بقلم ديفيد هيرست
هناك رجل أعرب عن ابتهاجه برؤية صور رجال فلسطينيين من بيت لاهيا في شمال غزة وقد جردوا من ملابسهم، حفاة عراة، سوى من الملابس الداخلية، وقد أجبروا على الجلوس في الشارع – رغم أن هذه الصور صدمت بقية العالم وجعلته يتقزز بنفس الدرجة..
إنه آرييه يتسحاق كينغ، نائب عمدة القدس.
كتب كينغ تغريدة، عبر موقع إكس – تويتر سابقاً، قال فيها: “لو كان الأمر بيدي، لأرسلت جرافة دي 9، ولوضعتهم خلف أكوام الركام، ولأصدرت أمراً بدفنهم جميعاً، هؤلاء النمل، وهم لا يزالون على قيد الحياة”.
كينغ هذا مواطن بريطاني، هاجر والداه من بريطانيا إلى إسرائيل. ارتقى إلى رتبة ملازم في لواء غيفعاتي التابع للجيش الإسرائيلي، ومنذ ذلك الوقت ورسالته في الحياة هي تهويد القدس الشرقية. ما زال كينغ يحمل الجنسية البريطانية.
في عام 2020 كتب إلى بوريس جونسون، الذي كان حينها رئيس وزراء بريطانيا، يشكو من تعبير بريطانيا عن “قلقها البالغ” بسبب بناء المستوطنات داخل منطقة القدس.
قال في رسالته إلى جونسون: “كمواطن بريطاني، وكذلك نظراً لأنني أنحدر من عائلة ترتبط بعلاقات وثيقة مع حزب المحافظين في بريطانيا، فقد أدهشني وسبب لي الامتعاض أن أقرأ أن بريطانيا انضمت إلى عدد من البلدان الأوروبية في “تكرار التعبير عن القلق الشديد” بخصوص الإنشاءات داخل منطقة القدس”.
وقال كينغ إن البناء داخل القدس شأن إسرائيلي داخلي، وكما أن إسرائيل لا ترى أن من شأنها مناقشة أو الاعتراض على حدود لندن أو باريس، فإنه كان يتوقع نفس الاحترام من قبل “حكومتكم”.
تبرير جرائم الحرب
كمواطن بريطاني، ينبغي أن يكون كينغ موضع اهتمام الفريق المعني بالتحقيق في جرائم الحرب داخل الشرطة البريطانية، وهو الفريق الذي تناط به مسؤولية دعم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في أي جرائم حرب ارتكبت من قبل إسرائيل أو حماس في المنطقة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول).
وفيما لو ظهر كينغ داخل بريطانيا، فقد يكون من الواجب التحقيق معه حول تصريحات صدرت عنه بشأن الشعب الفلسطيني مثل قوله: “إنهم ليسوا كائنات بشرية، وليسوا حيوانات بشرية، بل هم دون البشر، وهكذا ينبغي أن يتم التعامل معهم”. ومثل قوله: “اقضوا على ذكرى العماليق، ولا تنسوا أبداً”.. والعماليق لفظة تشير إلى ما ورد في نص توراتي يتضمن دعوة إلى إبادة كل رجل وامرأة وطفل، بل وكل مواشيهم، ممن كانوا ينتمون إلى عدو قديم للشعب اليهودي..
إلا أن كينغ ليس فريداً من نوعه.
هناك أيضاً إيلون ليفي، الذي ينحدر من شمال لندن، والذي أصبح متحدثاً باسم الحكومة الإسرائيلية. ظل ليفي باستمرار يسعى إلى التقليل مما تحدثه حملة القصف الإسرائيلية من فتك بأهل غزة. وفي سبيل ذلك استخدم ليفي بيانات، ثبت فيما بعد أنها باطلة، في محاولة منه لإثبات أن إسرائيل إنما تحدث أقل من 0.8 بالمائة من الوفيات في كل ضربة جوية. وعن ذلك غرد ليفي قائلاً: “هذا هو ما يُقصد بالقول إن ذلك دقة رائدة على مستوى العالم”.
