بقلم كريغ ميراي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
كنت الصحفي الوحيد داخل قاعة محكمة العدل الدولية خلال انعقاد جلسة الاستماع لقضية الإبادة الجماعية التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وكان ثلاثون صحفياً معتمداً متواجدين في غرفة الصحافة في جناح آخر من المبنى، يشاهدون ما عرضه لهم المخرج على الشاشة، بينما انتظر المزيد من الصحفيين خارج المبنى.
كي أدخل قاعة المحكمة، اضطررت للنوم على الرصيف في درجات حرارة دون الصفر في لاهاي، و للوقوف في طابور مصطف من أجل الحصول على أحد المقاعد الأربعة عشر المتوفرة في القاعة العامة، لا يمكنك التخلي عن التواجد في المحكمة، حيث تستطيع أن تشهد عياناً التفاعلات بين الوفود، ومراقبة لغة الجسد وتعبيرات القضاة استجابة لبعض الادعاءات، إذا لم تكن هناك، فحقاً لن تستطيع أن تغطي القضية.
لقد استغرق الأمر أسبوعًا حتى تعافى جسدي تمامًا، وأخذت نفس الفترة تقريبًا حتى تمكن ذهني من غربلة الدراما والتوتر الذي شهدته في المحكمة جراء الاستماع للحجج المقدمة.
لقد كان الأمر الأكثر إثارة للدهشة، بطبيعة الحال، هو المواقف العدائية للغاية من جانب الأطراف المتعارضة، حيث تحدثت جنوب أفريقيا عن النكبة و75 عاماً من الفصل العنصري في إسرائيل، في حين رد الجانب الإسرائيلي باتهام جنوب أفريقيا بالتواطؤ في الإبادة الجماعية من خلال دعمها لحماس.
كان التنافر التام بين الحقائق المزعومة لافتاً جداً، فقد أنكرت إسرائيل ببساطة مسؤوليتها عن تدمير البنية التحتية والمنازل في غزة، ملقية باللوم في ذلك على حماس مدعية أنها أطلقت ما يزيد عن 2000 صاروخ بشكل خاطئ وانها قامت بتفخيخ المباني، زاعمة أن كمية الغذاء التي تدخل إلى غزة يوميًا أكبر مما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، كما ذكرت إسرائيل صراحة أن كل مستشفى في غزة هو “قاعدة عسكرية”.
سيتم إثبات النتائج من خلال الأدلة في جلسة استماع موضوعية لمحكمة العدل الدولية، ربما في غضون عامين تقريبًا، ما لدينا الآن هو طلب اتخاذ تدابير مؤقتة، حيث يتم النظر في الادعاءات والاحتمالات والإجراءات، وليس الأدلة.
أريد الآن أن ألقي نظرة على بعض جوانب الحجة الإسرائيلية الأساسية التي يبدو لي أنه لم يتم تناولها بشكل كافٍ في أي مكان آخر والتي تقول أن ما جرى كان “نزاعاً مسلحاً”، وليس إبادة جماعية، لقد استخدموا هذا المصطلح مراراً وتكراراً.
في أي نزاع مسلح، هناك حتماً ضحايا من المدنيين، قد يكون ذلك “فظيعاً”، لكنه يحدث دائمًا، ويصبح الأمر أسوأ في حرب المدن، ويمكن القول إن حماس تتحمل المسؤولية عن الخسائر في صفوف المدنيين بسبب انتشار مقاتليها بين السكان والمؤسسات المدنية.
لقد ذكرت إسرائيل صراحة أن أنشطة حماس تتركز في المستشفيات والمدارس ومرافق معالجة المياه وتوليد الكهرباء ومنشآت الأمم المتحدة، ولذلك فإن سقوط ضحايا من المدنيين في مثل هذه الأماكن أثناء النزاع المسلح أمر لا مفر منه وهو خطأ من جانب حماس.
المعضلة تكمن في أن إسرائيل ادعت أن ما يحدث هو “نزاع مسلح” نافيةً شرعية أي مقاومة مسلحة لها، لكن إذا ادعت إسرائيل أنها في نزاع مسلح، فعليها أن تعترف بشرعية سلاح من تقاتلهم
في محاولته إقناع محكمة العدل الدولية برفض القضية لأسباب إجرائية، قال مالكولم شو كيه سي أن جنوب أفريقيا لا تملك الحق في رفع القضية لأنها غير منخرطة في نزاع مع إسرائيل.
