بقلم بيتر أوبورن
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
نشرت مجلة “Nation” التي تتخذ من نيويورك مقراً لها في الآونة الأخيرة وصفاً مروعاً للتحديات الرهيبة التي يواجهها الصحفيون الذين يعدون تقاريرهم من غزة.
وبينت المجلة كيف يضطرون، كما هو الحال مع بقية السكان، إلى تكريس الكثير من وقتهم للحصول على الغذاء ومياه الشرب.
لا يوجد مكان للنوم تقريبًا، وفي ظل انقطاع الكهرباء والانترنت خاصة عن الهواتف المحمولة يصبح من المستحيل تغطية الشريط الحدودي، كما اكتشف مراسلونا في ميدل إيست آي في كثير من الأحيان.
شجاعة الصحفيين في تغطية الأحداث في غزة لا مثيل لها، فقد قُتل أكثر من 77 إعلامياً في غزة وإسرائيل ولبنان منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وفقاً للجنة حماية الصحفيين.
ويعتقد الكثيرون أن المراسلين تم استهدافهم عمداً، رغم أن الجيش الإسرائيلي ينفي ذلك، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أن الصحفيين في غزة هم أبطال مهنتنا، حيث يخاطرون بحياتهم وحياة أسرهم في ظروف بالغة الصعوبة من أجل إظهار الحقيقة حول الأوضاع داخل غزة.
وخلاصة القول: هذه هي الصحافة في أروع وأشجع حالاتها، وأسمى تضحياتها، وقبل كل هذا في أهم ضروراتها.
لكن شهدنا هذا الأسبوع مثالاً للصحافة في أسوأ حالاتها، حين وجهت جوليا هارتلي بروير، مقدمة برامج تلفزيون TalkTV ومقرها لندن، انتقادات حادة ضد السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي، واتهمته بكراهية النساء (“ربما لست معتادًا على التحدث إلى النساء”) في مجموعة من التصريحات التي تركتها عرضةً للاتهام بالتنميط العنصري.
تعامل البرغوثي مع الوضع بهدوء وكياسة، رافضاً الارتباك أو الانحراف عن المسار، ولا يتوقع المرء أقل من ذلك من سياسي فلسطيني يحظى باحترام دولي، وقضى مدة في الأسر لدى القوات الإسرائيلية وتعامل مع معارضين أخطر وأعظم من هارتلي بروير بكثير.
إثارة الغضب
لذا فمن الأفضل ربما أن نتجاهل هذه المبادلة غير اللائقة على قناة TalkTV باعتبارها مسألة لا عواقب لها، لكنني أعتقد أنه من المفيد أن نتوقف عند هذا اللقاء، الذي يخبرنا الكثير عن كيفية عمل وسائل الإعلام الغربية، وعلى وجه الخصوص، التغطية المتعصبة والعنصرية للحرب في غزة.
ضع في اعتبارك أن هارتلي بروير ليست أسوأ المجرمين على الإطلاق، فقد كنا زملاء في إيفنينج ستاندارد وصنداي إكسبرس منذ ربع قرن مضى، فهي ذكية وحاصلة على شهادة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد من جامعة أكسفورد، وفي مرحلة ما، عملت كمراسلة في صحيفة الغارديان، كما أنها تنحدر من عائلة محترمة من حزب العمال.
لكنها أصبحت اليوم جزءًا من نظام التقارير الذي يدور حول جذب الانتباه وإثارة الغضب، حيث تجسد هارتلي بروير ذلك من خلال التعامل بفوقية من خلال وضع نفسها في وضع أكثر أهمية من القصة أو من ضيفها بكثير، إنها بحاجة إلى التذكير بأن الصحفي النموذجي يجب أن يحاول دائمًا ألا يكون جزءًا من القصة.
هذا النوع من الصحافة لا يسمح بالتعمق أو بعرض وجهتي النظر، فهو يختزل المواضيع المعقدة إلى قضايا بسيطة يمكن أن تجتذب فقط اولئك الذين لا يعرفون شيئًا عن الموضوع الخاضع للحوار، وبهذه الطريقة، فإن هذا النوع من الصحافة يحط من مستوى الخطاب ويسمم حياتنا العامة.
