بقلم حمزة صالحة
ترجمة وتحرير مريم الحمد
منذ 7 أكتوبر، أصبح صوت القنابل المرعب بمثابة إنذار صباحي غير مزعج في غزة، لكن في الأول من ديسمبر، كانت الغارات الجوية الإسرائيلية مختلفة عن أي شيء شهدناه من قبل.
استيقظنا مذعورين، نتبادل النظرات الخائفة ونتساءل عما يحدث، فقرر والدي نقلنا إلى منزل ثانٍ تابع لعائلتنا في وسط مخيم جباليا للاجئين، لقد اعتقدنا أنها ستكون أكثر أمانًا باعتبارها بعيدة عن المنطقة التي تتعرض للقصف.
استيقظت في المستشفى على صوت والدين فقد كان بجانبي يبكي ويصلي من أجلي، حيث تم نقلي إلى مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا التي كانت مثل المقبرة، وبسبب نقص الأسرة تم وضعي على الأرض محاطًا بالجثث من كل مكان!
ما إن وصلنا حتى أصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرًا للسكان بأنه سيتم قصف الحي بأكمله وكانت تلك لحظة مروعة، وبعد الكثير من المداولات، قرر والداي العودة إلى منزلنا الذي تم إخلاؤه، بينما لجأت أنا إلى منزل أختي الذي لم يكن بعيدًا عن مركز المخيم.
في صباح اليوم التالي، التقيت بصديقي المفضل محمد الداعور، كان جائعاً جداً فالطعام كان قد بدأ بالنفاذ بالفعل في المنطقة، فطلب مني أن نزور معاً صديقنا يحيى عبيد، فربما نعثر عنده على شيء نأكله، وبينما نحن ننتظر يحيى أمام منزله ،قفزنا خلف منزله لتجنب قصف كان قريباً.
أن تُدفن حياً
وفي جزء من الثانية، انهار الجدار فوقنا وتصاعد الغبار في الهواء، وقبل أن أتمكن من الرد، كنت قد دُفنت تحت الأنقاض، ولم يكن هناك سوى الظلام، فقد حدث كل شيء بسرعة كبيرة.
شعرت بالحطام يسحق ظهري، وكانت كل محاولة للتحرك تبدو وكأنها محاولة رفع جبل وكل لحظة تمر كانت تبدو وكأنها أبدية، أدركت وقتها أن مشاهد القصف التي رأيتها على شاشة التلفزيون أصبحت الآن واقعاً أعيشه، وغمرني شعور بالخوف من أن أكون أحد الضحايا الذين لا حصر لهم والمدفونين تحت الأنقاض!
أدركت أن محمد كان يجلس بالقرب مني، لكنني لم أتمكن من مناداته، ولم أسمع صوته، فقد أخذت الغارة روحه الجميلة في غمضة عين، أما أنا، فقد كنت مخدرًا حتى اخترقت قطعة من الضوء الظلام وأشعلت الأمل بروحي من جديد.
صرخت طلباً للمساعدة حتى وصل عمال الإنقاذ بعد لحظات وأخرجوني، فسألتهم عما حدث فأخبروني أن منزل يحيى قد تعرض للقصف، وفي تلك اللحظة بدأت أفكر في أقرب أصدقائي، الذي كان في طريقه لاستقبالنا، وفي الأشخاص الثمانين الذين لجأوا إلى منزله، لقد أصبح كل شيء فارغًا.
استيقظت في المستشفى على صوت والدين فقد كان بجانبي يبكي ويصلي من أجلي، حيث تم نقلي إلى مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا التي كانت مثل المقبرة، وبسبب نقص الأسرة تم وضعي على الأرض محاطًا بالجثث من كل مكان!
مع الألم الجسدي، كان في روحي ألم أعمق، بعد أن فقدت يحيى، صديقي المفضل منذ الطفولة فقد ترك ذلك فجوة كبيرة في حياتي، فقد كنا لا ننفصل، والآن كل ركن من أركان الحي يذكرني به
كان هناك أيضاً عشرات الجرحى الآخرين يصرخون من الألم، وما إن ألقيت نظرة خاطفة على ركبتي المكشوفة التي يظهر عظمها حتى أسرعت إحدى الممرضات لتنظيف الجرح وبدأت بإجراء عمليةلي دون تخدير أو حتى خيط كافٍ بسبب نقص المستلزمات، لقد كان الألم مبرحاً ولم أستطع تحمله وبقي جزء من الجرح مفتوحاً بعد أن نفد من الممرضة الخيط الذي كانت تستخدمه.
