بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
ما من شك في أن الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية يوم الجمعة سوف يدفع باتجاه أكبر وأقوى متجاوزاً صلابة الدعم الغربي الداعم لإسرائيل في حربها على غزة.
جاء في نص الحكم أن ما يجري في غزة ليس حرباً تهدف إلى تعطيل جماعة مسلحة معادية، بل هي عملية تهدف إلى تعطيل شعب وأمة، وذلك حكم قانوني غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل وحتى في القرن الحالي.
لن أنكر أن ثمة خيبة أمل في عدم وصول المحكمة إلى المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، ولكنها استندت في ذلك إلى أساس قانوني مفاده أن طرفًا واحدًا فقط في هذه الحرب يُعترف به كدولة، وأن وقف إطلاق النار يتم بين دولتين
سوف يعيد هذا الحكم ترسيخ أخلاقيات وحيادية ومكانة القانون الدولي على حد سواء، وبنفس الوقت سوف يكشف الغطاء عن الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل من قبل موردي الأسلحة الرئيسيين وداعميها، ألا وهي ترخيص القتل.
أهم الأمثلة على ذلك هي الولايات المتحدة، والتي لم يسبق لها أن كانت في موقف أكثر تناقضاً من زعمها أن “الدبلوماسية عادت”، فيما تستمر في تغذية القصف الأكثر دموية في تاريخ الصراع.
باتت إسرائيل الآن في قفص الاتهام وبتهمة الإبادة الجماعية، وهي ملزمة بتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر لكي تقوم جنوب أفريقيا صاحبة الدعوى بمراجعة التدابير التي من المفترض أن تتخذها إسرائيل لمنع التحريض على الإبادة الجماعية أو ممارستها أو السماح بها، بالإضافة إلى مراقبة إيصال المزيد من المساعدات إلى غزة.
لن أنكر أن ثمة خيبة أمل في عدم وصول المحكمة إلى المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، ولكنها استندت في ذلك إلى أساس قانوني مفاده أن طرفًا واحدًا فقط في هذه الحرب يُعترف به كدولة، وأن وقف إطلاق النار يتم بين دولتين.
بالتأكيد، الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى حكم قضائي يوضح معاناتهم الظاهرة، فقد كانوا يتوقعون إجراءً يساهم في إنهاء الإبادة الجماعية بدلاً من وضع الكرة في ملعب إسرائيل لتتصرف بطريقة نعلم جميعاً أنها لن تقوم بها، خاصة وأنها أشارت بالفعل إلى نيتها تجاهل أي حكم صادر عن محكمة العدل الدولية.
حاجة ملحة
يوفر حكم المحكمة أيضًا القوة التي تشتد الحاجة إليها في العديد من الإجراءات القضائية في أنحاء العالم، فإذا كان تصنيف الفصل العنصري بمثابة ضربة قوية لمحاولات إسرائيل ترسيخ نفسها كدولة ديمقراطية غربية طبيعية، فلا شك أن تسمية الإبادة الجماعية أشد وطأة لدرجة دق أول المسامير في نعش إسرائيل.
عملت جرافات الجيش الإسرائيلي وما زالت على تدمير الحقول والأراضي الزراعية في غزة، وذلك بحجة إنشاء منطقة أمنية، لكن الهدف الاستراتيجي هو ضمان عدم قدرة غزة على زراعة المحاصيل وإنتاج الغذاء
من الواضح أن المحكمة لم تصدق لجنة الدفاع الإسرائيلي، وهو ما يمكن استنتاجه من استخدام رئيسة المحكمة، جوان دونوغو، الأدلة المقدمة من قبل جنوب أفريقيا في خطابها لإصدار الحكم، وهو ما اعتبرته جنوب إفريقيا علامة انتصار من الناحية القانونية.
وهنا يتبين بوضوح مدى أهمية هذا الحكم وشدة الحاجة إليه، في وقت يواجه فيه أكثر من 750 ألف شخص خطر المجاعة في غزة، وفقا للأمم المتحدة، كما أن نقص المياه النظيفة أدى إلى ارتفاع كبير في الأمراض المنقولة بالمياه مثل الإسهال، الذي يعد أحد الأسباب الرئيسية في وفاة الأطفال، وقد حذرت الأمم المتحدة من أن عدة آلاف من الأطفال قد يموتون بسبب الإسهال قبل أن يموتوا جوعاً!
لم يعد هناك سوى 15 مخبزاً من أصل 97 مخبزاً يعمل في غزة بعد 3 أشهر ونصف من القصف، وفي وسط غزة، تسبب النقص الحاد في القمح إلى قيام الناس بخلط علف الطيور وعلف الحيوانات في العجين!
وفي ذات الوقت، عملت جرافات الجيش الإسرائيلي وما زالت على تدمير الحقول والأراضي الزراعية في غزة، وذلك بحجة إنشاء منطقة أمنية، لكن الهدف الاستراتيجي هو ضمان عدم قدرة غزة على زراعة المحاصيل وإنتاج الغذاء.
