بقلم ديفيد هيرست
خلال الساعات الـ48 الماضية حدث انقلاب جذري في الأدوار بالنسبة لدولة معتادة على ممارسة السيطرة الكاملة على 7 ملايين فلسطيني. إذ صار المسلحون الفلسطينيون يحتلون المستوطنات، بعد أن كان اعتاد المستوطنون المسلحون على إرهاب القرويين الفلسطينيين.
وظل سكان سديروت – المدينة الإسرائيلية المبنية على أراضي بلدة النجد الفلسطينية – يختبئون في أقبية منازلهم ويتساءلون متى سيأتي جيشهم لحمايتهم، بدلاً من سكان حوارة أو نابلس أو جنين، الذين يعانون من الصدمات كل ليلة بسبب هجمات المستوطنين وغارات الجيش الإسرائيلي.
واحتجز مقاتلون فلسطينيون العشرات من الجنود الإسرائيليين، الذين يتواجدون الآن في الأقبية في جميع أنحاء غزة.
وبالطبع ليست هذه المشاهد التي يفقد العالم صوته تجاهها، فما يعتاد العالم على عدم التحدث عنه هو مشاهد جنود إسرائيليين ينقلون الفلسطينيين ليختفوا لفترات غير محددة بموجب الاعتقال الإداري في السجون.
ووفقاً لآخر التقارير، من الممكن أن يكون هناك ما يقرب من 100 أسير الآن في غزة. وتكبدت قوات الجيش والشرطة الأفضل تجهيزاً في الشرق الأوسط خسائر لم يُسمَع بها من قبل -إذ تبلغ آخر حصيلة، 1000 قتيل وأكثر من 1500 جريح– بعدما حوصرت في قتال شوارع مُحتدِم بالأسلحة في القرى والبلدات المحيطة بغزة.
فشل استخباراتي
وهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها مثل هذه المشاهد منذ حرب عام 1948 التي أدت إلى النكبة الأولى ونشأة دولة إسرائيل. وهذه المشاهد أسوأ بكثير بالنسبة للإسرائيليين من الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، التي اندلعت قبل 50 عاماً تقريباً.
وقال المحلل الإسرائيلي المخضرم ميرون رابوبورت لموقع Middle East Eye: “في عام 1973: “قاتلنا بجيش مُدرَّب. لكننا هنا، نتحدث عن أشخاص ليس لديهم سوى الكلاشينكوف. وهذا أمر لا يمكن تصوره. إنه فشل عسكري واستخباراتي وستستغرق إسرائيل وقتاً طويلاً للتعافي منه واستعادة ثقتها بنفسها”.
وستخبر مقاطع الفيديو للأحداث جميع الفلسطينيين أنَّ المقاومة ليست قضية خاسرة في مواجهة عدو قوي للغاية.
إنَّ اختراق سياج يتمتع بأفضل وسائل الدفاع والمراقبة على طول أي من حدود إسرائيل، والتوغل بهذا الحجم عند الاستيلاء على المقر العسكري لفرقة الجيش التي تسيطر على غزة، يمثل أسوأ فشل عانت منه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في تاريخها.
إنَّ اختراق سياج يتمتع بأفضل وسائل الدفاع والمراقبة على طول أي من حدود إسرائيل، والتوغل بهذا الحجم عند الاستيلاء على المقر العسكري لفرقة الجيش التي تسيطر على غزة، يمثل أسوأ فشل عانت منه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في تاريخها.
لقد حققت حماس عنصر المفاجأة الكاملة. وحلّت الصدمة بجهاز الأمن الداخلي (شين بيت) ووحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الشهيرة 8200؛ وهي الوحدة القادرة على سماع كل المكالمات الهاتفية التي تجري في غزة.
ويتساءل الإسرائيليون كيف أخطأ جيشهم إلى هذا الحد، إذ أفادت التقارير بنشر 33 كتيبة في الضفة الغربية المحتلة لحماية المستوطنين، لكنه ترك الحدود الجنوبية عُرضة للهجوم.
