بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
أوشك خبر صدور قرار محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الماضي أن يمر مرور الكرام في ظل خيبة الأمل الهائلة التي اجتاحت الفلسطينيين ومعظم العالم لفشل قضاة المحكمة في إصدار أمر بوقف فوري للمذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
بأغلبية ساحقة، قرر قضاة المحكمة الدولية أن حجة جنوب أفريقيا بأن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة هي حجة معقولة.
وبهذا القرار، تحدى العديد من أعضاء اللجنة الــ 17 حكومات بلدانهم علانية و أحرجوا حكوماتها، خاصة رئيس المحكمة الأمريكي جوان دونوغو.
ووصفت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قضية جنوب أفريقيا بأنها “عديمة الجدوى وتقود إلى نتائج عكسية وأنها لا أساس لها على الإطلاق في الواقع”، لكن حججها لم تجد استحساناً أمام الحقائق القانونية إلا من قبل أهارون باراك والقاضي الأوغندي الأمر الذي يشير إلى مدى عزلة إسرائيل والولايات المتحدة، بل إن باراك وافق على أن بعض الإجراءات المؤقتة ضد إسرائيل كانت ضرورية لحماية المدنيين.
وقضت محكمة العدل الدولية بأنه يجب على إسرائيل الالتزام باتفاقية منع الإبادة الجماعية واتخاذ خطوات عاجلة لتجنب قتل المدنيين وإيذائهم، وأنه ينبغي عليها أيضاً أن تتجنب خلق الظروف التي قد تجعل الحياة مستحيلة بالنسبة للفلسطينيين في غزة.
واستناداً إلى تصريحات أدلى بها رئيس إسرائيل إسحاق هرتسوغ ووزير دفاعها يوآف غالانت، وخلصت المحكمة إلى أن إسرائيل كانت تفعل عكس ما هو مطلوب منها تمامًا خلال الأشهر الثلاثة والنصف الماضية، إذ تشير تصريحاتهم إلى أن القصد من هذه الحرب هو معاقبة المدنيين وجعل غزة غير صالحة للسكن.
وبلغة قوية أشار القضاة إلى أن إسرائيل فشلت حتى اليوم في الوفاء بالتزاماتها القانونية بموجب الاتفاقية، وإلى أنه سيتعين عليها أن تثبت للمحكمة في غضون شهر أنها غيرت مسارها.
ويكاد يكون في حكم المؤكد أن إسرائيل سوف تتحدى المحكمة وستستمر كما كانت من قبل، فبعد صدور الحكم المؤقت عن المحكمة تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالاستمرار في القتال حتى “النصر المطلق”.
معضلة أخلاقية
في الواقع، قامت محكمة العدل الدولية بمحاكمة إسرائيل على أبشع الجرائم، وهي ذات الجريمة التي طالما اشتكت إسرائيل من تعرضها لها، أي المحرقة النازية، واتخذت من تلك الشكوى أساساً منطقياً لتأسيسها كملاذ ضروري لليهود من معاداة السامية الأوروبية.
وبطريقة متوقعة، وصف نتنياهو تهمة الإبادة الجماعية بأنها “شائنة” و”وصمة عار” في جبين المحكمة، لقد حاول استغلال مصادفة اليوم التالي لجلسة المحكمة ليوم ذكرى المحرقة فحاول توظيفه ضمنياً كسلاح لاتهام كل من يوجه تهمة الإبادة الجماعية لإسرائيل وليس لحماس بأنه يحمل أجندة معادية للسامية.
في الحقيقة، لقد سلطت المحكمة الدولية الضوء على معضلة أخلاقية طالما سعت القوى الغربية إلى طمسها، فمن خلال قتل الفلسطينيين وتشويههم وتطهيرهم عرقياً على مدى العقود السبعة التي تلت إنشاء دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني، ألا تصبح الدولة اليهودية المعلنة ذاتياً أداة يرتكب بها ضحايا جريمة إبادة جماعية جريمة إبادة جماعية أخرى؟ في نهاية المطاف، ما يحدث في غزة اليوم لم يأت من العدم.
لقد ظلت إسرائيل تعمل على طمس فلسطين والشعب الفلسطيني منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، وكانت هناك حلقات من جرائم الحرب المكثفة، مثل عمليات التطهير العرقي في عامي 1948 و1967، فضلاً عن غزو لبنان واحتلاله في أوائل الثمانينيات.
وتخللت تلك الأحداث فترات طويلة من ارتكاب الجرائم طويلة الأمد وبطيئة الحركة مثل جريمة الفصل العنصري المصممة لتقسيم الفلسطينيين وعزلهم و محوهم كشعب.
