بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
اتضح الآن تماماً ما كان يدور في ذهن المسؤولين الإسرائيليين عندما اطلعوا صحيفتي نيويورك تايمز و وول ستريت جورنال على اختراق حماس المزعوم لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وما زلت أجد صعوبة في فهم ابتلاع الحكومات في العالم الغربي للطعم بسهولة دون التدقيق في الحقائق، وكيف قامت 17 دولة في رمشة عين بحجب تمويلها الذي يزيد قليلا عن 440 مليون دولار عن الأونروا، أي نصف الميزانية التشغيلية للمنظمة الدولية.
كان ينبغي على هذه الدول أن تفكر خلال إجازة نهاية الأسبوع في وقف تمويل إسرائيل بعد حكم محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة في قضية الإبادة الجماعية في جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، لكن كل الحديث اتجه حول وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة وهي الجهة الوحيدة التي تبقي الفلسطينيين على قيد الحياة في غزة، في حال نسي الجميع، علينا أن نتذكر أن حرباً تدور هناك.
وتقوم الأونروا حالياً بتوفير المأوى لأكثر من مليون فلسطيني نازح في 154 موقعاً في القطاع، ولا يقتصر الأمر على الفلسطينيين الذين توظفهم المنظمة والذين يبلغ عددهم 13,000 موظف سيما وأن الأونروا هي أكبر وكالة إغاثة تعمل في منطقة الحرب هذه، وهي منطقة دمار لا مثيل له.
وتقوم شاحنات الأونروا التي يقودها سائقون تابعون للأونروا بنقل الإمدادات الضئيلة من الحدود ويقومون بالتحميل والتفريغ ونقل المساعدات في مستودعاتهم وتوزيعها.
وقالت جولييت توما، مديرة الاتصالات في الأونروا: ” إذا اختفت الأونروا، فإن العواقب ستكون كارثية على غزة”، ورغم ذلك، فإن وقف عمليات المنظمة أصبح الآن محتملاً للغاية.
وأضافت توما: ” إذا لم يتم استئناف التمويل، فلن نتمكن من مواصلة عملنا الإنساني بعد نهاية شهر شباط / فبراير وهذا يشمل غزة، فليس لدينا احتياطيات ولا مدخرات يمكننا الاستفادة منها في هذا الوقت”.
قائمة من الافتراءات المتزايدة
بعدما أوقفت 17 دولة التمويل عن الأونروا وبين عشية وضحاها تحول الجيش الإسرائيلي الذي قتل أكثر من 152 من موظفي الأونروا في غزة ا في أذهان هذه الدول إلى ضحية لوكالة الأمم المتحدة التي “اخترقتها حماس”.
وقد أعادت وسائل الإعلام الدولية دون أدنى شك إنتاج “ملف” الأدلة المزعومة التي وزعتها إسرائيل على الصحفيين، وهو الملف الذي لم تسلمه رسمياً إلى الأونروا نفسها.
وعلمت وكالة الأمم المتحدة لأول مرة بالادعاء القائل بأن 12 ثم 190 ثم 1200 من موظفيها كانوا في البداية “أعضاء في حماس” من وسائل الإعلام، وذلك رغم أن الأونروا تشارك قوائم موظفيها مع إسرائيل ومع حكومات الدول التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين.
وفي أيار / مايو الماضي، سلمت إسرائيل قائمة بأسماء جميع موظفيها في غزة والضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، لكن توما أوضحت: “لم نتلق أي رد، ناهيك عن أي اعتراض”.
لم يتوقف أحد لفحص مدى مصداقية ادعاءات الجيش الإسرائيلي أو مقارنتها بالقائمة المتزايدة من الافتراءات المعروفة التي صنعها نفس الجيش
من المؤكد أن إسرائيل لو كانت تجمع معلومات استخباراتية حول اختراق حماس لوكالة حيوية تابعة للأمم المتحدة تضم هذا العدد الكبير من الموظفين في الأراضي المحتلة لكانت قد أشارت إلى هذه المخاوف في عام 2023 أو في أي عام قبل ذلك، فهي تملك الفرصة للقيام بذلك، ولكن هذا لم يحدث قط حيث يمتد وجود الأونروا إلى فترة زمنية طويلة رافقت قيام دولة إسرائيل.
