بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لم تتوقف إسرائيل عن حث الدول الغربية على الوقوف إلى جانبها في محكمة العدل الدولية خلال جلسة الاستماع المرتقبة، وذلك للنظر في قضية رفعتها جنوب إفريقيا تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
طالبت جنوب إفريقيا المحكمة بإصدار أمر قضائي فوري لإجبار إسرائيل على وقف هجومها العسكري على القطاع، بعد أن وصل عدد الضحايا إلى أكثر من 23 ألف فلسطيني غالبيتهم من النساء والأطفال، فيما لا يزال الآلاف يرقدون تحت الأنقاض، كما فقد غالبية السكان منازلهم بسبب حملة القصف التي استمرت ثلاثة أشهر حتى الآن.
ويشير تقرير جنوب إفريقيا، المكون من 84 صفحة، إلى أن حملة القصف والحصار الإسرائيلي تعد انتهاكاً لاتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تعرف الإبادة الجماعية بأنها “أفعال مرتكبة بقصد التدمير، كليًا أو جزئيًا، لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”.
لقد حذر مسؤولو الأمم المتحدة قبل ما يقرب من عقد من الزمن من أن الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة منذ 17 عاماً يهدف إلى جعل القطاع “غير صالح للسكن”
من جانبها، تتوقع إسرائيل دعماً من العواصم الغربية، فهي لديها ما تخشاه أيضاً إذا ما صدر حكم ضد إسرائيل، فهي من قامت بدعم القتل بقوة، حيث أرسلت الولايات المتحدة وبريطانيا تحديداً الأسلحة التي يتم استخدامها ضد سكان غزة، ولذلك لا تقل جريمتهم عن جرائم إسرائيل بطبيعة الحال.
وفقاً لبرقية صادرة عن وزارة الخارجية الإسرائيلية، تم تسريبها إلى موقع أكسيوس، فإن إسرائيل تأمل أن ينتصر الضغط الدبلوماسي والسياسي على قضاة المحكمة، ومن ذلك ما قامت به إدارة بايدن قبل أيام من رفض الموجز القانوني التفصيلي الذي قدمته جنوب إفريقيا واصفة إياه بأنه “لا أساس له من الصحة ويؤدي إلى نتائج عكسية”.
تحريض واضح
إن “هدف إسرائيل الاستراتيجي” في المحكمة، بحسب البرقية المسربة، هو ثني القضاة عن اتخاذ قرار بارتكابها جريمة إبادة جماعية، لكن الأمر العاجل بالنسبة لإسرائيل هو الحاجة إلى منع محكمة لاهاي من إصدار أمر بوقف إطلاق النار.
وفقاً لموقع اكسيوس، فإن إسرائيل سوف التنصل من تهمة الإبادة الجماعية بالقول أن هناك “ظروفاً لا تسمح ببقاء السكان على قيد الحياة إلى جانب نية إبادتهم”، وسوف تحاول إسرائيل إقناع القضاة بأنها تسعى إلى زيادة المساعدات الإنسانية لغزة وتقليل الخسائر في صفوف المدنيين.
بالطبع، حجج إسرائيل تتعارض مع الأدلة التي جمعتها جنوب أفريقيا، حيث يحتوي الموجز على 9 صفحات من تصريحات القادة الإسرائيليين التي تظهر نية واضحة للإبادة الجماعية، بما في ذلك تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وشخصيات بارزة في مجلس الوزراء والرئيس إسحاق هرتسوغ وغيرهم، ومن ذلك ما أعلنه مستشار وزير مجلس الحرب بيني غانتس، جيورا إيلاند، من أن هدف إسرائيل خلق “ظروف تصبح فيها الحياة في غزة غير مستدامة”.
هرتسوغ أشار إلى أن جميع السكان المدنيين هدف عسكري مشروع، بينما أسماهم نتنياهو “عماليق” باعتبارهم أعداء بوصف التوراة!
من جانب آخر، فقد وصلت مؤخراً من مجموعة من الأكاديميين والمحامين ونشطاء حقوق الإنسان والصحفيين الإسرائيليين رسالة للمدعي العام الإسرائيلي، حذروا فيها من أن التحريض على الإبادة الجماعية أصبح “مسألة يومية في إسرائيل”، وأن “الخطاب التطبيعي الذي يدعو إلى الإبادة والمحو والخراب وما شابه ذلك من شأنه أن يؤثر على الطريقة التي يتصرف بها الجنود في غزة”.
ليس التجريد من الإنسانية المشكلة الوحيدة، فاستغلال إسرائيل المتوقع لما تسميه “الحرب للقضاء على حماس” تفي تماماً بتعريفها الخاص للإبادة الجماعية، رغم أن “الظروف التي لا تسمح ببقاء السكان على قيد الحياة” كانت موجودة بالفعل قبل وقت طويل 7 أكتوبر.
