بعد قتل أكثر من 23 ألف فلسطيني في غزة، نصفهم تقريباً من الأطفال، بادرت دولة جنوب أفريقيا إلى رفع دعوى لإدانة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية والسعي إلى إصدار أمر طارئ لوقف إطلاق النار في غزة.
وقد استشهدت جنوب إفريقيا في الدعوى، التي رفعتها في نهاية ديسمبر، بتصريحات أدلى بها مسؤولون حكوميون إسرائيليون بالإضافة إلى أفعال الجنود الإسرائيليين خاصة التي وثقوها في لقطات فيديو وصور.
من المفارقات العجيبة أن إنشاء اتفاقية الإبادة الجماعية التي وقعت عليها إسرائيل كان بسبب المحرقة، واليوم تجد إسرائيل نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها ضد الاتهام بالإبادة الجماعية
تعد هذه المرة الأولى التي تتم فيها محاكمة إسرائيل بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية، والتي تم الاتفاق عليها بعد الحرب العالمية الثانية على إثر الفظائع التي ارتكبت ضد اليهود وغيرهم من الأقليات المضطهدة خلال المحرقة في ألمانيا النازية.
ويحمل الحكم ضد إسرائيل أهمية رمزية كبيرة رغم عدم إلزاميته في نهاية المطاف، فما هي أبرز التساؤلات التي تدور حول المحكمة والقضية التي رفعتها جنوب إفريقيا؟
ما هي محكمة العدل الدولية؟
هي أعلى محكمة في الأمم المتحدة، تأسست عام 1945 وتتعامل مع النزاعات بين الدول كما تقدم آراء استشارية، وتضم 15 قاضيًا يتم انتخابهم لمدة 9 سنوات من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن.
ينص قانون المحكمة على أنه يمكن إضافة قاض من كل طرف في القضية، وفي هذه الحالة نحن نتحدث عن جنوب أفريقيا وإسرائيل، حيث عينت جنوب أفريقيا نائب رئيس المحكمة العليا السابق في البلاد، ديكجانج موسينيكي، ليكون قاضيها فيما عينت إسرائيل الرئيس السابق للمحكمة العليا الإسرائيلية، أهارون باراك.
أما القضاة المعينون حالياً في المحكمة فهم من الولايات المتحدة وروسيا والصين وسلوفاكيا والمغرب ولبنان والهند وفرنسا والصومال وجامايكا واليابان وألمانيا وأستراليا وأوغندا والبرازيل.
ما فحوى الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل؟
جاء في دعوى قدمتها جنوب إفريقيا مكونة من 84 صفحة، أن تصرفات إسرائيل في غزة “ذات طابع إبادة جماعية لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير من المجموعة الوطنية والعنصرية والإثنية الفلسطينية”.
من جانبها، فقد رفضت إسرائيل الدعوى معتبرة إياها “تشهيراً بالدم”، وذلك في إشارة إلى الأكاذيب المعادية للسامية التي نشأت في العصور الوسطى والتي زعمت آنذاك أن اليهود قتلوا أولاداً مسيحيين لاستخدام دمائهم في طقوس دينية.
وفقاً للخبراء، فإن الدعوى المرفوعة مدروسة بعناية وخطيرة من الناحية القانونية، حيث جاء فيها: “على خلفية الفصل العنصري والطرد والتطهير العرقي والضم والاحتلال والتمييز والحرمان المستمر من حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، فشلت إسرائيل، منذ 7 أكتوبر 2023 على وجه الخصوص، في منع الإبادة الجماعية”.
هل المحكمة سياسية الطابع؟
من الناحية النظرية لا، ولكن من الناحية العملية، فيتم اختيار القضاة حسب دولهم الأصلية وذلك يعد قراراً سياسياً بشكل ما، وتشير الأبحاث الأكاديمية حول توجهات قضاة المحكمة إلى أن “القضاة يصوتون لصالح بلادهم الأصلية في حوالي 90% من الحالات، أما عندما لا تكون بلادهم الأصلية طرفاً في القضية، يصوت القضاة لصالح البلدان الحليفة أو القريبة من توجهات بلدانهم الأصلية، مما يعني أن القضاة في الغالب يفضلون الشركاء الاستراتيجيين لدولهم الأصلية.