وبمنطق مماثل، فإن موقف إسرائيل يعتمد على كونها في “نزاع مسلح”، ولكنه ينفي وجود طرفين شرعيين في هذا الصراع، إذ ذكرت إسرائيل أنها لا يجب أن توقف عملياتها لأن حماس تواصل إطلاق النار على القوات الإسرائيلية وإطلاق الصواريخ على إسرائيل.
إنه نزاع مسلح غريب لا يجب أن يُسمح فيه لأحد الأطراف بإطلاق النار، وإذا ادعت إسرائيل أنها في صراع مسلح، فعليها أن تعترف بشرعية سلاح من يقاتلونها، ولا يمكنها استخدام “النزاع المسلح” كذريعة لقتل أكثر من 25 ألف شخص في الوقت الذي تزعم فيه أيضًا أنه ليس صراعًا مسلحًا، بل نوع من العمليات المحدودة لمكافحة الإرهاب.
باختصار، إذا كان هذا صراعاً مسلحاً، فمن حق الفلسطينيين أن يقاتلوا وهذا ما يفعلونه بالطبع، وفي القانون الدولي لا شك في أن للشعب الخاضع للاحتلال الحق في ممارسة المقاومة المسلحة، ولا أعتقد أن أحداً يشكك في ذلك، ولا حتى الحكومتين البريطانية أو الأمريكية.
هراء قانوني
والسؤال الأساسي هنا هو: أليس للفلسطينيين الحق في مقاومة عدوان الإبادة الجماعية لمجرد أن حماس التي يصنفها الغرب كمنظمة إرهابية محظورة هي التي تتولى المقاومة؟ هذا في رأيي نفاق هائل، إن العواقب المروعة لوصم حكومة الأمر الواقع ببساطة بأنها “إرهابية” تتجلى في القتل العنيف لمئات الأطفال كل يوم.
يتعين على لاهاي أن تشق طريقها عبر الهراء القانوني المتمثل في “النزاع المسلح” الذي لا يُسمح فيه إلا لجانب واحد بالقتال والذي تكون فيه الغالبية العظمى من الضحايا من النساء والأطفال الأبرياء، ونسبة كبيرة منهم من الرضع، في هذا الصراع يمتلك أحد الجانبين كل الأسلحة وأحدث وأغلى الجيوش والقوة الجوية الهائلة التي يستخدمها للقتل العشوائي، أما الجانب الآخر لديه عدد قليل من الأسلحة الخفيفة والصواريخ بدائية الصنع.
وفي الغرب، وضعنا أنفسنا في موقف قانوني مماثل مثير للسخرية، وقد تم الآن اعتقال بعض المتظاهرين في المملكة المتحدة لمعارضتهم هذه الإبادة الجماعية، لقد اضطررت شخصياً إلى الفرار من البلاد بينما تحيرت الشرطة حول ما إذا كان دعم حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة بموجب القانون الدولي هو “إرهاب” أم لا.
وفي 20 كانون الثاني / يناير، أجرى جو بايدن وبنيامين نتنياهو محادثة حول إقامة دولة فلسطينية، ما أكد مرة أخرى وجهة النظر الأمريكية بشأن قيام دولة فلسطينية وهذا ليس إلا مجرد خدعة مطلقة.
إذ لن يُسمح لهذه الدولة، بشكل خاص، بامتلاك أي أسلحة أو قوات عسكرية ولن يكون لها سيطرة على حدودها أو سياستها الخارجية، وستكون لإسرائيل السلطة على البضائع والأشخاص الذين يدخلون هذه “الدولة”، التي ستكون مجزأة إقليمياً وعاجزةً بكل الطرق.
هذه هي بطبيعة الحال الذروة النهائية لمخطط الفصل العنصري الإسرائيلي، حيث يمر الوقت، والناس في الأغلب لا يعرفون إلى أي حد يعكس التبجح بــ “حل الدولتين” التأليه المخطط له للفصل العنصري، لقد كان لدينا مكتب لجنوب أفريقيا في وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث في المملكة المتحدة في منتصف الثمانينات، ويمكنني أن أخبركم عن ذلك.