وبعث كل هذا موجة صادمة بحجم تسونامي عبر أمة معتادة على أن تكون أسياد الأرض. ويفترضون أنهم هم أصحاب المفاجآت، وليس من يسيطرون عليهم.
عودة أقوى
قبل أسبوعين فقط، لوح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بخريطة طمس فيها كل الأراضي الفلسطينية.
وقال نتنياهو: “أعتقد أننا على أعتاب اختراق أكثر جذرية – سلام تاريخي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. ومثل هذا السلام سيقطع شوطاً طويلاً نحو إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي”.
ولم يختلف المسؤولون الأمريكيون، إذ أكد أحد كبار المسؤولين في الإدارة أنَّ “المنطقة مستقرة كما كانت منذ سنوات عديدة”.
وكأنهم أعضاء في الجوقة نفسها، حيث كانت واشنطن وتل أبيب والرياض تتحدث عن احتمال توقيع السعودية على اتفاق تطبيع مع إسرائيل، كما لو كان هذا في حد ذاته الطريق إلى السلام.
وصاروا جميعاً واثقين جداً من إخراج الفلسطينيين من هذه المعادلة، كما لو أنَّ جميع سكان فلسطين سيلقون في يوم من الأيام علمهم وهويتهم الوطنية، ويذعنون لدور المغترب في أرض شخص آخر.
لكن الآن هناك رسالة واضحة للغاية مفادها أنَّ الفلسطينيين موجودون بالفعل، وليسوا على مقربة من الانصياع لأي غزو.
وفي كل مرة مُحِيَت قوة المقاتلين -في أعوام 1948 و1967 و1973 وفي كل عملية منذ ذلك الحين- يعود جيل جديد من المقاتلين أقوى. ولا توجد نسخة سابقة من حماس أو حزب الله أقوى من تلك التي تواجهها إسرائيل اليوم. وقد أطلقت حماس على هجومها على جنوب إسرائيل اسم “طوفان الأقصى” لسبب وجيه للغاية. فهذا الهجوم لم يأتِ من فراغ.
الوضع الراهن في الأقصى
قبل 33 عاماً بالضبط، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1990، حاولت مجموعة من المستوطنين وجماعة “مؤمنو جبل الهيكل”، وهي جماعة يمينية متطرفة دعت إلى طقوس التضحية في جبل الهيكل – وهو عمل يحظره كبير حاخامات إسرائيل – وضع حجر الأساس للهيكل الثالث في المسجد الأقصى.
حينها قاوم السكان الفلسطينيون في البلدة القديمة، وفتح الجيش الإسرائيلي النار، وفي غضون دقائق، قُتل أكثر من 20 فلسطينياً، وأُصِيب واعتُقِل مئات آخرون.
ومنذ ذلك الحين، نُبِّه القادة الإسرائيليون باستمرار بضرورة الحفاظ على الوضع الراهن في الموقع المقدس الذي تطالب به الديانتان، وفي كل عام تجاهلوا تلك التحذيرات واختبروا صبر الفلسطينيين.
وذلك اليوم لم يكُن مختلفاً، إذ اقتُحِم المسجد الأقصى مراراً وتكراراً للسماح للمصلين اليهود بالوصول إلى الموقع الإسلامي حيث تُحظَر الزيارات والصلوات والطقوس غير المرغوب فيها من غير المسلمين، وفقاً للاتفاقيات الدولية التي استمرت لعقود من الزمن.
كانت هذه الاقتحامات العنيفة في السابق من عمل ما كانت تُعتبَر بين اليهود مجموعات هامشية من المتطرفين. لكن لم يعُد هذا هو الحال. إذ يقود هذه الاقتحامات الآن إيتمار بن غفير، الذي يتفاخر بها تحت لقب وزير الأمن القومي الإسرائيلي.
ويوماً بعد يوم، تبلوَرت سياسة لتقسيم المسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين، بدعم من نواب الليكود، مثل عميت هاليفي، تماماً كما قُسِّم المسجد الإبراهيمي في الخليل في التسعينيات.
