بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
من فوق أنقاض كنيسة ودير يعود تاريخهما إلى القرن الرابع على جبل نيبو في الأردن، تنفتح فلسطين أمام أعين ناظرها كسجادة مترامية الأطراف، فيظهر وادي الأردن أولاً ثم أريحا وفي الأفق تتلألأ أضواء القدس.
هذا هو المكان الذي اختاره زعماء المسيحية كرمز للسلام، ففي عام 2000، قام البابا يوحنا بولس الثاني بغرس شجرة زيتون بجوار الكنيسة البيزنطية، كما زار البابا بنديكتوس 16 المكان بعد بضع سنوات.
“إلى أبو عبيدة، الشخص الوحيد الذي ذكر فضل الأردن وأن الأردن كابوس الصهاينة، فلسطين بالنسبة لنا ليست حجارة وطين، فلسطين عند الأردنيين ليست تيناً وزيتوناً، فلسطين بالنسبة للأردني عقيدة ودين، من المزار تحية لأبي عبيدة، ومن الكرك الأبية تحية لغزة” – زعيم عشائري في الأردن
جدير بالذكر أن أقرب معبر على الحدود الأردنية قريب من الطرف الجنوبي لتل أبيب تماماً مثل غزة، وهذا أمر يحسن بقادة إسرائيل وشعبها تذكر هذه الحقيقة البسيطة، فلا ينبغي لنظرهم إلى لبنان أو مصر أن يصرفهم عن جبهة الشرق في الأردن كمسرح لأي تداعيات، فقد اهتزت الأردن فعلاً بسبب محاولات إسرائيل لتفريغ غزة من شعبها.
رسمياً، اتهمت الملكة رانيا، الزعماء الغربيين باتباع “معايير مزدوجة” نتيجة فشلهم في إدانة قتل المدنيين في القصف الإسرائيلي، كما صرح رئيس الوزراء، بشر الخصاونة، بأن تهجير الفلسطينيين خط أحمر بالنسبة للأردن وانتهاك أساسي لمعاهدة السلام التي أبرمتها بلاده مع إسرائيل، فيما اعتبر وزير الخارجية أيمن الصفدي ذلك بمثابة “إعلان حرب”.
منذ السبعينيات، كان الفلسطينيون، الذين يشكلون 60 % من سكان الأردن ويحملون الجنسية الأردنية باستثناء اللاجئين من غزة، يعتبرون أنفسهم متفرجين في كل مرة تندلع فيها الحرب
وعلى الصعيد الشعبي، هناك غضب متصاعد، فعندما دعا أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب القسام، الأردنيين إلى النهوض، كان الرد سريعاً للغاية، فهتف زعيم عشائري في المزار قائلاً “إلى أبو عبيدة، الشخص الوحيد الذي ذكر فضل الأردن وأن الأردن كابوس الصهاينة، فلسطين بالنسبة لنا ليست حجارة وطين، فلسطين عند الأردنيين ليست تيناً وزيتوناً، فلسطين بالنسبة للأردني عقيدة ودين، من المزار تحية لأبي عبيدة، ومن الكرك الأبية تحية لغزة”.
معاهدة السلام لإعادة التقييم
لا يمكن التغاضي كذلك عن حقيقة ارتفاع الدعم بين الأردنيين لحركة حماس،والتي تعتبر منظمة إرهابية بالنسبة لإسرائيل ودول أخرى، ليس من ضمنها الأردن، ولذلك كان الخصاونة واضحاً، أي تهجير قسري للفلسطينيين من أي جزء من فلسطين يمكن أن يكون سبباً في تمزيق معاهدة السلام مع إسرائيل بعد صمودها 30 سنة حتى الآن.
ما جاء على لسان الخصاونة تصدقه سطور الوثيقة، حيث تنص المادة 2.6 من المعاهدة التي وقعها الملك حسين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق رابين، على أنه “في نطاق سيطرتهما، لا يجوز السماح بالتحركات القسرية للأشخاص بطريقة تضر بأمن أي من الطرفين”.
بناء على ذلك، لم يكن من قبيل الصدفة قيام البرلمان الأردني بمراجعة المعاهدة، أو إعلان الأردن بوضوح رفض التوقيع على اتفاق بوساطة إماراتية يقوم الأردن بموجبه بتزويد إسرائيل بالكهرباء مقابل المياه.