إذ كان من المقرر أن يقتصر وجود السكان السود في جنوب أفريقيا على عدد من المناطق، وكان من المفترض أن تصبح هذه “دولًا مستقلة”، وقد تم إعلان استقلال إحداها، وهي بوفوثاتسوانا.
وكان من المقرر أن تكون “سيادتهم” محدودة بالطريقة التي يعتقد بايدن ونتنياهو أنها قد تجعل قيام دولة فلسطينية دمية أمراً ممكناً، في نهاية المطاف، تم إرسال أكثر من 80% من السود في جنوب إفريقيا إلى هذه الدول “المستقلة”، مما أدى إلى إنهاء الأغلبية السوداء من جنوب إفريقيا، وتحولوا إلى مجمع للعمالة الرخيصة دون أي حقوق.
الدعاية الاستعمارية
لقد تعرض الفلسطينيون حتى قبل الأحداث الحالية للتطهير العرقي من 85% من أراضيهم، إن “حل الدولتين” الذي يرسخ ذلك ويتركهما تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية الدائمة لن يحل هذا الصراع، والإجابة عليه ليست الترسيخ الفعّال للوضع الراهن.
تتعزز الرغبة في حرمان الفلسطينيين من حق الشعب في الدفاع عن النفس من خلال تكرار رواية قصص الفظائع التي ارتكبت في السابع من أكتوبر، والآن، لا أشك في أن الفلسطينيين ارتكبوا بعض الجرائم في ذلك اليوم، ويجب إجراء تحقيق شامل ومعاقبة الجناة إن أمكن، رغم أنه من الغريب أن معاقبة مرتكبي الجرائم من العسكريين الغربيين في الأراضي التي احتلوها أمر غير ممكن على الإطلاق.
كما أنني لا أشك في أن الرواية الإسرائيلية حول هجمات السابع من أكتوبر قد تم تضخيمها من قبل وسائل الإعلام، على الرغم من أن الواقع أكثر تعقيدًا وإثارة للقلق، ومن الغريب أن هذا الأمر تم الاعتراف به ومناقشته بشكل علني في وسائل الإعلام الإسرائيلية وليس الغربية.
يصور الضجيج المستمر حول الفظائع التي وقعت في السابع من أكتوبر الفلسطينيين على أنهم برابرة لا ينبغي أن يكون لهم الحق في الدفاع عن منازلهم وعائلاتهم
ولكن هناك بالطبع نقطة وراء الضجة المنهجية والمستمرة بشأن الفظائع التي وقعت في ذلك اليوم، إنه يصور الفلسطينيين على أنهم برابرة لا ينبغي أن يكون لهم الحق في حمل السلاح أو الدفاع عن منازلهم وعائلاتهم.
هذا نمط معروف جيدًا للدعاية الاستعمارية، يؤدي الاحتلال المستمر وحرمان شعب محتل إلى نوبات من المقاومة الشرسة بين الحين والآخر، وإلى حرب غير تقليدية بسبب تفاوت مستوى التسليح.
وتقدم مثل هذه الفاشيات دائمًا نماذج على الفظائع التي تعكس العنف المستمر الذي يتعرض له الشعب المحتل، ثم يقوم المستعمرون بإعادة سرد تلك الفظائع وتضخيمها إلى ما لا نهاية، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك الثقب الأسود في كلكتا أو قصص اغتصاب وقتل ماو ماو.
دائماً ما توصف هذه الأفعال بأنها أمثلة على “بهيمية” المحتَل والمستعمَر، ودليل على صحة الرسالة الحضارية والتفوق الأخلاقي للمستعمِر، ثم يأتي المزيد من القمع.
ومن المثير للدهشة بالنسبة لي أن دراسات ما بعد الاستعمار أصبحت الآن مجالًا راسخًا، ولكن لم يتم تطبيق أي من أفكارها الأساسية تقريبًا في الخطاب العام، وخاصة وسائل الإعلام، ما يحدث في فلسطين واضح تماماً، والمأساة هي أن القوى الغربية تسعى إلى تحفيزها بدلاً من إيقافها.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)