أما بيتر ليرنر، الذي هاجر إلى إسرائيل من كينتون، شمال لندن، عندما كان في الثانية عشرة من عمره، فغدا الوجه الذي يمثل الجيش الإسرائيلي. برتبة مقدم، عين ناطقاً باسم الجيش، حيث تناط به مهمة الحديث مع وسائل الإعلام الدولية. رفض ليرنر فكرة أن رد الجيش الإسرائيلي لم يكن متكافئاً، وقال في مقابلة مع إذاعة ’إل بي سي’ إن التكافؤ يتعلق “بالضرورة العسكرية” وليس بعدد من يقتلون من المدنيين.
عند كتابة هذه المقال كان عدد من قضوا نحبهم من الفلسطينيين قد تجاوز الثمانية عشر ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال.
لكم أود رؤية ليرنر وليفي وهما يدافعان عن هذه الأرقام من الوفيات أمام المحكمة الجنائية الدولية أو أمام أي محكمة تابعة للقضاء في بلدهما الأصلي، بريطانيا. فكلاهما، كما يبدو لي، إنما يبرران جرائم الحرب.
ثم هنالك المقدم ريتشارد هيكت، العسكري الأسكتلندي الذي يستخدم صوتاً معبراً عن الجيش الإسرائيلي. خلال الأيام الأولى من الحرب، توعد هيكت، الذي انتقل إلى إسرائيل مهاجراً من بلدة نيوتون ميرنز في ثمانينيات القرن الماضي، بأن الجيش الإسرائيلي سوف يرد “بقسوة شديدة جداً” على هجوم حماس.
ثم هناك زيكاريا دويتش، الذي أخذ إجازة وغاب عن عمله كموجه ديني يهودي في عدد من الجامعات في منطقة يوركشير، وذلك من أجل أن ينضم إلى القتال كعنصر احتياط. دويتش، المواطن الإسرائيلي الذي تناط به مهمة القيام بالتوجيه الديني للطلاب اليهود في جامعتي ليدز وشيفيلد، أرسل سلسلة من مقاطع الفيديو لطلابه يدافع بها عن الحملة التي يشنها الجيش الإسرائيلي في غزة.
يقول دويتش في أحد هذه المقاطع المصورة، والذي يظهر فيه مرتدياً الزي العسكري الإسرائيلي: “إذا كنتم تعلمون القصة الحقيقية لما لم يزل يجري هنا في إسرائيل على مدى السنوات الألف الماضية وعلى مدى السنوات المائة الماضية، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن إسرائيل تتعامل مع هذه الحرب بأقصى درجة من الأخلاقيات ومن السلوك الحسن”.
سر المقاتلين الأجانب في إسرائيل
إن العدد الفعلي لليهود البريطانيين، وحملة الجنسيات المزدوجة، الذين يقاتلون ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي، سر تحرص كل من إسرائيل والحكومة البريطانية كل الحرص على إبقائه طي الكتمان.
في تصريح لصحيفة ذي تايمز، قال سام سانك، احتياطي الجيش الإسرائيلي الذي ينحدر من ستانمور، شمال لندن، إنه من خلال أعداد أصدقائه داخل الجيش، يمكنه القول إن هناك “المئات” إن لم يكن “الآلاف” من البريطانيين الآخرين الذين يقاتلون في إسرائيل.
إلا أن العدد الحقيقي لمن يشاركون في القتال ليس السؤال الوحيد الذي ترفض الحكومة البريطانية الإجابة عنه.
إنه السؤال الذي وجهته البارونة سيدة وارسي، بعد أن استقالت من منصبها الوزاري بسبب دعم بريطانيا للعملية الإسرائيلية السابقة في غزة في عام 2014.
وهو نفس السؤال الذي يطرحه اليوم محامون يمثلون المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين (آي سي جيه بيه).