“إذا كان بمقدور ملايين السوريين والليبيين والتونسيين ركوب القوارب للفرار من الحرب الأهلية والفقر، فلماذا لا ينطبق الشيء نفسه على الفلسطينيين؟!” – صحيفة يسرائيل هوم
وفي الوقت الذي يصور فيه وزير الخارجية البريطاني الأسبق، ديفيد كاميرون، نفسه وهو يقوم بنقل وتحميل المساعدات البريطانية إلى طائرة في الدوحة متجهة إلى مصر، فإن الإسرائيليين في الطرف الآخر من سلسلة التوريد يبذلون كل ما في وسعهم لحرمان غزة من معظم تلك المساعدات، بدءاً من انتظار الشاحنات لأسابيع لتدخل غزة مروراً بالحجج الكثيرة من قبيل العثور على عناصر محظورة في الشحنة وانتهاء برفض دخول منتجات مثل مستلزمات النظافة النسائية وأدوات اختبار المياه ومعقمات الأيدي.
وعندما تصل المساعدات الطارئة بعد رحلة طويلة، يتم استهداف الناس الجوعى بالدبابات والقناصين، فقد تم تسجيل عدة حوادث لذلك، يقول شاهد عيان: “يصطف الناس في المنطقة للحصول على المواد نظرًا لعدم وجود فرق للمساعدة في عمليات التوزيع، وعندما تهاجم القوات الإسرائيلية المنطقة يسقط العشرات من القتلى”.
آخر تلك الهجمات كانت باستهداف طوابير المدنيين في دوار الكويت بالقرب من منطقة صلاح الدين، مما أسفر عن مقتل 8 أشخاص وإصابة العشرات، كما قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 20 فلسطينيًا وأصابت 180 آخرين كانوا ينتظرون المساعدات الإنسانية في مدينة غزة.
يضحكون وهم يطلقون النار!
ليس ذلك عرضياً، بل هو مقصود ومخطط له، ففي مواجهة رفض مصر السماح بنزوح الفلسطينيين إلى سيناء، كلف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وزيره للشؤون الإستراتيجية، رون ديرمر، بوضع خطة “لتخفيف” عدد سكان غزة من خلال تسهيل نزوح لسكان القطاع عبر البحر إلى أوروبا وإفريقيا!
ويستند منطق الخطة، التي كشفت عنها صحيفة “يسرائيل هيوم” لأول مرة، على أنه إذا كان بمقدور ملايين السوريين والليبيين والتونسيين ركوب القوارب للفرار من الحرب الأهلية والفقر، فلماذا لا ينطبق الشيء نفسه على الفلسطينيين؟!
رغم اختلاف أهدافهما، إلا أنه ليس هناك ما يشير إلى أن نتنياهو أو الجيش قد يتخلون عن خطة جعل غزة غير صالحة للعيش، فنتنياهو يريد حرباً مستمرة لأنه يعلم أنه بمجرد توقفها، فإن ائتلافه اليميني المتطرف سيتفكك، مما يجعله في ورطة كبيرة ولذلك فهو يحتاج نصراً ما على الأرض لإرضاء اليمين المتطرف الذي لن يرضيه سوى نزوح جماعي للفلسطينيين من غزة.
قرار محكمة العدل الدولية اليوم لحظة فاصلة جعلت مصداقية إسرائيل تقف لأول مرة على المحك منتظرة!
أما القيادة العليا للجيش فهي لا تهتم كثيراً بالاحتلال الدائم لغزة، حتى أنها تتجاهل حتى الآن الأوامر بإعادة احتلال ممر فيلادلفيا عند معبر رفح مع مصر، فالجيش يريد ما يسميه “استعادة الشرف المفقود وردع حماس”.
في الوقت الحالي، يعمل الاثنان جنبًا إلى جنب، والواضح أن إسرائيل لا تتخلى عن خطتها الاستراتيجية لإفراغ غزة من جزء كبير من سكانها، ومن هنا نرى الجنود وهم يصورون أنفسهم بفخر وشماتة واستهزاء وهم يقومون بتدمير مناطق بأكملها.
تلك المشاهد تعبر عن المزاج السائد في إسرائيل، فبدلاً من البكاء أثناء إطلاق النار، باتوا يضحكون وهم يطلقون النار!
يكشف الاحتمال الوشيك لوفاة عشرات الآلاف في غزة بسبب المجاعة والمرض قبح الواقع المتمثل برفض المجتمع الدولي القيام بأي شيء للتخفيف من المعاناة الجماعية التي هي من صنع الإنسان، والتي تنتهك علناً اتفاقيات جنيف وجميع قواعد الحرب وترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، سواء حكمت محكمة العدل الدولية في نهاية المطاف أم لا.
