بقلم هالة الصفدي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
الشعور بالذنب الشديد بسبب البقاء على قيد الحياة في الوقت الذي يُقتل فيه الآخرون أصبح يسيطر على العديد من فلسطينيي الشتات من أبناء غزة، حيث ننعم نحن بالأمان بينما تقطعت السبل بأحبائنا في غزة التي مزقتها الحرب خلال الأشهر الأربعة الماضية.
حتى أن الرسائل والمكالمات الهاتفية التي أتلقاها من عائلتي في غزة أصبحت أقصر من ذي قبل، فقد استنزفوا عاطفياً ولم يعودوا راغبين في التحدث، فالأحاديث الطويلة التي اعتدنا أن نجريها في بداية الحرب حول القصف الإسرائيلي ونقص الضروريات اليومية ورفاهية عائلتي ومخاوفها بشأن اليوم التالي للحرب تم استبدالها بالتنهدات والردود الخافتة كعبارات “ما زلنا على قيد الحياة ” أو ” لا جديد” أو ” إنه مجرد يوم آخر في غزة”.
حينما بدأت الحرب، كنت أبكي كل يوم، لكن مقاطع الفيديو والقصص القادمة من غزة حطمتني في النهاية وتوقفت عن البكاء، وتملكني بدلاً من ذلك الغضب تجاه العالم.
كنت غاضبةً من الجهلة الذين لا يعرفون ما يحدث في الشرق الأوسط، وغضبت من السياسيين الذين حاولوا تبرير قتل المدنيين الأبرياء، كنت غاضبة من الدول التي وافقت على إرسال المزيد من الأسلحة إلى إسرائيل بدلاً من إرسال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، لكني اليوم، وبعد أكثر من أربعة أشهر من الحرب بتُّ أشعر بالخدر.
إن عدم قدرة الإنسان على مساعدة أحبائه في وقت الحاجة من أسوأ المشاعر التي يمكن أن يشعر بها، والأمر لا يقتصر على عدم مقدرتي على فعل أي شيء وانا في المملكة المتحدة، بل إن المجتمع الدولي وملايين المتظاهرين كانوا عاجزين عن وقف وحشية إسرائيل.
أسئلة مؤلمة
مازال يتعين علي أن أستيقظ كل صباح وآخذ ابني إلى المدرسة وأعمل وأخرج وأتواصل مع الآخرين وأتظاهر بأنني شخص عادي لديه شكاوى عادية من العالم الأول، لكن القيام بكل هذه المهام الدنيوية يجعلني أشعر بالذنب أكثر من أي وقت مضى.
لماذا لست متواجدة هناك مع عائلتي؟ لماذا يعد من المقبول بالنسبة لي أن أشعر بالأمان عندما لا يستطيعون هم ذلك؟ لماذا أعامل كشخص يتمتع بحقوق الإنسان الكاملة في المملكة المتحدة، بينما لو كنت في غزة اليوم، فلن أتمتع بالحقوق الأساسية؟ لماذا يمكنني الحصول على مياه شرب نظيفة بمجرد فتح الصنبور؟
ورغم أنني أعرف كل الإجابات العقلانية لهذه الأسئلة، إلا أن عقلي يبدو غير راغب في قبولها، فلم يعد أي شيء مما يحدث في غزة منطقيًا بالنسبة لي.
وباعتباري واحدةً من الذين نجوا من ثلاث حروب إسرائيلية سابقة على غزة، فقد أعادت هذه الحرب العديد من الذكريات المظلمة إليّ، عاد صوت طائرات الركاب يخيفني مرة أخرى، أذكر نفسي باستمرار أنها ليست طائرات حربية، لقد عدت إلى كوابيس الحروب والغارات أهرب من التهديدات طوال الوقت حتى أثناء نومي.
