بقلم ماركو كورنيليوس
ترجمة وتحرير مريم الحمد
قبل 3 سنوات تقريباً، كنت قد كتبت في موقع ميدل إيست آي محذراً من أن سياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن لاحتواء الصين وروسيا وإيران لم تعد قابلة للتطبيق.
وفي أواخر أكتوبر، نشرت مجلة الإيكونوميست مقالاً بعنوان “القوة العظمى المستنزفة”، وصفت فيه عملية التوازن المعقدة التي تواجه واشنطن اليوم بسبب الموارد التي أصبحت محدودة أكثر من قبل بالإضافة إلى انقسامات داخلية تتزايد في مشهد جيوسياسي متعدد الأقطاب ومليء بالتحديات، فباتت واشنطن تشعر بأنها مضطرة إلى إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا وإسرائيل وتايوان في آن معاً!
قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أخيراً أنه “كما لإسرائيل الحق في محاربة حماس، فإن من حق حماس أن تقاتل أيضاً، ومن الضروري السعي لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، لأن حياة كل إنسان مهمة، سواء كانت إسرائيلية أو فلسطينية”، وأنا أقول لها أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً!
اليوم، خرجت أوكرانيا من دائرة الاهتمام، مما رجح كفة حرب الاستنزاف والجمود لصالح روسيا، فيما تحركت عجلة الحوار الصيني الأمريكي وإن كان على استحياء،بسبب تشكك بكين من مستقبل تلك العلاقة.
أما إسرائيل، فهي صاحبة الحظ الأوفر في اهتما واشنطن، حيث تعمل الولايات المتحدة على تجديد الانتشار العسكري في المنطقة لضمان عدم تصاعد الصراع من غزة إلى نطاق أوسع، فإلى متى تنجح تلك الاستراتيجية وما هو الثمن؟
أشارت مجلة الإيكونوميست إلى أن واشنطن “تساعد أوكرانيا باسم ميثاق الأمم المتحدة وحرمة الحدود السيادية وحقوق الإنسان”، وللمفارقة، فإنها بدفاعها عن إسرائيل، تدعم الدولة التي تنتهك القانون الدولي ببناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، وترفض إقامة دولة للفلسطينيين، وتتهم بفرض عقوبات جماعية على الفلسطينيين ناهيك عن جرائم الحرب في قصفها وحصارها لغزة”.
كانت الولايات المتحدة قادرة على جمع بعض الدعم العالمي لمعارضة روسيا في أوكرانيا، واحتواء الصين، إلا أن الصراع في غزة قصة مختلفة، فالأوروبيون بدأوا يعيدون التفكير، حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعا إلى وقف إطلاق النار قبل أيام.
وبعد شهر من القصف ومقتل أكثر من 10 آلاف فلسطيني، نصفهم تقريباً من الأطفال، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أخيراً أنه “كما لإسرائيل الحق في محاربة حماس، فإن من حق حماس أن تقاتل أيضاً، ومن الضروري السعي لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، لأن حياة كل إنسان مهمة، سواء كانت إسرائيلية أو فلسطينية”، وأنا أقول لها أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً!
النفاق في الألفاظ
أتساءل هنا عما إذا كان بإمكان الاتحاد الأوروبي ترميم الضرر الذي لحق بسمعته وبالمصداقية العالمية للمشروع الأوروبي ككل، خاصة مع تجاهله بوضوح فج للقيم التي يطالب بها باستمرار، ما الفائدة إذن بعد أن أصبحت غزة “مقبرة للأطفال”، ففي شهر واحد فقط، قتلت إسرائيل من المدنيين عدداً أكبر مما قتلته روسيا في أوكرانيا خلال عامين تقريباً، وبعبارة أكثر فجاجة، فإن عدد الأطفال الذين قتلوا في غزة حتى الآن يتجاوز عدد الأميركيين الذين قتلوا في 11 سبتمبر.
قلق بايدن حول مقتل 11 ألف شخص في غزة هو قضية علاقات عامة، وأرق مقلق حول البحث عن طرق لتشتري إسرائيل المزيد من الوقت
لا شك أن التصويت الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد الحظر، الذي عفا عليه الزمن، يسلط الضوء على العزلة الرهيبة التي تعيشها واشنطن وتل أبيب عن العالم بأسره، فقد صوتت 187 دولة ضد الحظر، فيما صوتت الولايات المتحدة وإسرائيل فقط لصالح الإبقاء عليه، ورغم تكرار نقاش مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، إلا أن الولايات المتحدة أصرت على معارضته.
