بقلم مها هلال
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الوقت الذي أشعل فيه آرون بوشنل، ذو الـ 25 عاماً والعضو في القوات الجوية الأمريكية، النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، كانت إسرائيل قد قتلت ما لا يقل عن 38 ألف فلسطيني في عمليات الإبادة الجماعية المستمرة في غزة.
لقد كان العنف والدمار العشوائي والواسع الذي تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023، وبدعم كامل من الولايات المتحدة، هو بالضبط ما دفع بوشنل إلى إحراق نفسه احتجاجاً.
في 25 فبراير 2024، أحرق بوشنل نفسه في بث مباشر على منصة تويتش، معلنًا أنه “لم يعد بإمكانه أن يكون متواطئًا في الإبادة الجماعية”، مضيفاً أنه “على وشك الانخراط في عمل احتجاجي متطرف، ولكنه لا يعد متطرفاً مقارنة بما يشهده الناس في فلسطين على أيدي مستعمريهم، هذا ما قررت طبقتنا الحاكمة أنه سيكون طبيعيا”.
تعمدت وسائل الإعلام التعتيم على تأثير الإبادة الجماعية وتجاهلت دور حكومة الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، في توفير الغطاء الدبلوماسي والدعم العسكري والمالي لإسرائيل، وبدلاً من ذلك، قام مراسلوا تلك الوسائل الإعلامية ببناء رواية تتعلق بالصحة العقلية المزعومة لبوشنل والتنشئة الدينية المحافظة
ظهر بوشنل في الفيديو وهو يردد “فلسطين حرة” خلال احتراقه، ثم توفي بوشنل في اليوم التالي متأثراً بجراحه، في احتجاج وصل إلى التضحية بالنفس من قبل أمريكي ومن أجل غزة!
يذكر أنه في ديسمبر الماضي، أضرم شخص يحمل العلم الفلسطيني النار في نفسه خارج القنصلية الإسرائيلية في ولاية أتلانتا، فيما وصفته الشرطة بأنه “عمل احتجاجي سياسي متطرف”، إلا أن الشخص نجا من الموت وظل في حالة حرجة.
رغم تشابه الدافع لدى الطرفين من الحرق، إلا أن حرق بوشنل لنفسه شكل صدمة أكبر، فلأول مرة يعبر فيها أحد أفراد الخدمة العسكرية الأمريكية عن انزعاج شديد من العنف الذي تدعمه الدولة الأمريكية إلى درجة الإقدام على الانتحار!
بمجرد ظهور القصة، شنت وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة ما بدا وكأنه حملة منسقة من التشويش ومحاولة تشهير ببوشنل من أجل حماية إسرائيل من الانتقادات وتقليل القيمة السياسية العميقة التي يحملها عمل بوشنيل الاحتجاجي.
حجب الحقائق
لقد أصبح الأمر تحريراً طبيعياً في صحيفة النيويورك تايمز، حيث يتم حذف الأسباب التي أدت إلى حدوث الأشياء بشكل واضح، فالناس “يموتون” في ظروف غامضة في غزة، وفي بعض الأحيان يتم “قتلهم” ولكن لا يتم إخبار القراء من قتلهم، وبالمثل، فقد أشعل الرجل النار في نفسه، لكن أسبابه لم يتم ذكرها.
علق عدد من القراء على الأمر، فكتب أحدهم على اكس مشيراً إلى أن المقال “لا يذكر أي صلة مباشرة بين تصرفات بوشنل والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة”، وفي ظل عدد كبير من الردود المماثلة، قامت الصحيفة بحذف عنوانها الرئيسي.
تسليط الضوء على التضحية بالنفس كشكل من أشكال العنف السياسي يصرف الانتباه عن المستويات الكارثية لعنف الدولة التي كان عمل بوشنل الاحتجاجي يحاول لفت الانتباه إليها!
من جانب آخر، فقد نشرت العديد من وسائل الإعلام الرئيسية الأخرى، بما في ذلك سي إن إن ورويترز وواشنطن بوست، عناوين متطابقة تقريبًا في تغطيتها لاحتجاج بوشنل، حيث أثار فشل وسائل الإعلام في تحديد أسباب تصرفه “وابلاً من الانتقادات” على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي كانت بمثابة مصدر بديل للتقارير.
مرة أخرى، تعمدت وسائل الإعلام التعتيم على تأثير الإبادة الجماعية وتجاهلت دور حكومة الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، في توفير الغطاء الدبلوماسي والدعم العسكري والمالي لإسرائيل، وبدلاً من ذلك، قام مراسلوا تلك الوسائل الإعلامية ببناء رواية تتعلق بالصحة العقلية المزعومة لبوشنل والتنشئة الدينية المحافظة.
نشرت جميع تلك الوسائل والصحف مقالات تسلط الضوء على طفولة بوشنل وتربيته في مجتمع ديني صارم، فبالنسبة لمجلة نيويورك تايمز، فقد “نشأ بوشنل في مجموعة دينية في كيب كود تسمى مجتمع يسوع، والتي تقدم أعضاؤها السابقون بدعوى سوء المعاملة والبنية الاجتماعية الصارمة”، أما الواشنطن بوست، فقد أوردت تصريحاً لمن وصفته بالعضو السابق في الطائفة الدينية مفاده أن انتقال أفراد الطائفة إلى الجيش بمثابة انتقال من “مجموعة سيطرة عليا إلى مجموعة سيطرة عليا أخرى”.
من جهة أخرى، فقد سلطت عدة وسائل إعلام الضوء على ماضي بوشنل “الفوضوي” وميوله، في وقت تجاهلت فيه القضايا التي كانت السبب في احتجاجه السياسي، وهي دعم الولايات المتحدة للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
على سبيل المثال، أوردت قناة MSNBC مقطعاً فيديو قصير يغطي احتجاج بوشنل، مع العلم الإسرائيلي في الخلفية، حيث يشير التقرير إلى أنه كان يحتج على “الحرب بين إسرائيل وحماس” وانتهى بمعلومات حول كيفية الاتصال بشريان الحياة للانتحار والأزمة!
ولا يمثل إدراج هذه المعلومات دون وجود سياق مناسب إلا محاولة متعمدة لإضفاء الصبغة المرضية على بوشنل مع التجاهل الصريح للطرق التي يكون بها الانتحار عن طريق التضحية بالنفس عملاً سياسيًا متميزًا ومتعمدًا ومتجذرًا في تحدي الظلم الجماعي، لا سيما في حالات الحرب غير المتكافئة.
المتظاهر لا يريد أن “يشهد” الجمهور فحسب، بل يريد أن يتخذ إجراءات جماعية، فالأمر يتعلق بتنفيذ عمل متطرف إلى حد يجعل الرد المنطقي الوحيد من قبل شخص يتمتع ببوصلة أخلاقية هو حمل شعلة العدالة التي أشعلها المتظاهر
أحد أكثر الأمثلة شراً كان ما ورد في مقال نشرته صحيفة جيروزاليم بوست مؤخراً، من أن التضامن مع احتجاج بوشنل الفردي “يضع الولايات المتحدة في موقف صعب”، معتبرة أن تضحية بوشنل الطوعية “هي خطوة أخرى نحو المزيد من العنف السياسي”، وهو المعنى الذي شاركته صحيفة الغارديان كذلك.
في كلتا الحالتين، فإن تسليط الضوء على التضحية بالنفس كشكل من أشكال العنف السياسي يصرف الانتباه عن المستويات الكارثية لعنف الدولة التي كان عمل بوشنل الاحتجاجي يحاول لفت الانتباه إليها!
في مقالته التي تحمل عنوان “عندما تكون الكلفة ذات فائدة: المعاناة كاحتجاج سياسي”، يلخص عالم الاجتماع مايكل بيجز العملية التي يتم من خلالها تشويه دوافع المحتجين وحتى الفعل نفسه للطعن في مصداقيتها.
يقول بيجز: “حتى عندما يموت شخص ما لسبب لا جدال فيه، كما هو الحال مع التضحية بالنفس، يمكن استبعاد ذلك من خلال رفض منح الوكالة، باعتبار المتظاهر مختلًا عقليًا، أو تم خداعه من قبل منظمة ما”.
وهكذا، فإن وسائل الإعلام لا تفترض أن تصرف بوشنل كان من الممكن أن يكون قرارًا احتجاجيًا عقلانيًا ومدروسًا فحسب، بل تحجب الحقيقة بهدف زيادة التجهيل وترسيخه في الجسم السياسي الأمريكي لتجنب التعامل مع مسائل خطيرة تتعلق بالظلم.
دعوة عاجلة
لقد فتح إحراق بوشنل لنفسه الباب على تاريخ طويل من التضحية بالنفس كتكتيك احتجاجي يستحق إعادة النظر، ففي الصورة الشهيرة لـ “الراهب المحترق”، أو ثيش كوانغ دوك، وهو راهب بوذي فيتنامي تم تصويره بينما اجتاحت النيران جسده بالكامل في عام 1963، كان يتحدى اضطهاد البوذيين بعد فرض الكاثوليكية من قبل النظام في فيتنام الجنوبية.
تلا ذلك حالات أخرى من التضحية بالنفس، بما في ذلك في الهند في عام 1964 على يد عامل من التاميل وذلك بسبب فرض اللغة الهندية، وفي كوريا الجنوبية في عام 1965 على يد فرد كان يحتج على معاهدة ما بعد الحرب التي أبرمتها بلاده مع اليابان، وفي عام 1965، قام الامريكييان، أليس هيرز ونورمان موريسون، بإشعال النار في نفسيهما احتجاجًا على حرب فيتنام.