وعندما يتعلق الأمر بالنزاع في غزة، فإن هذا النوع من الصحافة يجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وأتساءل ما إذا كانت هارتلي بروير قد أساءت إلى سياسي بريطاني كبير، مهما بدا بليداً، بذات الازدراء الذي وجهته إلى البرغوثي.
إنهم يجلسون في استوديوهات دافئة وممتعة حيث يكسبون مبالغ من ستة أرقام مقابل عرض آرائهم دون أن يتحملوا أي مخاطر أو ينقلوا أي حقائق
بشكل عام، يميل الصحفيون الغربيون إلى معاملة السياسيين الإسرائيليين باحترام أكبر بكثير من المسؤولين الفلسطينيين، وفيما يلي مثال على ذلك: أجرى مذيع قناة إل بي سي، إيان ديل، يوم الخميس مقابلة مع السفيرة الإسرائيلية لدى المملكة المتحدة، تسيبي هوتوفلي.
لقد أدلت هوتوفلي بالعديد من التصريحات الصادمة التي من شأنها أن تضعها خارج نطاق المعقول، فقد رفضت حل الدولتين، وحرمت الحقوق الفلسطينية وأنكرت النكبة، ومع ذلك، فهي تتلقى دعوات منتظمة للظهور على وسائل الإعلام البريطانية.
عاملها ديل بلطف واحترام، وأنا لا أنتقد ديل، فلربما كان أسلوبه الهادئ في الكلام قد شجع هوتوفلي على الإدلاء بسلسلة من التصريحات الملهمة، بما في ذلك تحذيرها المرعب من أن إسرائيل ستستهدف “كل مدرسة، وكل مسجد، وكل بيت”.
قصص كاذبة
ولكنني أعتقد أن من العدل أن نقارن معاملة ديل المهذبة لمسؤول إسرائيلي كبير يتلفظ بتصريحات إبادة جماعية مع الإهانات التي وجهتها هارتلي بروير إلى واحد من أكثر الساسة الفلسطينيين احتراماً وحصافةً.
طوال حرب غزة، ظل الخطاب الإعلامي يعمل لصالح الجانب الإسرائيلي، ومراراً وتكراراً، تم التعامل مع القصص الكاذبة أو التي لم يتم التحقق منها والصادرة عن مصادر إسرائيلية باحترام، وقد أظهر تحقيق أجرته مؤسسة Declassified UK أن ادعاء قناة إخبارية إسرائيلية بأنه ” تم قطع رؤوس 40 رضيعًا ” في تشرين الأول/ أكتوبر قد نشر على الصفحات الأولى في كل صحيفة بريطانية تقريبًا على الرغم من عدم صحته.
حصل الأمر عينه عندما انتشرت الادعاءات الإسرائيلية بأن مستشفى الشفاء في غزة كان في الواقع مركزاً لقيادة لحماس، وأشارت المؤسسة في تحقيقها أنه “يمكن لإسرائيل أن تبالغ “وان تلفق الادعاءات، لتمهيد الطريق لعملية تطهير عرقي لا هوادة فيها، مع العلم أن وسائل الإعلام البريطانية سوف تعزف على ذات الوتر”.
ما يشغلني هو أمر آخر، ليس فقط أن المعلقين وكتاب الأعمدة و الدردشة الغربيين يظهرون أنهم لا يعرفون في كثير من الأحيان ما الذي يتحدثون عنه، وليس أيضاً أنهم يتظاهرون بذلك، بل هو طبيعة عملهم المريحة، حيث يجلسون في استوديوهات دافئة وممتعة ويكسبون مبالغ من ستة أرقام مقابل آرائهم، دون أن يتحملوا أي مخاطر ودون أن ينقلوا أي حقائق.
إذا كان هناك درس واحد يمكن تعلمه من موقف هارتلي بروير الأخير، فهو ما يلي: يجب أن نقلل الاهتمام بالصحفيين من أمثالها إلى حد كبير، ونمنح اهتماماً أكبر بكثير لأولئك المراسلين الشجعان الذين لا مثيل لهم، والذين يخاطرون بحياتهم في كل دقيقة من اليوم ليخبروا العالم بحقيقة ما يحدث في غزة، وكثير منهم هن من النساء، وهي معلومة ربما تبدو مهمة بالنسبة لهارتلي بروير.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)