وهو السؤال التالي: “هل يعتبر جريمة جنائية أن يسافر مواطنون بريطانيون إلى إسرائيل أو إلى المناطق الفلسطينية المحتلة من أجل القتال في صفوف الجيش الإسرائيلي أو في صفوف أي كيان آخر سواء كان تابعاً للدولة أو لجهة من غير الدولة؟”.
إنه السؤال الذي لا تريد أن تجيب عنه لا وزارة الخارجية ولا وزارة الداخلية. والحقيقة هي أنه عندما توجه موقع ميدل إيست آي بالسؤال إليهم، فلم يكن من مسؤولي الإعلام لديهم إلا أن راحوا يحيلون السؤال إلى بعضهم البعض..
هناك سبب بسيط من وراء صمتهم هذا.
لو قالوا إنه ليس جريمة جنائية أن يقوم مواطن مزدوج الجنسية، يحمل الجنسيتين البريطانية والإسرائيلية، بالقتال في صفوف الجيش الإسرائيلي، باعتبار أن إسرائيل كيان تابع لدولة، فكيف يفسرون حينها حظرهم الصريح لمشاركة البريطانيين في القتال داخل أوكرانيا؟
بعد أن كشفت صحيفة ذي صن عن أن عنصراً في “غولدستريم غارد” يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً كان واحداً من أربعة جنود بريطانيين مفقودين، كانوا قد سافروا من أجل قتال روسيا في أوكرانيا، صرح غرانت شابس، الذي كان حينها يشغل منصب وزير النقل، موجهاً كلامه للجنود: “لا يمكنكم ببساطة النهوض والذهاب”، مضيفاً أن البريطانيين الذين يسافرون إلى أوكرانيا للقتال هناك يجازفون بالمساهمة في مفاقمة “وضع بالغ الخطورة”.
من الواضح أن بريطانيا لم ترغب في التورط أكثر في حرب أوكرانيا من خلال تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى، ولم تتحرج في إبلاغ مواطنيها بضرورة النأي بأنفسهم عن ساحة الوغى هناك.
ولا أدل على ذلك من أن الإرشادات الصادرة عن وزارة الخارجية تصرح بشكل لا لبس فيه بما يأتي: “إذا سافرتم إلى أوكرانيا من أجل القتال، أو من أجل مساعدة الآخرين على المشاركة في الحرب، فقد ترقى نشاطاتكم إلى ما يعتبر جرائم بموجب القوانين البريطانية، وقد تتعرضون للمحاكمة عند العودة”..
ولكن حين يتعلق الأمر بإسرائيل فلا وجود لشيء من هذه الهواجس.
حينما أثارت البارونة وارسي هذا السؤال، فإن الحكومة اختفت وراء ورقة توت الجهات التابعة للدولة والجهات غير التابعة للدولة. وقالوا كذلك إن إسرائيل لم تعلن الحرب في العملية التي شنتها في عام 2014 على غزة.
وجدت وارسي في ذلك أمراً لا يحتمل وقالت في مقابلة أجراها معها موقع ميدل إيست آي: “إذا ذهبت إلى هناك وقاتلت لصالح أي جماعة، فلسوف تعرض نفسك للمحاكمة عندما تعود. أما إذا ذهبت وقاتلت لصالح الأسد، كما أظن، فهذا لا بأس به بموجب قوانيننا. لا يمكن لهذا أن يكون صواباً”.
وأضافت: “إن السبب الوحيد في سماحنا لمثل هذه الثغرة القانونية بالاستمرار هو الجيش الإسرائيلي، لأننا لا نملك من الشجاعة ما يكفي لأن نقول إذا كنت حاملاً للجنسية البريطانية، فعليك أن تختار. لا ينبغي أن تقاتل لصالح جهة سوى دولتنا. ينبغي أن يكون ذلك واضحاً وضوح الشمس”.
إشكال عميق
عندما تم توجيه نفس السؤال داخل البرلمان، ما كان من طوم توغندات، الوزير المكلف بشؤون الأمن في وزارة الداخلية، إلا أن ذكر نقطتين تناقض إحداهما الأخرى.