ولم يتفحص أحد مصداقية ادعاءات الجيش الإسرائيلي ولم يزنها في ظل القائمة المتزايدة من الافتراءات التي اختلقها نفس الجيش لتغطية آثار عدوانه على المدنيين الذين قتلهم في غزة.
أحد الادعاءات الإسرائيلية الأكثر تصديقاً هو أن الجنود عثروا على جهاز كمبيوتر يضم قائمة بأسماء أعضاء حماس وقارنوها بقائمة الموظفين التي قدمتها وكالة الأمم المتحدة، فتوصلوا إلى أن حوالي 10% من موظفي الوكالة البالغ عددهم 13 ألف موظف في غزة كانوا أعضاء في حماس.
اسأل أي خبير في مكافحة التمرد عن كيفية تنظيم الحركات الإسلامية وسيخبرك أنه من غير الممكن أن تكون مثل هذه القائمة موجودة، ليس لدى حماس قائمة بأعضائها، وحتى في دول مثل الأردن، حيث جماعة الإخوان المسلمين معترف بها رسميًا، لا توجد مثل هذه القوائم لعضوية الجماعة كما لا يوجد مثل تلك القوائم لدى إخوان مصر أو أي بلد آخر يتواجدون فيه.
وهذه هي المشكلة التي واجهها الدبلوماسي البريطاني السابق جون جنكينز عندما كتب تقريره عن وجود الإخوان المسلمين في بريطانيا، لقد قال لي حينها: ” الإخوان ليس لديهم عنوان بريدي في هذا البلد، ليس هناك ما يمكن الاستيلاء عليه، حتى لو أردنا ذلك”. لا شك أن هناك سبب لذلك، حيث يتم تنظيم وتمويل الحركات الإسلامية في خلايا صغيرة تخفى معلوماتها عن بعضها البعض.
قلة المعلومات الموثوقة المتوفرة
وهذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة لمنظمة عسكرية مثل حماس، فالرجال الأربعة الذين أطلقوا هجوم السابع من أكتوبر من غزة أبقوا الخطة سراً عن كل عضو في حماس خارج غزة بمن فيهم نائب القائد صالح العاروري الذي قتله الإسرائيليون في بيروت الشهر الماضي.
جاء هجوم 7 تشرين الأول / أكتوبر بمثابة مفاجأة للشتات الذي كان يدعي أنه على اتصال بحركة حماس، وهي منظمة محظورة في المملكة المتحدة.
إن السرية متأصلة في كل واحد من مستويات الهيكل التنظيمي لحماس، ولهذا السبب لم يكن معروفاً سوى القليل من المعلومات عن عدد المقاتلين لديها أو أساليب تجنيدهم أو مدى شبكة الأنفاق، وكانت ترسانتها من القنابل الصاروخية الخارقة للدبابات بمثابة مفاجأة غير سارة للجيش، حيث تساوي الكثير من المفاجآت القليل من المعلومات الموثوقة.
وللدفاع عن نفسه من الانتقادات بعدم إحراز حملته البرية أي تقدم، ادعى الجيش الإسرائيلي في وقت ما أنه اكتشف مخبأ كبيرا للأسلحة في أحد الأنفاق وكان من السهل على حماس أن تنفي ذلك.
فهم ليس لديهم مخازن للأسلحة، ويتم توزيع كل قوتهم النارية وإخفائها بعناية لسبب عسكري أساسي وهو أن أي مخبأ للأسلحة مهما كان حجمه سيكون عرضة للضربات الجوية.
ويجب على أي جهة صحفية أو حكومية تردد الادعاءات الإسرائيلية أن تتذكر عدد المناسبات التي تم فيها كشف الجيش الإسرائيلي وهو يقوم بتلفيق الأدلة حول ما كان يفعله في غزة خلال الأشهر الأربعة الماضية.
