يخاطرون بكل شيء لإيصال الحقيقة.. ماذا يعني أن تكون صحفياً في غزة؟

في قلب قطاع غزة، وسط الغارات الجوية المتواصلة والقصف المستمر وحكايات القتل المروعة، تقف مجموعة من الصحفيين دون رادع، من أجل توثيق الفظائع اليومية للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة. 

بالنسبة ليوسف الصيفي، المصور المتخصص في قناة العربي، فإن تغطيته للعدوان الإسرائيلي المستمر على غزة لم تكن مثل أي تغطية أخرى واجهها.

لقد جعل هذا الهجوم الدمار أقرب إليه من أي وقت مضى، حيث سلبه منزل عائلته والملاذ الذي كان يبحث عنه خلال ساعات التغطية الشاملة.

دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية الجدران الأربعة التي كانت تضم ذكريات طفولته، ذلك المكان الذي كان يحمل في السابق رائحة الوجبات الساخنة في المنزل، وأصداء ضحكات العائلة، أصبح الآن مدفوناً تحت الأنقاض.

ومع تعرض المنطقة المحيطة بمنزله في تل الهوى، جنوب مدينة غزة، لقصف متواصل، لم يتمكن الصيفي من إنقاذ ولو جزء بسيط من ماضيه.

وسط كل هذا الدمار، يشعر الصيفي بالقلق، إذ يقول: “لقد نقلت عائلتي إلى مكان ما، ولا أعرف ما إذا سيكونون آمنين أم لا”.

وبينما يتملكه القلق على عائلته التي أصبحت بعيدة عن مرآه، يتشتت تركيز الصيفي عن العمل، في ظل فقدان معداته الصحفية التي حوصرت جميعها تحت أنقاض منزله، وهو ما زاد من التحديات العديدة التي يواجهها.

ويقول إن قلقاً جديدًا مروعًا بدأ يساور الصحفيين بعد الاستهداف المتعمد لمنازلهم، وهي المأساة التي عاشها مؤخراً الصحفي المخضرم في قناة الجزيرة وائل الدحدوح، والذي قُتلت أسرته في الغارات الإسرائيلية، بالإضافة إلى ارتقاء زملائهم أثناء تغطيتهم للعدوان، فالصيفي نفسه فقد صديقه سعيد الطويل، الذي قُتل مع صحفيين آخرين في 10تشرين الأول/ أكتوبر.

وقُتل ما لا يقل عن 26 صحفياً فلسطينياً من بين 8,525 شهيداً جراء العدوان، حيث تواصل إسرائيل قصفها على غزة بلا هوادة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.

وخلال ما يزيد عن ثلاثة أسابيع منذ نشوب الهجوم العنيف على القطاع المحاصر، يجد الصحفيون في غزة أنفسهم في مواجهة معضلة أخلاقية، وهي إما نقل الحقيقة والمخاطرة بالنفس أو فرض الرقابة الذاتية من أجل السلامة، لكن لا يوجد مكان آمن في غزة على الإطلاق.

وفي إحدى الحوادث المؤلمة، نجا الصيفي وزميله من الموت بأعجوبة أثناء قيادتهما سيارة تحمل بوضوح كلمة “صحافة”، حيث أوضح الصيفي بالقول: ” كانت التفجيرات على بعد عشرات الأمتار فقط من سيارتنا”.

لقد نجوا بأعجوبة حتى ينقلوا لنا القصة، لكن مواجهة أخرى مع الموت كانت تنتظر الصيفي يوم الاثنين، حين لاحظ خلال قيادته السيارة في مدينة غزة وجود دبابة متمركزة خلسة خلف أحد المباني، عند مفترق نتساريم، توجه مدفعها نحو سيارة تحاول الابتعاد.

وبعد لحظة، وأمام عينيه مباشرة، أطلقت الدبابة النار وأصابت السيارة التي كانت تقل أربعة مدنيين.

أسرع الصيفي، الذي غمره القلق، في الاتجاه المعاكس، وهو يصرخ محذراً المركبات القادمة، وعندها رأى قذيفة ترتطم بالأرض خلف حافلة تقل 30 راكباً.

جاءت الأخبار في ذلك اليوم بمثابة صدمة لسكان القطاع، فقد تسللت الدبابات الإسرائيلية وانتقلت إلى شرق غزة، ووصلت إلى طريق صلاح الدين السريع، لتقطع مدينة غزة والشمال عن بقية القطاع.

“اللحظة الأكثر رعبًا”

يصف رائد لافي، وهو صحفي مستقل يبلغ من العمر 48 عاماً، روتينه اليومي بأنه مليء بأصوات الانفجارات ونغمات الاتصال المتكررة لهاتفه، فيما يضطر لاستخدام الركام كدروع مؤقتة.