ذكرت إحدى الدراسات أن أحكام القضاة مدفوعة بأكثر من مجرد القانون، فحكومات الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، التي تضم كل منها قاضياً في المحكمة، لم تكن من أشد المؤيدين لحملة التدمير التي تشنها إسرائيل في غزة فحسب، بل منحت إسرائيل غطاء سياسياً في وقت دعمت فيه إسرائيل بالأسلحة.
أما البقية مثل سلوفاكيا والمغرب والهند وجامايكا واليابان وأستراليا وأوغندا، فجميعهم يدورون في فلك الولايات المتحدة، وبالغالب تتأثر أصواتهم بالصفقات التي تدار خلف الكواليس.
لماذا لم تتحرك الدول العربية لرفع دعوى لدى المحكمة؟
مع قبولها المثول أمام محكمة العدل الدولية، أعلنت إسرائيل أنها لن تمتثل للدعاوى المقدمة من قبل الدول التي “لا تعترف بإسرائيل أو التي ترفض إقامة أو الحفاظ على علاقات دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل”، ولذلك فقد أيدت دعوى جنوب إفريقيا دولة عربية واحدة فقط وهي الأردن.
ويرى المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي، أن حقيقة امتناع الدول العربية عن الانضمام إلى إجراءات محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لا تمثل شعوبها، حتى وصف امتناع الدول العربية عن التصويت بأنه “وصمة عار لا يمكن محوها”.
يذكر أن مصر والمغرب والإمارات كلها تعترف بإسرائيل، وهي طرف في اتفاقية الإبادة الجماعية، لكنها لم تقدم بيانات مؤيدة لمحكمة العدل الدولية.
من دعم الدعوى كذلك؟
أعربت منظمة التعاون الإسلامي، التي تضم 57 عضواً بينها السعودية وإيران وباكستان والمغرب، عن دعمها للقضية في 30 ديسمبر، كما دعمت ماليزيا وتركيا والأردن جنوب أفريقيا من خلال تقديم مذكرات داعمة إلى المحكمة الدولية، ومن جانبها، دعمت بوليفيا الدعوى كأول دولة تفعل ذلك في أمريكا اللاتينية .
ما هو التعريف القانوني للإبادة الجماعية؟
يعترف القانون الدولي بالتعريف المنصوص عليه في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالإبادة الجماعية ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو ذات التعريف الذي قبلته أكثر من 130 دولة بما في ذلك الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة.
وينص التعريف على أن الإبادة الجماعية تعني الأفعال “المرتكبة بقصد التدمير، كليًا أو جزئيًا، لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”.
ويعد كل من إسرائيل وجنوب أفريقيا طرفان في اتفاقية الإبادة الجماعية، مما يعني أنهما ملزمتان “باتخاذ تدابير لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، مثل سن تشريعات أو معاقبة أولئك الذين يعتبرون مذنبين بارتكاب الجريمة.
ما هي أهمية الحكم الذي ستصدره المحكمة؟
كانت إسرائيل أحد الأعضاء المؤسسين لمحكمة العدل الدولية في الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك في أعقاب مقتل 6 ملايين يهودي على يد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، كما أن المحامي اليهودي البولندي، رافائيل ليمكين، صاغ كلمة الإبادة الجماعية في عام 1944 ومارس ضغوطًا من أجل إدراجها كجريمة بموجب القانون الدولي، حتى أثمرت جهوده عندما وافقت الأمم المتحدة في عام 1948 على اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
من المفارقات العجيبة أن إنشاء اتفاقية الإبادة الجماعية التي وقعت عليها إسرائيل كان بسبب المحرقة، واليوم تجد إسرائيل نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها ضد الاتهام بالإبادة الجماعية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)