ولم يسلم المسيحيون أيضاً من السياسات الفاشية لبن غفير، الوزير الذي يتمتع بسلطة تعيين رئيس شرطة إسرائيل. فعندما ألقت الشرطة القبض على خمسة يهود أرثوذكس بتهمة البصق على المصلين المسيحيين في البلدة القديمة في القدس، أجاب الوزير: “ما زلت أعتقد أنَّ البصق على المسيحيين ليس قضية جنائية. أعتقد أننا بحاجة إلى العمل على ذلك من خلال التعليم والتوجيه. ليس كل شيء يبرر الاعتقال”.
الصمت الدولي
لم تتوقف إسرائيل عن صب الزيت على النار، سواء بالاقتحام المتواصل للأقصى أم بما تسفر عنه هجماتها اليومية من حصيلة مروعة من القتلى الفلسطينيين، ومعظمهم من الشباب. وقد أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في أغسطس/آب، إلى أن هذا العام في سبيله لأن يصبح أكثر الأعوام التي شهدت قتلى من الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة منذ أكثر من 15 عاماً، إذ قُتل ما لا يقل عن 34 طفلاً حتى أواخر أغسطس/آب.
وقد قابل المجتمع الدولي كلَّ هذا بالصمت العميم، وانصرف عنه بالتركيز على طريق تجاري بين البحر الأحمر وحيفا.
ولذلك فإن المسؤولية عن إراقة الدماء والمذابح التي ارتكبت بحق المدنيين في نهاية الأسبوع الماضي، وما سيعقبها من مذابح في غزة إذا شنَّ الجيش الإسرائيلي هجوماً برياً، هذه المسؤولية يتحملها زعماء الدول الغربية الذين يقولون إن إسرائيل تشاطرهم قيمهم. فكل هؤلاء القادة يسمحون لإسرائيل بفرض سياستها، على الرغم مما في ذلك من تقويض سافر لسياسات دولهم.
ومهما حدث وسيحدث في غزة في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة التي ستُطلق فيها إسرائيل العنان لانتقامها الوحشي الذي لا يحتكم إلى أي هدف عسكري، فإن حماس حققت نصراً كبيراً بلا أدنى شك. فقد أحضرت الصحفيين والكاميرات التي تسجل كل ما يحدث، وهذه اللقطات ستُخاطب كل شاب فلسطيني وعربي يراها وتؤثر فيه.
وقد أظهرت هذه اللقطات الفلسطينيين وهم يعودون إلى الأراضي التي طُرد منها آباؤهم، إذ إن نحو 67% من سكان غزة هم من اللاجئين، ومعظمهم نزحوا عن الأراضي المتاخمة للقطاع، التي حررتها حماس مؤقتاً. وقد استردوا بذلك حق العودة الذي سُحب منهم على طاولة المفاوضات قبل 23 عاماً.
وستخُبر هذه اللقطات جميع الفلسطينيين أن المقاومة ليست رهاناً خاسراً، ولو كانت في مواجهة عدو أقوى منهم عتاداً وعدة بما لا يُقاس. وستُبرهن لهم أن إرادتهم في المقاومة أقوى من إرادة المحتل.
لقد تغيَّرت الأمور إلى الأبد
ولا شك لديَّ في أن المدنيين الفلسطينيين سيدفعون الآن ثمناً باهظاً في غمار المساعي التي ستبذلها إسرائيل لبلوغ انتقامها التوراتي. ويكفي القول إنها قطعت بالفعل الكهرباء عن أكثر من مليوني شخص يسكنون القطاع.
ومع ذلك، فليس لدي أدنى شك أيضاً في أن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الأحداث.
وبعد أن تمسك أعضاء الكنيست الإسرائيلي على مدى أجيال طويلة بإنكار وقوع النكبة الفلسطينية، ها هم يحرضون علناً على تكبيد الفلسطينيين نكبة جديدة. ونشر أرييل كالنر، عضو الكنيست عن حزب الليكود، قائلاً: “اقضوا على العدو الآن! ما تعرضنا له هذا اليوم مثل ما تعرضت له الولايات المتحدة في (بيرل هاربور). ونحن لا نزال نستخلص العبر. أما الآن فليس لنا سوى هدف واحد: أن نُلحق بالفلسطينيين نكبة جديدة!”.