وكما هو حال نحو مليون مواطن في غزة، اضطر لافي، الذي يعمل مع العديد من وكالات الأنباء العربية، إلى الامتثال لتحذيرات الجيش الإسرائيلي بمغادرة مدينة غزة مع عائلته أو التعرض لخطر القصف.

وكانت العائلة قد قامت برحلة محفوفة بالمخاطر بحثاً عن ملجأ في منزل أحد الأصدقاء الواقع في مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، لكنه قال إن “الجيش لديه احداثيات منزل صديقي”.

يعمل صديقه صحفياً في إحدى وكالات الأنباء العالمية، وغالبًا ما توفر مثل هذه الوكالات حماية لموظفيها وعائلاتهم، على الأقل من الناحية النظرية.

لكن صباح يوم الاثنين المشؤوم بدد كل أوهام الأمان، حيث دمرت غارة جوية الساعة السادسة صباحًا، يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول، ودون سابق إنذار، المنزل المجاور لعائلة الخطيب، التي كان لافي يقيم لديها، ما أسفر عن مقتل سبعة مدنيين.

يتذكر لافي ذلك اليوم قائلاً: “لقد صمد المنزل جزئياً فقط، ووجدت نفسي مصاباً قبل 10 دقائق فقط من الموعد المحدد لبدء البث المباشر على قناة الحرة”.

وفي عرض من التفاني الذي لا مثيل له، اختار لافي أن يروي محنته على الهواء، وهو ملطخ بالدماء.

ويقول: “لم تسمح لي الظروف الطارئة بالذهاب إلى المستشفى. مقارنة بالعديد من الأشخاص الآخرين في رفح، الذين فقدوا حياتهم أو أصيبوا بجروح خطيرة، بدت إصابتي طفيفة”.

يروي لافي وجسده يرتجف بشكل واضح: “لقد كانت اللحظة الأكثر رعبًا عندما اندفعت أكوام من الصخور عبر النافذة ذاتها التي كنت نائمًا تحتها. ربما كانت ثوانٍ قليلة فقط هي ما أنقذت حياتي”.

وبعد الانفجار، نادى على زوجته وطلب منها الاطمئنان على ابنتيهما دون مساعدته لأنه كان يعتقد أنه سيدفن حياً، مستحضراً عشرات الشهادات التي سمعها منذ بداية العدوان.

وبغض النظر عن الصدمات الشخصية، فإن أكثر ما يطارد لافي هو الخسائر الفادحة التي لا يزال يلحقها العدوان بزملائه بشكل متزايد، ويقول: “إن الاعتقاد بأن إسرائيل تستهدف الصحفيين أمر مرعب”.

إن ذكريات زملائهم الصحفيين الذين واجهوا عواقب وخيمة لمجرد قيامهم بواجباتهم المهنية في غزة هي تذكير صارخ بالمخاطر التي يواجهونها يومياً.

ومع الفوضى التي تعاني منها البنية التحتية في غزة، يواجه لافي، مثل بقية الصحفيين، تحديات إضافية.

ويقول: “أبحث عن الكهرباء لأتمكن من شحن هواتفي، وأعتمد على الطاقة الشمسية المحدودة للمنزل، إن أساسيات معدات السلامة الصحفية بعيدة عني. وحتى التنقل أصبح يشكل خطراً كبيراً، نظراً للتقارير التي تفيد باستهداف المركبات المتحركة”.

قصص مؤلمة 

لقد عزز هشام زقوت، مراسل الجزيرة، مشاعر لافي، حيث قال: “إن القصف على قطاع غزة لا يتوقف، المستشفيات والأسواق والمخابز، لا يوجد مكان آمن، كما إن الصحفيين يتم استهدافهم عمداً”.

وقد ظهر ذلك واضحاً من خلال الهجمات على أماكن تجمع الصحفيين، بما في ذلك المجمعات السكنية.

إن قصص الصحفيين كجمال الفقعاوي، ووائل الدحدوح، وخالد الأشقر تفطر القلب بشكل خاص، فقد فقدوا جميعاً أفراداً من عائلاتهم في الغارات الجوية.

تتعمق المراسلة شروق شاهين في الواقع المؤلم الذي يعيشه الصحفيون، معتقدة أن الاعتداءات الصارخة على الطواقم الإعلامية هي استراتيجية تعكس الهجوم على الخدمات الأساسية الأخرى في غزة.

وتقول شاهين: “هناك تشابه مثير للقلق بين المعاملة التي تلقتها الطواقم الصحفية والهجمات على الفرق الطبية والمسعفين وعمال الإنقاذ”.

بالنسبة لها، فإن النية وراء هذا الاستهداف واضحة، إنها محاولة لتعمية العالم وإسكات الأصوات التي تؤرخ للفظائع الشنيعة التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة