بقلم ماركو كورنيليوس
ترجمة وتحرير مريم الحمد
مهما تحسنت قدرات البشر التحليلية والقدرة على التنبؤ وقراءة الإرهاصات، إلا أن التاريخ يأبى إلا أن يكون محملاً بالمفاجآت، فالأحداث العالمية يمكنها دائماً التوجه نحو منعطف غير متوقع وفي أي لحظة، مسبباً خيبة أمل وأضراراً جسيمة في كثير من الأحيان!
ليس عام 2023 عنا ببعيد، وذلك بما حمله من توقعات لم تتحقق وأخرى تعطلت، فقد ظننا أن التضخم سوف يكون مؤقتاً، واعتقدنا أن أوكرانيا ستدحر الغزو الروسي لأن روسيا لن تتحمل العقوبات، وتصورنا أن وقف إمدادات الطاقة من روسيا لن يؤثر على الإنتاج الصناعي في أوروبا، وأن الصين ستتراجع قوتها، وأن الديمقراطية سوف تغلب الاستبدادية، وبل وأن اتفاقيات أبراهام والاتفاق مع السعودية سوف يعززان السلام في منطقة الشرق الأوسط.
وفوق كل ذلك، توقعنا أن يبقى النظام العالمي القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة اللاعب الوحيد والأقوى، ولكن كلاً مما سبق لم يحدث كما توقعنا له، فقد باتت أوكرانيا تحاول بيأس جذب انتباه الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى إلى شأنها وهي تضعف كل يوم مما يصعب عليها مواصلة الصراع مع روسيا.
من جانب آخر، تحاول إسرائيل لفت انتباه الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى وهي تحاول القيام بالتطهير العرقي في غزة كخطوة أولى نحو إسرائيل الكبرى.
مفارقات التاريخ أثبتت أن قضايا البحر الأحمر سرعان ما تتصادم مع معوقات الجغرافيا السياسية والاقتصاد الجغرافي
لا شك أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يحاولان البحث عن استراتيجية خروج في أوكرانيا والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولكن لا يبدو أن عام 2024 يشكل فرصة لذلك، بل يبدو أن نتائج الصراعات في أوكرانيا وغزة سوف تؤدي إلى تشكيل توازن القوى في مختلف أنحاء أوراسيا، في الوقت الذي تظل فيه العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة، وروسيا والصين وإيران من جهة أخرى، متوترة.
إلى مقبرة الأحلام المحطمة!
في سبتمبر الماضي، وخلال قمة مجموعة العشرين التي استضافتها الهند، قدم الرئيس الأمريكي جو بايدن، محاطًا برئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وحكام السعودية والإمارات، وقادة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، مقترحاً لإنشاء ممر اقتصادي جديد لربط الهند بأوروبا.
ويهدف “ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا”، الذي تم اقتراحه، إلى تقليل الوقت الذي تستغرقه البضائع للوصول إلى أوروبا من الهند من خلال شحن البضائع من الهند إلى السعودية والإمارات وتحميلها على القطارات المتجهة إلى حيفا في إسرائيل ثم على متن السفن مرة أخرى إلى أوروبا، مما يعني ما لا يقل عن 6 عمليات تحميل وتفريغ في 5-6 بلدان.
أما الهدف غير الرسمي من مقترح الممر فهو تقديم بديل لمبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين عام 2013 لإنشاء شبكة اتصال رئيسية متعددة الوسائط عبر أوراسيا.
مثل غيرها من مشاريع سابقة، يمكن أن ينتهي الأمر بمشروع الممر المنشود إلى مقبرة الأحلام التي تحطمت قبل أن تبدأ، لأن السوق والوقت عاملان أساسيان في نجاح الفكرة من عدمها.
يبدو أن الغيوم السوداء تحوم فوق سماء البحر الأحمر منذرة ببوادر حرب في 2024، وإذا ما كان عام 2023 عام القصص المحطمة والتوقعات التي لم تحصل، فإن عام 2024 قد يحمل حقائق أكثر قسوة!