رغم إصابتي التي كانت تتطلب المزيد من الرعاية، إلا أن الحالة البائسة للمستشفى دفعت والدي إلى اصطحابي إلى المنزل، فحملني وإخوتي على أكتافهم، وعندما عدت إلى المنزل، بكيت بمرارة لمدة يومين، وظللت ملتصقاً بوالدي في خوف فلم أكن أصدق أني نجوت.
أصبحت عاجزاً وبحاجة للمساعدة، فأصبح إخوتي هم من يقدمون الرعاية لي، فأحدهم يساعدني في تلبية احتياجات الحمام، والآخر يقدم لي الأدوية، وبعد يومين، اتصلت بي زوجة أخي وهي تبكي وتقول إن المنزل الذي كانوا يحتمون به تعرض للقصف، فأسرع أخي الذي كان يعطيني الدواء للاطمئنان على زوجته وابنته!
جرح مفتوح
بعد فترة وجيزة، اجتاح الجيش الإسرائيلي منطقتنا وتمركز فيها، كنا خائفين حتى الموت فلم ينقطع إطلاق النار البتة، وكان سماع صرخات الرعب المستمرة للأطفال والنساء أمرًا مفجعًا.
في نهاية المطاف، نقلني والدي وإخوتي إلى غرفة أخرى، حيث نمنا جميعًا معًا، وفي كل مرة يقوم فيها الجيش باقتحام أو حرق منزل قريب، كنا نقول إن دورنا هو التالي، وكنت أظل أتساءل عما سأفعله إذا اقتحموا منزلنا أو أمرونا بالمغادرة، فأنا لا أستطيع التحرك فكيف سأذهب؟
أود أن أرى نهاية لهذه الحرب الدموية، فقد سئمت من كل هذا، هذه ليست غزة التي أعرفها، فنحن فقدنا كل شيء!
لم يمض وقت طويل قبل نفاد الماء الصالح للشرب لدينا، فبعد أن غادر أخي ليكون مع زوجته، لم أتمكن من تناول أدويتي لمدة 12 يومًا، وبدلاً من ذلك تناولت مسكنات الألم التي لم أتمكن من غسلها إلا بالمياه الملوثة!
لم يكن حولنا ما نأكله سوى الأرز والعدس، فمع محدودية الطعام، اختارت عائلتي الصيام معظم الأيام، وأفطرت على التمر والمياه الملوثة.
وبعد 12 يوماً مروعاً، غادر الجيش المنطقة، فاتصل والدي على الفور بالممرضة للاطمئنان على إصابتي، ولكن لسوء الحظ، كان جرحي قد تفاقم وأصبت بالعدوى بسبب نقص مواد التنظيف المناسبة.
عدت إلى المستشفى ليخبرني الأطباء أنه من المحتمل جدًا أن يكون وتر ساقي مقطوعًا، إلا أنه لم تكن هناك طريقة لتأكيد هذا التشخيص لأنه يتطلب إجراء تصوير بالرنين المغناطيسي، وهو الأمر الذي لم يعد متوفراً في مستشفيات شمال غزة، فقد دمر الجيش الإسرائيلي كافة أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي عندما اقتحم المستشفيات.
وبعد مرور 3 أشهر اليوم، لا يزال جرحي مفتوحًا، فأنا لا أستطيع المشي بشكل طبيعي أو الصلاة أو الصعود إلى الطابق العلوي، فأي لمسة تسبب ألماً مبرحاً، وعندما تلعب معي ابنة أخي الصغيرة رهف وتلمس جرحي بالخطأ أصرخ من الألم.
مع الألم الجسدي، كان في روحي ألم أعمق، بعد أن فقدت يحيى، صديقي المفضل منذ الطفولة فقد ترك ذلك فجوة كبيرة في حياتي، فقد كنا لا ننفصل، والآن كل ركن من أركان الحي يذكرني به.
لقد أصبح المشي في حد ذاته عملاً مرعباً، فكل مبنى أمر به هو هدف محتمل للغارات الإسرائيلية، وأنا مجبر على تخيل طرق الهروب وغيرها من وسائل البقاء.
لقد فقدت الكثير ولا يزال أفراد عائلة يحيى تحت الأنقاض، ورائحة الموت والقصف المنبعثة من منزله غامرة، ولكني لا أجرؤ على السير في ذلك الشارع.
حلمي الأكبر الآن ببساطة هو تلقي العلاج لجروحي الجسدية، وفي محاولة يائسة للحصول على الرعاية الطبية، أطلقت حملة تمويل جماعية لأتمكن من تلقي العلاج في الخارج واستئناف دراستين ولكن قبل كل شيء، أود أن أرى نهاية لهذه الحرب الدموية، فقد سئمت من كل هذا، هذه ليست غزة التي أعرفها، فنحن فقدنا كل شيء!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)