“يحب الكثير منا أن يسألوا أنفسهم: ماذا كنت سأفعل لو كنت على قيد الحياة أثناء فترة العبودية؟ أو فترة العنصري؟ ماذا كنت سأفعل لو كان بلدي يرتكب إبادة جماعية؟ الجواب هو أنك تفعل ذلك الآن” – آرون بوشنل- آخر منشور على فيسبوك
وفقًا لبيجز، بحلول نهاية عام 1965 كانت التضحية بالنفس “قد دخلت إلى ذخيرة الاحتجاج العالمية”، وربما كانت أشهر حوادث القرن الـ 21 حادثة محمد البوعزيزي، بائع الفاكهة التونسي المكافح الذي أحرق نفسه عام 2011، فكان شرارة الربيع العربي، وكان هذا العمل الاحتجاجي الذي قام به البوعزيزي بمثابة دعوة للعرب للتحرك ضد طغيان حكوماتهم.
في حالة بوشنل، فإن الخلط بين مظالمه السياسية وبين الانتحار القائم على صراعات شخصية ينم عن نوايا خبيثة، ويشير بيجز إلى أن التضحية بالنفس تعد شكلاً من أشكال “المعاناة التواصلية التي تكشف الطرق المختلفة التي يمكن أن تصبح بها المعاناة مصدرًا للقوة”.
في هذا السياق، تهدف المعاناة إلى تعبئة وتحريك العمل الجماعي، على شكل رسالة مزعجة مفادها أن العدالة يجب أن تستمر بعد الوفاة، فيصبح الموت في هذا السياق وسيلة يمكن من خلالها تحريك الاحتجاج في الحياة السياسية.
وتعد التضحية بالنفس دعوة واستجابة في آن معاً، حيث يتم دعوة أولئك الذين يتلقون الرسالة التي ينقلها المتظاهر بدورهم إلى “الانخراط في نضال مشترك ضد القمع والإذلال والظلم”.
مع عمق هذا المعنى، إلا أن العديد من الكتاب الغربيين أضر على تسطيح المفهوم والفكرة، حيث يجادل مقال في صحيفة الغارديان بأن “أفعال التضحية بالنفس نادرة لكن لها نية واضحة، وهي استخدام عرض بشع للتضحية بالنفس لجذب انتباه الجمهور إلى قضية ما، وإجبارهم على الشهادة الأخلاقية”.
ليس هذا هو المكان الذي تنتهي عنده أهداف التضحية بالنفس، فالمتظاهر لا يريد أن “يشهد” الجمهور فحسب، بل يريد أن يتخذ إجراءات جماعية، فالأمر يتعلق بتنفيذ عمل متطرف إلى حد يجعل الرد المنطقي الوحيد من قبل شخص يتمتع ببوصلة أخلاقية هو حمل شعلة العدالة التي أشعلها المتظاهر.
في مقابل الحكم الذي فرضته مقالة الجارديان بأن بوشنل ” كان يمكن أن يكون أكثر فائدة للعالم لو كان على قيد الحياة”، هناك فهم آخر لفاعلية الفرد الذي يختار التضحية بالنفس كتكتيك احتجاجي، فهذا الشخص قرر أنه لا توجد طريقة أخرى، أو بعبارة أخرى، وقف هذا الشخص عند مساءلة أهمية حياته مقابل الموت لإحداث التغيير الاجتماعي.
في آخر منشور له على فيسبوك، كتب بوشنل: “يحب الكثير منا أن يسألوا أنفسهم: ماذا كنت سأفعل لو كنت على قيد الحياة أثناء فترة العبودية؟ أو فترة العنصري؟ ماذا كنت سأفعل لو كان بلدي يرتكب إبادة جماعية؟ الجواب هو أنك تفعل ذلك الآن”.
كتب راهب فيتنامي وناشط سلام إلى مارتن لوثر كينغ جونيور في عام 1965 يقول: “إن حرق النفس بالنار هو إثبات أن ما يقوله المرء له أهمية قصوى، ليس هناك ما هو أكثر إيلامًا من حرق النفس، فهو نوع من الألم يحمل معاني في منتهى الشجاعة والصراحة والعزم والإخلاص”.
يشير بيغز إلى أنه على الرغم من ندرة حالات التضحية بالنفس، إلا أن الأمر “يقدم درسًا نظريًا مهمًا وهو أن المعاناة يمكن أن تخدم قضية جماعية”، مما يستدعي منا أن نذهب إلى ما هو أبعد من النظرية ونلبي الدعوة إلى تحقيق العدالة، فلا يمكن أن تكون دعوة بوشنل أكثر وضوحاً أو إلحاحاً من ذلك.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)