ولم يلبث نتنياهو أن دعا الفلسطينيين في غزة إلى ترك منازلهم، وكأن لديهم مكاناً يذهبون إليه.
وإذا كانت إسرائيل تريد حقاً إشعال حرب إقليمية، فإن محاولة تكرار ما حدث في عام 1948 أسرع طريقة لإشعال هذه الحرب. لكن لا مصر ولا الأردن سيتسامحان مع ذلك، وستكون اتفاقيات السلام التي وقعها البلدان مع إسرائيل ملغاة وباطلة.
وهذه الحرب الإقليمية من المتوقع أن تشمل أيضاً حركة المقاومة الأفضل تجهيزاً في المنطقة، أي حزب الله. وقد شرع الحزب في تبادل لإطلاق النار مع إسرائيل على الحدود اللبنانية يوم الأحد، وحتى لو تردد في المشاركة في هذه الحرب، فإنه من الممكن أن يُدفع دفعاً إلى المشاركة فيها، لا سيما أن الحزب أعلن أكثر من مرة في المدة الماضية أن التوغل البري في غزة خط أحمر بالنسبة إليه.
فعلى مدار هذا العام، زار القادة السياسيون لحماس بيروت، وعقدوا اجتماعات مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. وتقول بعض المصادر إنهم اتخذوا بالفعل قرار التعبئة العامة. ولعل ذلك يعني أن مقاتلي حزب الله متأهبون ويضعون أصابعهم على الزناد.
علاوة على ذلك، يتعين على إسرائيل أن تتعامل مع احتمال أن تكون حماس قد وضعت يدها على عشرات الرهائن. ومن ثم فإن “توجيه هانيبال”، أي اتباع إسرائيل سياسة الأرض المحروقة وإصدار الأوامر بضرب قواتها للحيلولة دون وقوعها في أيدي العدو، لم يعد قابلاً للتطبيق. ولم يعد من الممكن كذلك ترك 2.3 مليون شخص قيد الاحتجاز في غزة، وتجويعهم، والسماح للسجان بأن يرمي المفاتيح بعيداً.
هذا هو الانفجار الذي حذرت أنا وآخرون منذ مدة طويلة أنه قادم. ولقد قلت إنه إذا لم تتراجع إسرائيل عن مسارها وتبدأ مفاوضات جدية بشأن حل عادل لهذه الأزمة، يمنح الفلسطينيين حقوقاً مساوية لليهود، فإن الرد قادم. وقد جاء الرد، لكن عندما ينتهي الأمر، لن تكون الأمور على حالها.
في الوقت الذي أباد فيه القصف الجوي المباشر بالقنابل الإسرائيلية الدقيقة ثلاثاً من العائلات الممتدة في غزة، قال ريشي سوناك (رئيس وزراء الدولة التي تتحمل المسؤولية الأكبر عن هذا الصراع أكثر من أي دولة أخرى) إن بريطانيا تساند إسرائيل مساندة لا يُدانيها شك، وأمر بإضاءة مقر مجلس الوزراء البريطاني بنجمة داوود. وقالت وزيرة الداخلية إن أي شخص يُضبط وهو يتظاهر في الشوارع تضامناً مع فلسطين، فإن السلطات ستعتقله. ومن ثم فقد تنصلت بريطانيا من أي دور مستقبلي لها في هذا الصراع المروع.
إن مسؤولية ما حدث تقع على عاتق كل هؤلاء الذين توهموا بأن الأجيال المتعاقبة من القادة الإسرائيليين يمكن أن تفعل ما تشاء، وتفلت من الحساب مهما فعلت. وتقع المسؤولية كذلك على عاتق الطغاة العرب، الذين لم يعودوا يفكرون في الفلسطينيين وحقوقهم. وكل هؤلاء سيتلقون درساً مؤلماً في الأسابيع والأشهر القادمة.
للإطلاع على النص باللغة الانجليزية من (هنا)