يهدف الممر أيضاً إلى أن يكون بديلاً للبحر الأحمر وقناة السويس باعتبارها الممر الاقتصادي البحري الرئيسي إلى أوروبا، مما يعزز الرؤية الموضحة في اتفاقيات إبراهيم، لكن مفارقات التاريخ أثبتت أن قضايا البحر الأحمر سرعان ما تتصادم مع معوقات الجغرافيا السياسية والاقتصاد الجغرافي.
تصعيد إقليمي
أحد المخاوف الرئيسية فيما يتعلق بالصراع في غزة هو احتمال توسعه الإقليمي، ففي الوقت الذي كانت فيه أغلب الأنظار تخشى خطر اندلاع صراع ثانٍ مع حزب الله في لبنان شمالاً، ظهرت حركة المقاومة الأكثر فقراً والأقل تسليحاً كمفاجأة كبرى، وهم الحوثيون في اليمن.
بعد اندلاع الحرب في غزة، بدأ الحوثيون في استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل أو التابعة لها، فكانت النتيجة انخفاض حركة المرور في ميناء إيلات الإسرائيلي بنسبة 85%.
لقد سمح الحوثيون بمرور جميع عمليات الشحن الأخرى بحرية، حيث تتحرك السفن الروسية والصينية والإيرانية والسفن المسجلة في بقية أنحاء العالم دون عوائق عبر مضيق باب المندب إلى البحر الأحمر ثم قناة السويس.
من جانبها، أوقفت شركات النقل الكبرى الملاحة في البحر الأحمر مؤقتًا ولم يتبق سوى خيارين، إما الطريق البحري الأطول والأكثر تكلفة حول الطرف الجنوبي لإفريقيا أو ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب والذي يربط إيران وروسيا عبر القوقاز.
الخيار الأول يمكن أن يسبب ارتفاعات تضخمية، أما الثاني، فهو يعزز المشاكل السياسية التي تواجه الديمقراطيات الغربية أصلاً، ولذلك حاولت الولايات المتحدة الرد على هجمات الحوثيين بعملية عسكرية أسمتها “حارس الرخاء”، للتصدي لمنع الملاحة عبر البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب.
حقائق أكثر قسوة
كان من المفترض أن تساهم عملية “حارس الرخاء” في تثبيت السيطرة الأمريكية وإعادة حرية الملاحة، إلا أن النتائج جاءت مخيبة للآمال بشكل جزئي على الأقل، فبعض شركات النقل الكبرى مثل ميرسك استأنفت عملياتها في البحر الأحمر بعد تعليقها، لكن هجوم الحوثيين على سفينة ميرسك في 31 ديسمبر أدى إلى تعليقها مرة أخرى، تبع ذلك ضربات أمريكية على قوارب الحوثيين تسببت في مقتل 10 مقاتلين يمنيين.
من جانب آخر، فإن عملية “حارس الرخاء” التي كانت تدور حول وقف تعطيل التجارة الدولية، تفاجأت بأن عدداً من دول “العالم الغربي” رفضت طلب البنتاغون للمشاركة في العملية بقيادة الولايات المتحدة، منها أستراليا وأسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وكانت الدولة العربية الوحيدة التي شاركت هي البحرين.
أما أكثر دولتين قريبتين ومتضررتين هما مصر والسعودية، فقد قررا حتى الآن عدم الانضمام إلى منظمة Prosperity Guardian، مما يضع مصداقية الولايات المتحدة وموثوقيتها حتى بين حلفائها الرئيسيين على المحك.
تزعم كافة الأطراف، باستثناء إسرائيل، أنها تريد تجنب التصعيد، ولكن المواجهات المتناثرة في لبنان وسوريا والعراق واليمن قرب البحر الأحمر، تشير إلى تصعيد محتمل وبنسبة عالية.
يبدو أن الغيوم السوداء تحوم فوق سماء البحر الأحمر منذرة ببوادر حرب في 2024، وإذا ما كان عام 2023 عام القصص المحطمة والتوقعات التي لم تحصل، فإن عام 2024 قد يحمل حقائق أكثر قسوة!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)