وبالعودة إلى عام 2006، وفي محاولة لتجاوز حساسيات الإسرائيليين، فضلاً عن اليهود في الخارج والجماهير الغربية، والتي أثارها اتهام مباشر بالإبادة الجماعية، وصف الباحث الإسرائيلي الشهير باروخ كيمرلينج جرائم إسرائيل بأنها “إبادة سياسية”، لقد فعل ذلك قبل عام من بدء إسرائيل حصارها المروع الذي دام 17 عاماً على غزة، وتحويله فعلياً إلى معسكر اعتقال.
ولكن من وجهة نظر كيمرلينج فإن تصرفات إسرائيل، حتى قبل الحصار والمذبحة الجماعية الحالية في غزة، كانت بمثابة شيء قريب من الإبادة الجماعية.
المحكمة قيد المحاكمة
على مدى السنوات القليلة المقبلة من مداولات المحكمة، فإن مسألة ما إذا كانت إسرائيل ترتكب “جريمة الجرائم” سوف تكون في مقدمة ومركز الجدل القانوني.
سيتعين على الفلسطينيين الاستمرار في تحمل الإبادة الجماعية واقعياً، في حين تقوم المحكمة الدولية بغربلة الأدلة حول ما إذا كانت إسرائيل تنفذ بالفعل ما أقر القضاة ضمنا بأنه عمل يشبه إلى حد كبير الإبادة الجماعية
لكن القضاة سيتعرضون لضغوط شديدة للتحرك بشكل أسرع من وتيرتهم المعتادة، فالمحكمة نفسها ونظام العدالة الذي من المفترض أن تدعمه يخضعان للمحاكمة أيضاً، إذ يجب على المحكمة أن تفعل يتوجب عليها فعله أي وقف الإبادة الجماعية الجارية بدلاً من إثباتها بعد أن تم ارتكابها بالفعل.
والأهم من ذلك أن تخضع كل الدول التي سهّلت ورعت وحاولت أن تحمي إسرائيل من التدقيق المناسب في المذبحة التي ترتكبها في غزة للمحاكمة والتحقيق بتهمة التواطؤ في الإبادة الجماعية والتآمر والتحريض على ارتكابها.
نعم، ستستغرق عملية المحاكمة وقتًا طويلاً جدًا، لكنها باتت الآن سحابة تخيم على كل عمل إسرائيلي، كل هجوم على مستشفى، واستمرار حرمان سكان غزة من الغذاء والماء والكهرباء، وقصف “المناطق الآمنة” التي أمرت إسرائيل الفلسطينيين بالنزوح إليها، سيتم إدراجها والتحقيق فيها كدليل على وقوع إبادة جماعية.
وفي موازاة ذلك، سوف تتزايد الضغوط بشكل كبير على المحكمة الشقيقة، الأضعف كثيراً، لمحكمة العدل الدولية في لاهاي وهي المحكمة الجنائية الدولية لتحديد هوية الأفراد الذين يقفون وراء جرائم الحرب تلك.
لقد وافقت المحكمة الدولية على أن جنوب أفريقيا قدمت حجة معقولة، وإذا كان 15 من قضاة المحكمة العالمية السبعة عشر مقتنعون بوجود خطر ارتكاب إبادة جماعية، فإنه يتعين على المحكمة الجنائية الدولية أن تسعى جاهدة إلى ملاحقة المذنبين بارتكاب جرائم الحرب العديدة التي يرتكز عليها هذا التقييم.
الدول المتواطئة
ستحاول إسرائيل أن تستغل حقيقة عدم صدور أي أمر لها بوقف عدوانها العسكري، ومما لا شك فيه أن إحجام المحكمة عن دعم هذا الطلب المقدم من جنوب أفريقيا كان مدفوعا باعتبارات سياسية، ولو أنها فعلت ذلك، لكانت قد خاطرت بالدخول في مواجهة مباشرة مع الجاني الحقيقي أي واشنطن.
لو حدث ذلك لرفضت إسرائيل وقف هجماتها، وكان سيتم إحالة الأمر بعد ذلك إلى مجلس الأمن لتنفيذه، وفي المقابل، كانت إدارة بايدن ستضطر إلى استخدام حق النقض لحماية الدولة التابعة لها.