أن تكون فلسطينيًا من غزة تعيش في الخارج في هذا الوقت بالذات أمرٌ بالغ الصعوبة، ففي الأيام الأولى للحرب، شعرت بأنني مضطرة لأن أشرح للجميع أن التاريخ لم يبدأ في السابع من أكتوبر، سُئلت عدة مرات عما إذا كنت أدين حماس قبل أن أُسأل عن شعوري تجاه نزوح عائلتي بعد قصف منزلها.
ومع تزايد عدد القتلى والدمار في غزة، أظهر الناس من حولي المزيد من التفهم والتعاطف، ولكن بعد مرور أربعة أشهر لم يعد أحد يسألني عن غزة أو عن عائلتي، لقد أدركت أنه عندما يعرض شيء في الأخبار لفترة طويلة، فإن الناس يميلون إلى فقدان الاهتمام.
وقد وصف مارتن غريفيث، منسق الإغاثة الطارئة التابع للأمم المتحدة، في مقابلة أجريت معه في أواخر العام الماضي المعاناة الرهيبة للمدنيين المحاصرين في غزة بالقول: ” لا تستطيع أي أسرة أن تخطط لمستقبلها، أنا أرى هذه الأشياء في جميع أنحاء العالم، لكن هذا يتجاوز مخيلتي وسوف تزداد الأمور سوءاً”.
ارهاق عاطفي
بالنسبة للفلسطينيين من أبناء غزة، وأنا منهم، فإن هذه الحرب هي الأسوأ على الإطلاق بسبب عجزنا، إذ لا يمكننا أن نفهم كيف تستمر هذه الحرب بينما يتم بثها على الهواء مباشرة.
نشاهد أطفالًا يتم انتشالهم من تحت الأنقاض ونسمع صرخات الأيتام حديثي الولادة، بينما يتابع العالم هذه المشاهد وكأنها لم تعد حقيقية
في كل مرة أرسل رسالة إلى أحد أفراد العائلة وأحصل على علامة واحدة فقط فتظهر أنه لم يتم تسليمها بنجاح إلى هاتفه، أشعر بالذعر وأبدأ في التفكير في السيناريو الأسوأ، يستمر هذا حتى تتم استعادة اتصالهم بالإنترنت وأرى العلامتين، عندها فقط يمكنني أن أشعر ببعض الراحة، على الأقل حتى الرسالة التالية.
لقد أظهرت لنا هذه الحرب كيف لا يُنظر إلى الناس جميعاً على قدم المساواة، وكيف لا تُمنح حقوق الإنسان لجميع البشر، وكيف يمكن تصميم القانون الدولي واتفاقيات جنيف بما يتناسب مع من هم في السلطة.
وكوني فلسطينية من غزة تعيش في المملكة المتحدة، كتبت إلى أعضاء البرلمان وشاركت في المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والفعاليات الخيرية لدعم فلسطين، لقد اتصلت بالسفارات في محاولة لإحضار عائلتي من غزة إلى هنا لكن كل ذلك كان بلا جدوى، كنت ومازلت عاجزةً ويائسةً.
إن الإرهاق العاطفي الذي أشعر به اليوم نتيجة لتلك الحرب يفوق ما يمكنني تحمله، لكني أشعر بالحرج من الشكوى، فعلى الأقل لدي ترف أن أضع رأسي على وسادتي كل ليلة بينما تسقط القنابل فوق رؤوس أحبائي في غزة.
عندما ألتقي بأصدقائي الفلسطينيين في المملكة المتحدة، يخيفني أن أسأل عن عائلاتهم في غزة، ” “فسؤال ماذا لو” أصبح قاتلاً للغاية.
وبمجرد أن أستجمع الشجاعة لتوجيه مثل ذلك السؤال، نتحدث عن الذي نزحت أسرته عدة مرات أو من لا تزال أسرته تكافح للعثور على الطعام أو الماء أو مكان للإقامة، ومع ذلك، فإن المحادثات الأكثر إيلاما تأتي عندما يفقد شخص ما أحد أحبائه.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)