أما الأولى، فهي أن بريطانيا تعترف بحق حملة الجنسيات المزدوجة في أن ينخرطوا في أداء الخدمة العسكرية في البلد الآخر الذي يحملون جنسيته – وتلك بحد ذاتها حجة تنطوي على إشكال عميق.
فهل تعترف بريطانيا بحق السوريين البريطانيين في القتال لصالح بشار الأسد؟
إلا أن توغندات مضى ليقول إن أي شخص يسافر إلى مناطق الصراع للمشاركة في نشاطات غير قانونية ينبغي أن يتوقع أن يعرض نفسه للمساءلة والتحقيق عند عودته.
ما من شك في أن كل ما يفعله الجيش الإسرائيلي بالسكان المدنيين في غزة هو عمل غير قانوني بل ويعتبر جريمة حرب من وجهة نظر القانون الدولي المتعارف عليه، بما في ذلك التشريد، والقصف البساطي، وتحويل المستشفيات إلى ميادين معارك، واستهداف المرضى الجرحى أثناء عمليات إخلائهم، وقصف الملاجئ التابعة للأمم المتحدة، وإجبار الأمهات على وضع أطفالهن الرضع على الأرض وتركهم في الطريق، وتعرية المدنيين إلا من الملابس الداخلية وإجبارهم على حمل البنادق لتصويرهم في تلك الحال.
ولا مفر إذ ذاك من أن يعرض المرء نفسه للمساءلة والمحاكمة عند عودته إلى بريطانيا إذا رضي أن يكون جزءاً من آلة عسكرية ترتكب كل هذه الجرائم الفظيعة، سواء كان هذا المرء مقاتلاً أم ناطقاً رسمياً باسم الجيش.
هل من الوارد أن يحدث ذلك؟
لن تتورع الحكومة البريطانية تحت أي رئيس وزراء عن شد أي وتر من أجل الحيلولة دون أن يحصل ذلك، وذلك على الرغم من تصريحاتهم المتكررة بما يفيد بأن القرار يعود بهذا الشأن إلى مدير الادعاء العام.
ولكن كل حكومة تكنس هذا السؤال الملح تحت السجادة لبضع سنين أخرى عليها أن تنتبه إلى ما تحدثه مثل هذه الثغرة القانونية من تأثير على العلاقات المجتمعية هنا في بريطانيا.
هل من الصواب بالفعل السماح لليهودي البريطاني أن يقاتل لصالح إسرائيل، في ما قد يعتبره هذا البريطاني لحظة الحاجة الماسة من قبلها، ولكن لا يسمح للفلسطينيين البريطانيين بالانضمام إلى الجماعات غير المحظورة مثل حركة فتح ليدافعوا عن قراهم أو بلداتهم داخل الضفة الغربية المحتلة؟
هل من الصواب عدم اتخاذ إجراء ضد البريطانيين الذين يبررون جرائم الحرب بينما تتم محاكمة مؤيدي الفلسطينيين الذين يتظاهرون في شوارع لندن بتهمة خطاب الكراهية؟ وهل هناك كراهية أكبر من الرغبة في رؤية المدنيين الأبرياء يدفنون أحياء؟
كيف يمكن تطبيق مثل هذه الازدواجية في المعايير دون أن يكون لذلك تأثير على العلاقات المجتمعية داخل بريطانيا؟
من المؤكد أن الإجابة العادلة تتمثل في فرض حظر على جميع المواطنين البريطانيين من القتال في الخارج، بغض النظر عن البلد أو عن القضية.
لم تصبح إسرائيل فقط مقبرة للجهود التي تبذل لإنفاذ معايير القانون الدولي وإفراز نظام عالمي يلتزم بالقواعد والأحكام، وإنما أصبحت، تحديداً، مقربة لمبدأ سيادة القانون في بريطانيا.
للإطلاع على النص باللغة الانجليزية من (هنا)