وفي كلتا الحالتين، لن يقود ذلك إلى إنهاء مذبحة الفلسطينيين، ولكن لو أمرت المحكمة بوقف الإبادة الجماعية، لكان من الواضح أكثر من الآن أن الولايات المتحدة، أكثر من إسرائيل، هي التي تضمن استمرار الإبادة الجماعية دون توقف، فمن غير الأموال والأسلحة الأمريكية لن تكون إسرائيل في وضع يسمح لها بمواصلة قصف غزة.
يبدو أن تعريف واشنطن بأنها راعية الإبادة الجماعية كان بمثابة الحد الأقصى لشجاعة المحكمة الدولية
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة وحلفائها أصبحوا الآن في موقف صعب، ففي اليوم السابق لقرار محكمة العدل الدولية، ذكرت صحيفة هآرتس أن إسرائيل والبنتاغون كانتا على وشك الانتهاء من إبرام اتفاقية أسلحة كبيرة.
ومن المقرر أن تستخدم إسرائيل جزءاً من المبالغ الضخمة من “المساعدات” التي تتلقاها سنويا من واشنطن لشراء 50 طائرة مقاتلة و12 طائرة هليكوبتر هجومية من صنع شركتي لوكهيد مارتن وبوينج، كما أنها تشتري المزيد من “الذخائر الجوية” لأن مخزونها بدأ في النفاد بسبب قصفها المستمر لغزة.
ووفقاً لصحيفة هآرتس، فإن الحاجة إلى المزيد من طائرات الهليكوبتر الهجومية على وجه الخصوص “هي درس مباشر من الحرب الحالية في غزة”، حيث تم استخدام الطائرات الموجودة ” لضرب أهداف العدو ولمساعدة القوات البرية للجيش الإسرائيلي”.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين إسرائيليين كبار قولهم أن إدارة بايدن ” أعربت عن التزامها بضمان الإمداد السريع بالأسلحة والذخائر لإسرائيل لمساعدة الجيش الإسرائيلي في الحرب الحالية”.
وسوف تقوم المحكمة الدولية الآن بالتحقيق فيما إذا كان هذا الالتزام يشكل في الواقع تواطؤاً أو حتى مؤامرة لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
خطر قانوني
لم يولد قرار محكمة العدل الدولية في ظل حالة فراغ قانوني، ففي اليوم نفسه، استمعت محكمة اتحادية في كاليفورنيا إلى قضية مرفوعة ضد إدارة بايدن بتهمة التواطؤ والفشل في منع “الإبادة الجماعية” في غزة.
وتتعرض دول أخرى لخطر مماثل، فقبل صدور الحكم، كان بوسع حلفاء إسرائيل أن يزعموا أن نقلهم الأسلحة إلى إسرائيل يتم بحسن نية، حتى لو تبين لاحقاً أن بعض هذه الأسلحة استخدمت عن غير قصد أو غير قصد في ارتكاب جرائم حرب.
لكن اشتباه المحكمة الدولية في وقوع جريمة إبادة جماعية يعني أن الدول الأخرى يجب أن تتصرف بقدر أكبر من الحذر لتجنب خطر اتهامها بالتواطؤ وقد رفع القضاة بطاقة حمراء في وجه سلوك إسرائيل و يتعين على الدول الأخرى أن تأخذ علماً بذلك.
وتقوم معظم الدول الأوروبية بتزويد إسرائيل منذ سنوات بالأسلحة التي استخدمت ضد الفلسطينيين، ولكن البعض، وليس الولايات المتحدة فقط، يساعدون إسرائيل بفاعلية في قصفها لغزة، مما أسهم في مقتل ما لا يقل عن 26 ألف فلسطيني حتى الآن أغلبهم من النساء والأطفال.
فالمملكة المتحدة تستخدم قاعدة جوية في قبرص للقيام بعشرات من مهمات الاستطلاع فوق غزة، حيث يتم تبادل معلوماتها الاستخباراتية مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه، أفادت التقارير أن ألمانيا تقوم بشحن قذائف الدبابات إلى إسرائيل لتجديد مخزونها المستنزف.
وفي دورهم الخطابي والدبلوماسي، تجاهل الزعماء الغربيون العدد الهائل من الضحايا الفلسطينيين، فضلاً عن الوضع القانوني لإسرائيل كدولة احتلال والحصار العسكري الذي تفرضه على القطاع، وقد أعطى الكثيرون الأولوية بدلاً من ذلك “لحق إسرائيل المفترض في الدفاع عن النفس.
والأسبوع الماضي تم التأكيد على درجة سوء نية التي يضمرونها عندما تبين أن مجموعة من المسؤولين والدبلوماسيين الهولنديين قدموا أدلة إلى لاهاي تزعم أن رئيس وزرائهم، مارك روته، سعى إلى إخفاء اكتشاف رسمي عن الجمهور بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب.