دعونا نتوقف قليلاً عند شخصية سياسية أردنية تعتبر مستودعاً للتقلبات العنيفة في علاقات الأردن مع إسرائيل، هو مروان المعشر، الذي يعمل الآن نائباً لرئيس الدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فقد افتتح المعشر سفارة الأردن الأولى في إسرائيل، وكوزير للخارجية، لعب دوراً مركزياً في تطوير مبادرة السلام العربية لعام 2002، فإذا كان ثمة من يؤمن بمبدأ الأرض مقابل السلام فهو المعشر بالتأكيد.
أما اليوم، فقد تحولت لهجته إلى التشاؤم، مشيراً إلى أن القصف الإسرائيلي على غزة سبب رئيسي في إحياء المخاوف الأردنية القديمة من احتمال قيام إسرائيل باستخدام الحرب من أجل دفع الفلسطينيين من غزة إلى مصر، ومن الضفة الغربية المحتلة إلى الأردن.
يمكن القول أن ما يحدث الآن في الأردن هو إيقاظ الهوية الفلسطينية، وهذا له آثار ضخمة، فبالنسبة للجماعات الفلسطينية المسلحة، قد يفتح ذلك الباب على مخزون هائل من المجندين المحتملين والأموال والأسلحة
ولا تعد رغبة إسرائيل بالتهجير القسري أمراً سرياً، فمن الناحية الأيديولوجية، يرى حزب الليكود، منذ عهد مناحيم بيغن، أن الأردن وطن بديل للفلسطينيين، حتى أن وزيران في الحكومة الحالية عن الحزب يقولانها صراحة، بأنه ليس للفلسطينيين الحق في العيش في الضفة الغربية، أحدهما وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أول وزير في الحكومة يشرف على الحياة المدنية في الأراضي المحتلة.
كتب المعشر في تعليق لكارنيغي مؤخراً، كتب المعشر “من وجهة نظر الأردن، أصبح التهجير الجماعي احتمالاً حقيقياً، وليس مجرد حجة نظرية، فإذا كانت إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية، فليس أمامها سوى التخلص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، ورغم أن الحرب تقتصر على غزة حتى الآن، إلا أن الأردن يشعر بالقلق من أن يعقب التصعيد في غزة تصعيد مماثل في الضفة الغربية.
ويوضح المعشر ذلك بقوله أن “مجموعات المستوطنين تقوم بالفعل بمداهمة القرى الفلسطينية يوميًا بدعم من الجيش الإسرائيلي، مما يؤدي إلى طرد الفلسطينيين منها، وهذا يخلق الانطباع بأن المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية يرون في الحرب الحالية في غزة فرصة للتطهير العرقي في الضفة الغربية”.
مخاوف من حرب دينية مقدسة
لم يتكرر دفء العلاقة بين الملك حسين ورابين في العلاقات الأردنية الإسرائيلية، فالملك عبد الله، رغم تعليمه في ساندهيرست وميوله الأطلسية، لم يتمكن من تكرار تجربة والده، بل لقد استخدمت إسرائيل الأردن في عهده، كمنطقة عازلة في أحسن الأحوال، ولم يغب عن العائلة الحاكمة الأردنية أن أحد المحركات الرئيسية للدفع نحو التطبيع مع السعودية كانت خطة إسرائيل لتحل محل دور الأردن التاريخي كخادم للأماكن المقدسة في القدس، وتزايدت المخاوف من أن تؤدي تغييرات إسرائيل للوضع الراهن في المسجد الأقصى إلى إشعال حرب مقدسة مع العالم الإسلامي.
في أسوأ الأوقات، كانت إسرائيل تنظر إلى الأردن باعتباره مصدر إزعاج يجب تجاوزه مع الفلسطينيين، من خلال الصفقات التجارية مع دول الخليج الغنية بالنفط والغاز، كل هذا تراكم في أذهاننا منذ وقت طويل سبق تلويح نتنياهو بخريطة إسرائيل، التي مُحيت منها فلسطين، في الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفيما يبدو أن هناك سبباً أعمق لإنزعاج الأردن يجعلني متيقناً من عدم سماح الأردن لإسرائيل بالنجاح في تدمير غزة، فمنذ السبعينيات، كان الفلسطينيون، الذين يشكلون 60 % من سكان الأردن ويحملون الجنسية الأردنية باستثناء اللاجئين من غزة، يعتبرون أنفسهم متفرجين في كل مرة تندلع فيها الحرب.
بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، فقد الفلسطينيون في الأردن كل إحساس بأنهم متورطون في الصراع، فلم يسمح الملك حسين آنذاك لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية بأن يكون لها أي تواجد في الأردن، وعندما أصبحت حماس مهيمنة في الشتات الفلسطيني، تم طردها هي الأخرى.
يذكر أن العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وحماس، كما وصفها أحد الأعضاء البارزين، علاقة “معقدة ومثيرة للجدل” خاصة بعد أن نقلت حماس قيادتها من الأردن إلى سوريا عام 1999، ولم تهدأ الخلافات إلا مع اتفق الطرفين على التعايش، ولكن نتيجة ذلك كانت أنه حماس ليس لديها عضوية أو تنظيم جذري في الأردن، على عكس لبنان أو سوريا.
تصاعد نسبة الخطر
اليوم، أخذت المحادثات بين الفلسطينيين في عمّان خطوطاً مختلفة تمامًا، حتى قال لي أحد الفلسطينيين في العاصمة الأردنية عمان، “نحن في الأردن، فلسطينيون وأردنيون، لدينا روابط أوثق مع فلسطين من زعيم حزب الله حسن نصر الله، فنحن من الطائفة السنية، وقبائلنا واحدة، كيف نلوم حزب الله لأنه لم يشارك بقوة في الحرب بينما نشارك نحن فقط في المظاهرات؟!! هذا لا يمكن أن يستمر”.
يمكن القول أن ما يحدث الآن في الأردن هو إيقاظ الهوية الفلسطينية، وهذا له آثار ضخمة، فبالنسبة للجماعات الفلسطينية المسلحة، قد يفتح ذلك الباب على مخزون هائل من المجندين المحتملين والأموال والأسلحة، فدعم حماس يتجاوز الانقسامات العرقية في الأردن، وهذا ما يظهر مما ورد على لسان أحد زعماء عشيرة الفايز من قبيلة بني صخر، طراد الفايز، لصحفي محلي، قال “كلنا ندعم حماس والمقاومة، الأردنيون والفلسطينيون متحدون ضد إسرائيل”.
لا يعلمون أن إسرائيل، بتدميرها غزة، تفتح جبهة ضخمة على جناحها الشرقي
لا تحتاج حماس إلى القيام بأي حملة في الأردن، فأكبر الحوافز للتحرك نابعة من عنف المستوطنين والجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، فقد ظهرت مؤخراً على صفحة فيسبوك رسالة مفادها “إلى أهل جنين… أمامكم 9 أيام… ارحلوا الآن… هاجروا إلى الأردن”، مرفقة بفيديو يظهر الطريق الذي يجب أن يسلكه فلسطينيو جنين إلى إربد في شمال الأردن، وسرعان ما أغلق حساب فيسبوك الخاص بالصفحة بعد وابل من الشكاوى.
بعد أيام من رسالة الفيسبوك، أعلن الجيش الإسرائيلي أن جنين منطقة عسكرية مغلقة، في عملية لا تزال مستمرة!
وتكمن المفارقة في أن معظم جنود الاحتياط الذين يستدعيهم الجيش الإسرائيلي يأتون من عائلات المستوطنين، وفقاً لمعلومات السيناتور الأمريكي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات، ومن هنا يعد التأمل بأن الجيش سيعمل على الحد من الهجمات على البلدات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة هو الحمق بعينه.
مع مرور كل يوم من أيام حرب غزة، تزداد المخاطر على المنطقة، كما أن الاعتقاد السائد في واشنطن بإمكانية تهدئة الوضع الفلسطيني من خلال استئناف العملية نفسها هو خطأ جوهري، فالمستوطنون الإسرائيليون يريدون القضاء على على الدولة الفلسطينية إلى الأبد.
يعد المزاج السائد في إسرائيل قاسياً هذه الأيام، فإسرائيل تريد القتال حتى النهاية، ولذلك لن يؤدي وقف إطلاق النار في غزة إلى إيقاف ذلك، ولكنهم لا يعلمون أن إسرائيل، بتدميرها غزة، تفتح جبهة ضخمة على جناحها الشرقي، وهي الجبهة التي ظلت هادئة طوال 50 عاماً مضت، لكنها لن تكون كذلك بعد الآن!
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)