بقلم عاينه خان
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
صور يومية متنوعة لغزة تلك التي التقطها المصور الفلسطيني مجد العرندس على أمل أن يراها العالم يوماً ما، فهنا صورة تظهر يدي امرأة فلسطينية مجعدتين بينما تغربلان الزيتون الأخضر، وهناك صورة تلتقط قفزة لشاب على شاطئ غزة، وأخرى تعكس صورة ضبابية لطاووس يركض، وغيرها ترسم جمال غروب الشمس حيث يتساقط قوس قزح على مخيم النصيرات للاجئين.
لكن المصورين في جميع أنحاء الشرق الأوسط دخلوا يوم الأربعاء في حالة حداد بعد أن تبين أن زميلهم الشاب البالغ من العمر 29 عامًا قُتل في غارة جوية إسرائيلية.
بالنسبة للذين عرفوه، كان المصور الذي علم نفسه بنفسه عمًا حنوناً يحب ابنتي أخيه والبحر الأبيض المتوسط الذي يداعب شواطئ غزة.
ولد العرندس عام 1994 في مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، ثم بدأ في تصوير العالم من حوله في العام 2017 بعد مشاهدة البرامج التعليمية على اليوتيوب وتصفح مواقع التصوير الفوتوغرافي.
قالت ريتا قبلان، وهي مصورة صحفية لبنانية أمريكية مقيمة في بيروت والتي أصبحت صديقة لعرندس عبر إنستغرام منذ عدة سنوات: “تصويره لطيف للغاية، ويأتي من عين حنونة”.
وتابعت:” بوسعك معرفة أنه كان شخصًا حساسًا من خلال صوره الفوتوغرافية، فقد كان يلتقط صوره بمهارة نابعة من مشاعره”.
إحدى أكثر الصور المؤثرة التي التقطها العرندس كانت عن جدته الراحلة بهجة.
لقد صور جدته البالغة من العمر 86 عامًا العام الماضي وهي تبتسم فخورة بثوبها الفلسطيني وهو ثوب مطرز تقليدي عائد لمدينتها الأصلية، أسدود، والتي اضطرت إلى الرحيل عنها إبان كارثة النكبة عام 1948.
وتظهر الصورة نقاط الضعف في حب الحفيد لجدته، ممزوجة ببهجة نابعة من حبها لزراعة الأشجار ورعايتها والطهي في الهواء الطلق بعيداً عن صخب مخيم اللاجئين الذي انتقلت إليه بعد زواجها عام 1953.
لم يكن باستطاعة العرندس كما هو حال معظم سكان غزة السفر أو البحث عن فرص عمل خارج غزة بسبب الحصار الإسرائيلي غير القانوني والمستمر منذ 17 عامًا.
وبسبب عدم قدرته على مغادرة غزة، لجأ العرندس إلى تعزيز صداقاته مع العالم الخارجي وإقامة علاقات مهنية عبر الإنترنت مع أشخاص لم يتمكن من مقابلتهم جسديًا.
وكانت ريتا قبلان من بين الذين تواصل معهم العرندس عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبح الاثنان صديقين بعد 4 آب/ أغسطس 2020، عندما أدى انفجار في مرفأ بيروت إلى مقتل 215 شخصًا وتدمير أجزاء من العاصمة.
وذكرت قبلان أن من الظروف المشتركة التي عاشها كل منهما كان نقص الكهرباء والأزمات الاقتصادية التي أصابت غزة وبيروت بالشلل.
وخلال عام 2018، تطوع العرندس في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، حيث قام بتصوير طواقم الإسعاف أثناء معالجة الجرحى في قطاع غزة الذين أصيبوا خلال “مسيرة العودة الكبرى” الاحتجاجية.
استخدم الجنود الإسرائيليون الرصاص الحي ضد الفلسطينيين المحتجين على طول حدود غزة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 200 متظاهر سلمي وإصابة حوالي 10,000.
ومنذ 7 تشرين الأول / أكتوبر، شرعت إسرائيل بشن غارات لا هوادة فيها على غزة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 9000 فلسطيني، بينهم أكثر من 3600 طفل قبل أن تبدأ الهجوم البري هذا الأسبوع.
تحولت غزة مرة أخرى إلى مسرح للرعب، حيث يعتمد العالم على الصحفيين المحليين لأن وسائل الإعلام الدولية محرومة من الوصول إلى القطاع.
كان العرندس قد اضطر لسوء الحظ إلى بيع كاميرته بسبب الوضع الاقتصادي الصعب في غزة تحت الحصار الإسرائيلي، لكنه، ومع بداية الحرب بدأ في استخدام كاميرا هاتفه المحمول لتوثيق أحداثها.
وفي رسالة بعث بها إلى قبلان في 15 تشرين الأول/ أكتوبر، أرفقها بمقطع فيديو يظهر غزة وهي تغرق في الظلام كتب العرندس:” غزة مظلمة كما لو كانت مدينة أشباح، لا يوجد هنا كهرباء منذ أيام”، لكن الضوء الوحيد الذي لاح من الأفق جاء من النيران التي تسببت بها الغارات الجوية الإسرائيلية.