ووفقا للأدلة، سأل روته وزارة الشؤون القانونية: “ماذا يمكننا أن نقول لجعل الأمر يبدو كما لو أن إسرائيل لا ترتكب جرائم حرب؟”
عار على وسائل الإعلام
يجب أن يشكل هذا الحكم عاراً على المؤسسات الإعلامية الغربية أيضاً، وقد يكون من المبالغة توقع أن هيئة الإذاعة البريطانية وغيرها سيدرجون عند حديثهم عن إسرائيل وصفاً لها بأنها ” تخضع للتحقيق بتهمة الإبادة الجماعية” تماماً كما يصفون حالياً حماس بأنها “منظمة مصنفة إرهابية من قبل المملكة المتحدة والحكومات الأخرى”.
لكن محكمة العدل الدولية سلطت الضوء بشدة على محطات بث الأخبار مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) التي بالكاد كانت تغطي ما يجري في غزة خلال الأسابيع الأخيرة.
تخشى محكمة العدل الدولية احتمال ارتكاب إبادة جماعية، لكن وسائل الإعلام الرسمية سرعان ما سأمت من تغطية القضية على عكس تقاريرها ومراجعاتها التي لا تنتهي للأحداث التي وقعت قبل ما يقرب من أربعة أشهر، عندما هاجم مقاتلو حماس إسرائيل، وعن محنة المحتجزين الإسرائيليين في غزة، ودعونا نلاحظ أيضًا أنه يختلف تمامًا عن تغطيتها لمدة عام أو أكثر للغزو الروسي لأوكرانيا.
لقد قامت مؤسسات إعلامية كبرى بإيقاف البث المباشر عن موظفيها الذين يُنظر إليهم على أنهم ينتقدون المذبحة التي ترتكبها إسرائيل ملمحةً إلى أن حديثهم مدفوع بالتحيز لا بتقدير القانون الدولي.
فقد قامت هيئة الإذاعة الأسترالية ABC بطرد المذيعة الأسترالية اللبنانية الحائزة على جوائز، أنتونيت لطوف، بعد أن هددت جماعات ضغط إسرائيلية رفيعة المستوى باتخاذ إجراءات قانونية إذا لم تتم إقالتها.
ومن الجدير بالذكر أن مهدي حسن، الذي غرد عن إقالة لطوف، كان واحداً من ثلاثة مذيعين مسلمين على قناة MSNBC تم إبعادهم عن موجات الأثير في الأسابيع الأخيرة، حيث تصدر حسن عناوين الأخبار من خلال مقابلات تصادمية مع متحدثين إسرائيليين مثل مارك ريجيف.
ولم تكن شركات التواصل الاجتماعي أفضل حالاً، فقد خلص تقرير حديث لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن شركة ميتا، التي تمتلك فيسبوك وإنستغرام، تقوم بشكل منهجي بقمع المحتوى المتعلق بالفلسطينيين وغزة، مما يسهل على إسرائيل التهرب من التدقيق العام في جرائمها.
معركة التحريض
ربما لم يكن من المستغرب أن يدعو نتنياهو وزراءه إلى تجنب التعليق على قرار محكمة العدل الدولية بعد أن نقلت المحكمة تصريحات غالانت و هرتسوغ عن الإبادة الجماعية بشكل بارز.
وسواء وجدت المحكمة في نهاية المطاف أن الأدلة ضد إسرائيل تتجاوز المعايير العالية المحددة للإبادة الجماعية أم لا، فإن إثبات التحريض على الإبادة الجماعية يجب أن يكون أسهل بكثير، حيث تضمن الالتماس الذي قدمته جنوب أفريقيا إلى المحكمة صفحة تلو الأخرى من تصريحات الإبادة الجماعية التي أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم نتنياهو نفسه.
ومن الممكن أن تخسر إسرائيل تلك المعركة بالذات بسرعة أكبر بكثير، لكن وبطبيعة الحال، سوف يجد المسؤولون الإسرائيليون صعوبة في كبح جماح تحريضهم، بما في ذلك ضد المحكمة.
فقد رد غالانت من خلال وصف قضية جنوب إفريقيا بأنها “معادية للسامية” ومن خلال الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية كانت حريصة جدًا على الانغماس في معاداة السامية.
وما أكدته محكمة العدل الدولية هو أن الوصمة التي أصابت إسرائيل لن تزول والسؤال الآن هو إلى أي مدى سينتشر الخزي والعار؟
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)