في الغالب يتم نسيان السياق الذي يجب أن لا يُنسى، وهو ما حذر منه مسؤولو الأمم المتحدة قبل ما يقرب من عقد من الزمن من أن الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة منذ 17 عاماً يهدف إلى جعل القطاع “غير صالح للسكن”.
من قبل هجومها الحالي، كانت إسرائيل قد فرضت قيودًا صارمة على وصول المياه لسكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ونتيجة لذلك وصلت مياه البحر إلى المياه الجوفية، مما جعل مما جعل مياه الشرب في القطاع غير صالحة للاستهلاك البشري.
“الناس يواجهون أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي والمجاعة قاب قوسين أو أدنى” – مارتن غريفيث- رئيس الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة
أما فيما يتعلق بالغذاء، فيمكن الرجوع إلى عام 2012، عندما نشرت جماعات حقوق إنسان إسرائيلية وثيقة سرية تظهر أن الجيش كان يفرض رقابة مشددة على الغذاء الذي يدخل إلى غزة منذ عام 2008، ونتيجة لذلك، بات يعاني ثلثا السكان من انعدام الأمن الغذائي كما طفل من بين 10 إلى التقزم بسبب سوء التغذية، فقد كان الهدف وضع السكان فعليًا في نظام تجويع.
من جهة أخرى، فقد أدت الهجمات الإسرائيلية المتكررة فيما تسميه “جز العشب” إلى تدمير عدد من منازل القطاع وقسماً كبيراً من البنية التحتية، الأمر الذي أدى إلى خلق اكتظاظ كبير.
في عام 2016، حذر رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية آنذاك، هرتسي هاليفي، من أن الكارثة التي تخطط لها إسرائيل في غزة يمكن أن تنفجر في وجهها، فقد أدى الهيجان الإسرائيلي الذي دام 3 أشهر إلى تكثيف الإبادة الجماعية، لأن هجوم حماس أعطى لإسرائيل بساطة مبرراً للرد الوحشي دون حساب.
غزة “غير صالحة للسكن”
لقد أعلن رئيس الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث، أن غزة وصلت إلى النقطة التي أصبحت فيها بالفعل “غير صالحة للسكن”، مشيراً إلى أن “الناس يواجهون أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي والمجاعة قاب قوسين أو أدنى”.
سوف يكون الأمر المؤقت بوقف الهجوم الإسرائيلي أول الخطوات في وضع حد لإطلاق النار، فبمجرد إصدار الأمر القضائي، فإن أي دولة لا تلتزم بالأمر القضائي تخاطر بتحولها إلى شريك متواطئ في الإبادة الجماعية، وهذا من شأنه وضع الغرب في مأزق قانوني خطير
سياسة “الحصار الكامل” التي تنتهجها إسرائيل تعني عدم إمكانية دخول المساعدات، وفقاً غريفيث، فقد دمرت إسرائيل الطرق وأغلقت أنظمة الاتصالات وأطلقت النار على شاحنات الأمم المتحدة وقتلت عمال الإغاثة!
لقد فرضت إسرائيل شروطًا غير معقولة لدخول المساعدات من معبر رفح، مما أدى إلى تأخيرات لا نهاية لها، وبعبارة أخرى، فقد نجحت إسرائيل في “خلق الظروف التي لا تسمح ببقاء السكان على قيد الحياة”.
لم يكن الهدف من اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، والتي تمت صياغتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية، مجرد معاقبة أولئك الذين يرتكبون جرائم الإبادة الجماعية، بل تم تصميمها من أجل إنشاء آلية قانونية توقف الإبادة.
بناء على ذلك، يمكن القول أن الغرض من قضية جنوب إفريقيا ليس مجرد الإدانة لإسرائيل، بل منعها من إبادة سكان غزة قبل فوات الأوان.
وفقاً لمنطق غريب، يرى مؤيدو إسرائيل ضمنياً على الأقل أن تهمة الإبادة الجماعية غير مبررة، فالهدف الحقيقي ليس إبادة الفلسطينيين في غزة بل حثهم على الفرار.
فرضية شجعها العديد من القادة الإسرائيليين، ففي مقابلة له، أشار وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، إلى أن تعرض سكان غزة للقصف وتشريدهم والتجويع والأمراض سوف يشجعهم على الهجرة من غزة، ليأتي بالوصف المخادع ويقول بأنها هجرة جماعية “طوعية”.
هذه النتيجة، التي تشكل في حد ذاتها جريمة ضد الإنسانية، تعتمد بالكامل على فتح مصر لحدودها للسماح للفلسطينيين بالفرار من حقول القتل، لذلك إذا ما رفضت القاهرة الخضوع للابتزاز الإسرائيلي، فإن قنابل إسرائيل والمجاعة التي أحدثتها والأمراض الفتاكة التي تسببت بها سوف تكون هي السبب في هلاك سكان غزة.