يبدو أن واشنطن لا تريد الذهاب إلى ما هو أبعد من مجرد “وقف إطلاق النار”، فالنفاق في الألفاظ يعني ضمناً التوقف لمدة قصيرة عن القصف على غزة وهجومها البري، ووفقاً للصحفي الإسرائيلي باراك رافيد، فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مؤخراً موقف بلاده السخيف عندما أخبر الإسرائيليين أن “الموافقة على هدنة إنسانية ستخفف الضغوط عن واشنطن وتساعد بدورها إسرائيل على كسب المزيد من الوقت لهجومها البري”.
من الواضح إذن أن قلق بايدن حول مقتل 11 ألف شخص في غزة هو قضية علاقات عامة، وأرق مقلق حول البحث عن طرق لتشتري إسرائيل المزيد من الوقت، وعليه، فليس من المستغرب أن تزداد عزلة الولايات المتحدة وإسرائيل يوماً بعد يوم، في وقت يكافح فيه بلينكن للحصول على دعم عربي لموقف بلاده.
لقد اعتدنا أن تكون سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قائمة على الأفعال لا الكلمات، فاقتراح تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لإسرائيل بقيمة 14 مليار دولار، واستخدام الفيتو في مجلس الأمن، والإصرار الرسمي بعدم وقف إطلاق النار، كلها عوامل تترك انطباعاً سلبياً، بغض النظر عن خطب المسؤولين الأميركيين الرنانة.
ثمن باهظ
قد تنجح الولايات المتحدة في إدارة توسعها العسكري المستنزف مرحلياً، وتتمكن من توفير الحماية السياسية لإسرائيل، ولكن الثمن الذي تخاطر واشنطن بدفعه سوف يكون باهظاً، حتى أنه قد يرتفع إذا تأكدت نية التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين في غزة إلى مصر وساندتها واشنطن في ذلك أيضاً.
ألمح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى أن إسرائيل سوف تحتفظ بالمسؤولية الأمنية على غزة بعد انتهاء الحرب، ليؤول مصيرها إلى مصير الضفة الغربية، حيث يعيش الفلسطينيون تحت الوصاية الأمنية لإسرائيل.
تعتبر هذه الخطة تطهيراً عرقياً تم وضعه في إطار مبادرة إنسانية طبعاً، ولكن إذا ما نظرنا إلى التاريخ، فسوف ندرك أن إسرائيل لا يمكن أن تسمح بعودة فلسطيني غادر غزة أبداً، فبعد مرور 75 عاماً على النكبة الأولى، كأننا اليوم نرى ملامح نكبة ثانية، يحاول الإسرائيليون تسويقها أمام “المجتمع الدولي الغربي” المخدوع بأنها جهد إنساني لإنقاذ الفلسطينيين، تقوده الولايات المتحدة، أو بتعبير أكثر دقة، تضلله.
بل أبسط من ذلك، فمحاولات تحديد ملامح “اليوم التالي” في غزة قد تؤدي إلى تعقيد الأمور، فالأفكار الغريبة غير الواقعية، مثل إعادة إنشاء سلطة فلسطينية لا تحظى بشعبية كبيرة في غزة، أو “إدارة دولية” غامضة، ما هي إلا محاولات لخدمة إسرائيل، لكنها تظل أفكاراً خيالية تطرحها مؤسسات الفكر والرأي الغربية في انفصال عن الواقع فلن يتدخل أي طرف ثالث لحكم غزة.
ألمح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى أن إسرائيل سوف تحتفظ بالمسؤولية الأمنية على غزة بعد انتهاء الحرب، ليؤول مصيرها إلى مصير الضفة الغربية، حيث يعيش الفلسطينيون تحت الوصاية الأمنية لإسرائيل.
من جهة أخرى، تراقب موسكو وبكين وطهران ما يحدث عن كثب، فقد شكلت إيران مصدر إزعاج محدود للانتشار الأمريكي في المنطقة وسط توترات تمت إدارتها بعناية.
الحقيقة أنه إذا بدأ العمل بطريقة منسقة بين الجبهات المختلفة، فمن الممكن تغير قواعد اللعبة، وقد يصبح هذا التوسع الأميركي المفرط مستنزفاً وغير قابل للاستمرار، وفي ظل ذلك، قد يقترب يوم 7 أكتوبر 2023 من يوم 28 يونيو 1914.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)