرية عن الأمل والمفقود والموجود، وعن الروابط العائلية التي لا تموت والتي لا تتغير بسبب المسافة والأيديولوجيات الشخصية، عن قسوة الحدود وحالة العالم العربي الممزقة، وعن صمود الروح الفلسطينية.
لا يخلو الفيلم من العيوب، فغالبًا ما يبدو التعليق الصوتي لسويلم متطفلاً يبين أمراً واضحاً من الأساس، ولا يتجسد موقعها في القصة كما ينبغي أبداً، وأحيانًا يكون حضور شخصية هيام عباس ضمن محيطها ناقصاً، كما هو الحال عندما تُفوّت سويلم العروض البصرية لاكتشاف العلاقة الفلسفية بين والدتها ومدينتها الأصلية.
غير أن الشهادة على صدق رؤية سويلم تكمن في أن أياً من هذه العيوب لا تضعف من قوة الفيلم.
تتجذر قوة سويلم السردية في موهبة غريزية منحتها القدرة على رسم المشاعر الجياشة بتواضع، ويعتبر فيلم “باي باي طبريا” مثالاً بارزاً على مواهبها: رحلة مدروسة ذات نظرة ثاقبة حيث تعبر هيام عباس عن نفسها بشجاعة في الفيلم الفلسطيني الذي حقق التميز بسهولة هذا العام.
سيعرض في تشرين الأول / أكتوبر، ثلاثة أفلام من المذكورة أعلاه: “جرح التردد” في مهرجان زيورخ السينمائي، وفيلم Behind the Mountains في مهرجان BFI London السينمائي كما سيعرض Bye Bye Tiberias في مهرجان لندن السينمائي ومهرجان شيكاغو السينمائي.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)