هل يتحدى الغرب إسرائيل أم المحكمة؟ فالقانون الدولي الذي اهتز بالفعل بسبب الفشل في معالجة جرائم الحرب التي ارتكبها الغرب في العراق وأفغانستان أصبح اليوم على وشك الانهيار الكامل
لا ينبغي لمحكمة العدل الدولية أن تنتظر وتترقب وتفكر في ما إذا كانت حملة القصف والحصار الإسرائيلي تؤدي إلى الإبادة والتطهير العرقي “فقط”، فمن شأن ذلك تجريد القانون الإنساني الدولي من أي أهمية.
وضع حد لإطلاق النار!
إذا ما فشلت إسرائيل وحلفاؤها الغربيون في إرغام المحكمة على الخضوع وتم قبول قضية جنوب إفريقيا، فلن تكون إسرائيل الوحيدة التي تواجه صعوبات قانونية، حيث أن حكم الإبادة الجماعية الذي سوف تصدره المحكمة سوف يفرض التزامات على الدول الأخرى، منها التوقف الإلزامي عن توفير الأسلحة والغطاء الدبلوماسي بل ومعاقبة إسرائيل في حالة عدم امتثالها.
في هذه الحالة، سوف يكون الأمر المؤقت بوقف الهجوم الإسرائيلي أول الخطوات في وضع حد لإطلاق النار، فبمجرد إصدار الأمر القضائي، فإن أي دولة لا تلتزم بالأمر القضائي تخاطر بتحولها إلى شريك متواطئ في الإبادة الجماعية، وهذا من شأنه وضع الغرب في مأزق قانوني خطير.
لم تغض الدول الغربية الطرف عن الإبادة الجماعية في غزة فحسب، بل ظلت تناصرها، فقد عارض رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، وزعيم المعارضة، كير ستارمر، وقف إطلاق النار، كما رفضت الحكومتان البريطانية والأمريكية جميع الدعوات لوقف تدفق الأسلحة، حتى أن إدارة بايدن تجاوزت الكونغرس لتسريع توريد الأسلحة إلى إسرائيل، بما في ذلك القنابل العشوائية “الغبية” التي تدمر المناطق المدنية.
إضافة إلى ذلك، فقد خصصت وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية وقتاً وصوتاً للمسؤولين الإسرائيليين الذين يحرضون علنا على الإبادة الجماعية، وعلى رأسهم سفيرة إسرائيل لدى المملكة المتحدة، تسيبي حوتوفلي، التي دعت إلى تدمير غزة بالكامل.
من المفترض أن تقوم الشرطة في الدول الغربية بالتحقيق وأن يتم محاكمة أولئك الذين يحرضون على الإبادة الجماعية أو يوفرون منصة للتحريض، ومن المفترض أن تحرم الدول إسرائيل من الأسلحة وأن تفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل وعلى أي دولة تواطأت في الإبادة الجماعية.
معايير مزدوجة
من الناحية العملية، من غير المرجح أن يحدث أي من ذلك، فإسرائيل تشكل أهمية بالغة بالنسبة للغرب فهي استعراض لقوتها في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط.
سوف تقوم إسرائيل بكل ما في وسعها من أجل حظر أي جهد لفرض حكم الإبادة الجماعية من خلال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من قبل إدارة بايدن.
من ناحية أخرى، فقد أظهرت بريطانيا إلى جانب كندا وألمانيا والدنمارك وفرنسا وهولندا، مدى جرأتها في التعامل مع معاييرها المزدوجة، فقبل أسابيع، قدموا حججًا رسمية إلى محكمة العدل الدولية بأن ميانمار ترتكب إبادة جماعية ضد جماعة الروهينجا يشمل تجويعاً وطرداً ونقصاً في الرعاية الطبية.
أما فيما يتعلق بقضية ضد إسرائيل، فلم تؤيد أيٌ من هذه الدول الغربية رفع قضية الإبادة الجماعية التي ارتكبتها جنوب إفريقيا لدى نفس المحكمة رغم أن الظروف في غزة ربما أسوأ، ومع ذلك، فصدور حكم المحكمة بشأن الإبادة الجماعية من شأنه أن يفتح باباً لا يريده الغرب وهو اضطراره لقبول تطبيق أحكام القانون الدولي عليه أيضاً.
إسرائيل تتباهى بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وكأنها تتحدى العالم لوقفها، ولكن السؤال، هل يتحدى الغرب إسرائيل أم المحكمة؟ فالقانون الدولي الذي اهتز بالفعل بسبب الفشل في معالجة جرائم الحرب التي ارتكبها الغرب في العراق وأفغانستان أصبح اليوم على وشك الانهيار الكامل.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)