نتنياهو يتجاهل علناً مطالب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعدم إعادة احتلال غزة، وعدم وجود ممرات أمنية على طول الحدود الحالية مع إسرائيل، وعدم فرض عقوبة جماعية على السكان المدنيين، وضمان مرور الغذاء والماء، ورغم كل هذا العصيان، فإن إسرائيل لا تواجه أي عقوبات بسبب ذلك!
سياسة تظاهر
بالنسبة لكاميرون، لم تكن مشاهده إلا حنيناً واضحاً إلى محاولته إعادة استحضار قذائف المدفعية الأمريكية والقنابل الذكية التي تزود بها إسرائيل من خلال قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني في قبرص باعتبارها مغامرة.
كان الأولى بكاميرون التحدث عن تغيير النظام في تل أبيب والاعتراف بالمسؤولية عن المجزرة في غزة، حيث أن التقاعس عن إنشاء الدولة الفلسطينية من قبل كاميرون، إلى جانب أسلافه وخلفائه، هو السبب وراء الجمود السياسي الذي أدى إلى تفجر الأوضاع في غزة والضفة
ولا يمكننا نسيان مساهمته الشخصية في كارثة التدخل العسكري في الشرق الأوسط، متمثلة في الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا والحرب الأهلية التي أدت إليها، ومن هنا نعرف أن خطواته نحو غزة اليوم ما هي إلا ملامح سياسة تظاهر ليس إلا.
في حديثه من القاعدة الجوية في قطر، قال كاميرون إن أياً من المساعدات المخصصة لغزة لن تستخدم بالشكل الأمثل ما لم يكن هناك “وقف فوري للقتال”، ألا يتذكر كاميرون كم مرة عارضت فيها بريطانيا دعوات وقف إطلاق النار منذ 7 أكتوبر على أساس أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها؟!
شدد كاميرون على أن وقف القتال يجب أن يتحول إلى وقف دائم لإطلاق النار، ولكنه نسي على ما يبدو ما قاله نتنياهو رداً على دعوى جنوب إفريقيا، حيث أكد أنه “لن يوقفنا أحد، لا لاهاي، ولا محور الشر ولا أي شخص آخر”.
ثم يتطرق كاميرون في خطابه إلى وصف ما ينبغي على حماس، المصنفة كمنظمة إرهابية في المملكة المتحدة، أن تفعله، حيث قال: “علينا أن نرى قيادة حماس تخرج من غزة، علينا أن نرى تفكيك آليات حماس”، ألا يذكر كاميرون أن الجيش الجمهوري الأيرلندي لم يتوقف عن القتال حتى تم التفاوض على اتفاقية الجمعة العظيمة؟ فكيف يتخلى الثوار عن أسلحتهم قبل التوصل إلى اتفاق سلام؟!
ويسترسل كاميرون: “علينا رؤية سلطة فلسطينية جديدة قادرة على توفير الخدمات ليس فقط في الضفة الغربية، ولكن في غزة أيضًا، والأهم من ذلك هو وجود أفق سياسي نحو دولة فلسطينية”.
كان الأولى بكاميرون التحدث عن تغيير النظام في تل أبيب والاعتراف بالمسؤولية عن المجزرة في غزة، حيث أن التقاعس عن إنشاء الدولة الفلسطينية من قبل كاميرون، إلى جانب أسلافه وخلفائه، هو السبب وراء الجمود السياسي الذي أدى إلى تفجر الأوضاع في غزة والضفة.
إسقاط المساعدات جواً
إذا لم تمتثل إسرائيل لحكم محكمة العدل الدولية واستمرت في تأخير المساعدات على الحدود واستهداف المدنيين الذين يصطفون في طوابير للحصول على الغذاء، فسوف تتزايد الضغوط على المملكة المتحدة والولايات المتحدة لبدء إسقاط المواد الغذائية جوًا على غزة.
الحقيقة أن الحرب ليست عائقا أمام ذلك، فقد تم ذلك في جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية والبوسنة، فلماذا لا يمكن ذلك في غزة؟ حتى أن للأردن وفرنسا تجربة من خلال عمليات إسقاط جوي محدودة قامتا بها لدعم مستشفى ميداني أردني، فما الذي يمنع بريطانيا والولايات المتحدة من القيام بنفس الشيء؟
الجواب المؤكد هو إسرائيل، فمهما حدث فإن إسرائيل لن ترغب في خسارة احتكارها لفرض الحصار على غزة، لأنه يسمح لها بضبط درجة الألم الذي تلحقه بسكان القطاع، كما أنه السلاح الأكثر ثمناً وشيطانية في ترسانة أسلحتها، وبالطبع إذا ما خسرت الأسلحة فقد خسرت الحرب.
لكل هذه الأسباب، فإن قرار محكمة العدل الدولية اليوم لحظة فاصلة جعلت مصداقية إسرائيل تقف لأول مرة على المحك منتظرة!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)