ويعد الاغتيال المتعمد للصحفي حمزة الدحدوح، نجل مدير مكتب الجزيرة في غزة، وائل الدحدوح، أحد الأمثلة العديدة الحديثة، فقد كان حمزة وصديقه مصطفى ثريا ضمن مجموعة من الصحفيين المتجهين إلى موقع غارة جوية إسرائيلية لتغطية الحادث صحفياً وكانت طائرات إسرائيلية بدون طيار تجوب في ذلك الوقت سماء القطاع لمسح مكان الدمار.
وبعد لحظات قليلة، تعرض موكب الصحفيين المغادرين لضربتين بطائرتين بدون طيار استهدفت الثانية سيارة قتل فيها حمزة ومصطفى وزعم الجيش الإسرائيلي أنه استهدف ” متورطين في مجموعات تهاجم جيش الدفاع الإسرائيلي”.
يعرف كل صحفي قام بتغطية الحرب أن الصحفيين هم الهدف المتكرر للجنود الإسرائيليين، بدءًا من القناص الذي قتل شيرين أبو عقلة، الصحفية الفلسطينية الأمريكية، إلى ما لا يقل عن 117 صحفيًا قتلوا على يد إسرائيل في غزة خلال هذا العدوان.
لا يمكن أخذ الادعاءات الاستخباراتية التي تنشرها إسرائيل على محمل الجد، فلماذا يتعين إذن تصديق ادعاءات جيش يتمتع بسجل حافل في نشر أخبار كاذبة حول عملية تستغرق وقتاً أطول بكثير مما كان يعتقد، حول منظمة تابعة للأمم المتحدة كان يريد إلغاءها لسنوات عديدة؟
حق العودة
لذا دعونا نصل إلى السبب الحقيقي الذي يجعل إسرائيل تعمل على دفع الأونروا إلى “الانهيار”، ولا علاقة لذلك بحماس ولا بالحرب الحالية في غزة، ولهذا علينا أن نعود بالزمن إلى قرارات الأمم المتحدة عام 1947، وإنشاء إسرائيل كدولة عام 1948، وقبولها كدولة في الأمم المتحدة.
تمت صياغة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين لأول مرة من قبل وسيط الأمم المتحدة لفلسطين فولك برنادوت، الذي دفع من أجل ذلك خلال الهدنة التي تم التوصل إليها في حزيران / يونيو 1948.
في ذلك الوقت، كتب برنادوت في تقريره العام الأول للأمين العام:” سيكون حرمان ضحايا الصراع الأبرياء من حق العودة إلى ديارهم بينما يتدفق المهاجرون اليهود إلى فلسطين بمثابة جريمة ضد مبادئ العدالة الأساسية، وإذا تم في الواقع، فإن هؤلاء الوافدين سيشكلون على الأقل تهديدًا بالاستبدال الدائم للمهاجرين العرب اللاجئين الذين تجذروا في الأرض لعدة قرون”.
تم اغتيال برنادوت وهو سويدي أنقذ آلاف اليهود من السوق إلى معسكرات الاعتقال على يد جماعة يهودية سرية تحت قيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقبلي إسحاق شامير، لكن حق العودة الذي نحته أدرج في قرار الأمم المتحدة رقم 194.
وكان هذا الحق شرطاً لانضمام إسرائيل إلى الأمم المتحدة في عام 1949، حيث سئل ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، أبا إيبان، عما إذا كانت إسرائيل ستحترم التزاماتها بموجب القرار 194، فأجاب: ” يمكنني أن أعطي إجابة إيجابية غير مشروطة على السؤال وعما إذا كنا سنتعاون مع أجهزة الأمم المتحدة بكل الوسائل المتاحة لنا لتنفيذ القرار المتعلق باللاجئين”.
تأسست الأونروا عام 1949 لتوفير التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية لنحو 700 ألف لاجئ وجدوا بسبب قيام إسرائيل.
إن لم يكن هناك أونروا، فلن يكون هناك لاجئين
والأونروا اليوم هي المنظمة الوحيدة التابعة للأمم المتحدة التي تعرف اللاجئ الفلسطيني بأنه الشخص الذي كان مكان إقامته فلسطين في الفترة ما بين حزيران / يونيو 1946 وأيار / مايو 1948 والذي فقد منزله نتيجة للنزاع.