الطاووس يجري على الأرض
ومع أصوات الطائرات الحربية والقصف المسموع في الخلفية، كثيرا ما كان عرندس يرسل إلى قبلان مقاطع فيديو عن ابنتي أخيه.
وقال لها في إحدى رسائل الواتساب:” نفعل المستحيل لإلهاء الأطفال حتى لا يخافوا من القصف، ألعب معهم، نشاهد اليوتيوب، أجعلهم يرسمون كي يفرغوا طاقاتهم “.
ووصف معن حماد، وهو مصور فوتوغرافي فلسطيني مقيم في الضفة الغربية المحتلة، العرندس بأنه “المصور اللطيف وصاحب الشخصية الأكثر عاطفيةً في غزة”.
وتابع:” لقد كان راويًا يحب عرض الحياة التي عاشها الفلسطينيون واستكشافها، من خلال عرض صور الأطفال وهم يقفزون ويلعبون”.
وأضاف:” لقد كان عمًا رائعًا لطفلتين جميلتين، حتى الآن لا نعرف حتى ما إذا كانتا على قيد الحياة، لقد كان إنساناً يستحق أن يكبر في بلده، وأن يكون حراً في بلده، وأن يلتقي بزملائه، ويحكي قصته”.
ولم يتبين بعد مكان استشهاد العرندس، أو ما إذا كان أي شخص آخر قد قُتل أو جُرح إلى جانبه.
وقبل أسبوعين من مقتله، طلب مركز Gulf Photo Plus ، وهو مركز للتصوير الفوتوغرافي في دبي، من العرندس أن يرسل تسجيلاً للمشاركة في أحد الأحداث يتحدث فيه عن تجاربه كمصور صحفي في غزة.
وقال العرندس في التسجيل:” لقد وثقت القنابل الإسرائيلية التي استهدفت منازل المدنيين، المنازل مليئة بالنساء والأطفال والمسنين”.
وفي إحدى الرسائل المسجلة، وصف رؤية جثث الأطفال مقطوعي الرؤوس الذين قتلوا في غارة جوية إسرائيلية قائلاً: “في كثير من الأحيان، لا أستطيع أن أجبر نفسي على توثيق هذه المشاهد بسبب فظاعتها، أنا غير قادر على التعامل مع ما تراه عيني”.
وسأل مدير المركز، محمد سومجي العرندس عما إذا كانت هناك أي صور من غزة يريد أن يعرضها المركز.
وقال سومجي عن الصور الأولية التي قدمها العرندس:” كانت الصور للدمار في غزة، ولكن بعد ذلك كتب لي مجد قائلاً: محمد، لا أريد مشاركة هذه الصور، أريد أن أشارك صور المقاومة والحياة”.
فبعد أن شاهد زملائه من سكان غزة وهم يأكلون الزعتر والجبن، ويعيدون شحن هواتفهم بالطاقة، ويضحكون على الرغم من القصف الذي يحيط بهم، اختار العرندس إرسال صور تلتقط الحياة اليومية للفلسطينيين بدلاً من الصور المؤلمة.
وعلق العرندس في تسجيله الصوتي:” حتى يتمكن العالم من رؤية جمال غزة على الرغم من الصعوبات التي يعاني منها شعبها”.
وأوضح في إحدى رسائله الأخيرة إلى سومجي:” إنه شيء غريب، رأيت أطفالاً يلعبون، ورجالاً يتحدثون، وأناساً معاً، وهذا ما يحدث على الرغم من كل ما نمر به”.
وقُتل ما لا يقل عن 46 صحفياً وعاملاً في مجال الإعلام في غزة منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر، وفقاً للجنة حماية الصحفيين.
ولذلك عمد سومجي وزملاؤه المصورون المقيمون في الشرق الأوسط على إنشاء شبكة دعم غير رسمية عبر الإنترنت حتى يتمكنوا من التحقق بانتظام من وجود أقرانهم الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
ومع اشتداد القصف الإسرائيلي على قطاع غزة وسط احتجاجات عالمية وتزايد الدعوات لوقف إطلاق النار من جميع أنحاء العالم، قال العرندس لسومجي في إحدى رسائله إنه يشعر بأنه “منكسر”.
وفي إحدى رسائله الأخيرة قال:” في هذه اللحظة، أنا على قيد الحياة، لكنني لا أعرف إذا كنت سأنجو أو ربما سيأتي دوري وأقتل على يد إرهابيي جيش الاحتلال الإسرائيلي”.
يقاسون شراسة العدوان الإسرائيلي المتواصل
وقال سومجي عن العرندس، الذي كان يتحدث معه يومياً تقريباً عبر تطبيق واتساب قبل استشهاده:” طوال هذه المحنة، كان هادئاً ومتواضعاً للغاية”.
وأضاف سومجي: “كان يضع إعجابه دائمًا على كل قصصي التي أنشرها على انستغرام، وعندما توقف عن ذلك، أدركت أن هناك خطأ ما، لكني شعرت بالارتياح عندما علمت أن شمله قد التم بجدته”.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)