وينطبق وضع اللاجئ على جميع أحفاد هؤلاء مما يعني أن الأونروا تساعد الآن أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني مسجل في لبنان وسوريا والأردن، والضفة الغربية، والقدس الشرقية، وغزة.
إن أميركا تنقاد إلى طريق لا يؤدي إلى حرب إقليمية فحسب، بل يتم قيادتها في طريق تدمير حياة ملايين اللاجئين في جميع أنحاء العالم العربي
وإذا نجحت إسرائيل في إقناع الرئيس الأميركي جو بايدن بإلغاء الأونروا ونقل دورها إلى وكالات أخرى مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أو برنامج الغذاء العالمي، فإن الأمم المتحدة لن تعترف بعد الآن بما يصل إلى خمسة ملايين فلسطيني كلاجئين.
وتتهم إسرائيل الأونروا “بإدامة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” من خلال السماح بنقل حقوقهم للأجيال القادمة.
في الواقع، إسرائيل هي المسؤولة الوحيدة وبشكل متسلسل ومتكرر عن خلق اللاجئين وحرمانهم من حقهم في العودة إلى ديارهم، ويوم الأحد، حاول 12 وزيرًا في الحكومة الإسرائيلية الحالية جاهدين خلق المزيد من اللاجئين.
لقد حضروا مؤتمراً يدعو إلى إعادة الاستيطان قطاع غزة، وهو مثال علني مرعب للتحريض على الإبادة الجماعية الموضوعة قيد النظر من قبل المحكمة الدولية.
أحد مؤسسي حركة إعادة الاستيطان في غزة هو القاتل المدان عوزي شرباف، الذي قضى سبع سنوات لقتله ثلاثة طلاب في الكلية الإسلامية في الخليل عام 1983.
ومن الطبيعي أن يحضر المؤتمر “الأشرار” وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتامار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريش، ولكن حضرها أيضا كادر كبير من حزب الليكود.
وناقش المؤتمر مفهوم “الهجرة الطوعية” للمدنيين الفلسطينيين من غزة، حيث جادل وزير الاتصالات من حزب الليكود، شلومو كارهي، أنه في الحرب “الطوعية هي في بعض الأحيان دولة تفرضها على شخص ما حتى يعطي موافقته”.
انهيار الولايات المتحدة
تلقي الولايات المتحدة محاضرات على العالم حول نظام عالمي قائم على القانون، وقد أمرت المحكمة الدولية إسرائيل باتخاذ كافة التدابير التي في وسعها لمنع أعمال الإبادة الجماعية والمعاقبة على أعمال التحريض، وقد كان هذا هو رد 12 وزيراً في الحكومة على حكم المحكمة الدولية دون أن تفعل واشنطن شيئاً.
وبدلاً من إجبار إسرائيل على الامتثال لقرارات المحكمة الدولية، ناقشت مجموعة من الديمقراطيين في البيت اليهودي بدائل للأونروا مع العقيد إيلاد غورين، رئيس الدائرة المدنية في وحدة منسق الأنشطة الحكومية الإسرائيلية (COGAT).
ونفى غورين علناً وقوع مجاعة جماعية في غزة وادعى أن إسرائيل بذلت قصارى جهدها لتسهيل تدفق المساعدات إلى القطاع.
وكما لو كان لدى أي شخص أي شك في نية إسرائيل، قال نتنياهو يوم الأربعاء أنه من الضروري إنهاء مهمة الأونروا.
إن أميركا تنقاد إلى طريق لا يؤدي إلى حرب إقليمية فحسب، بل إنها تسير على طريق تدمير حياة الملايين من اللاجئين في جميع أنحاء العالم العربي، وهو عمل من شأنه أن يزعزع استقرار الأردن ولبنان، وكذلك جميع الأراضي المحتلة.
ومن الجنون أن تلتزم الولايات المتحدة بهذا، لكن حتى الآن لم تظهر واشنطن أي إشارة على الإطلاق إلى إدراك مدى خطورة هذا المسار على النظام العالمي.
عندما تكتب أجيال المستقبل تاريخ انهيار الولايات المتحدة كزعيم عالمي، فإن مثل هذه اللحظات هي التي سوف تكون بمثابة النقاط الحاسمة في اضمحلال أميركا كقوة عالمية كبرى.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)