بقلم أميل ألكالاي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
كتب أحد الأصدقاء في غزة مؤخراً يقول: “الأهداف غير المعلنة للحرب هي قتل أكبر عدد ممكن من الناس، وتدمير أكبر عدد ممكن من المنازل والمباني، وتقليص مساحة القطاع وتقسيمه، والسيطرة على موارد الغاز، ومنع إنشاء دولة فلسطينية، أما موضوع حماس والرهائن فهي قضايا هامشية”.
إن تحديد هذه “الأهداف غير المعلنة” يزداد دقة في كل دقيقة في ظل استمرار مسرحية الثرثرة الرسمية، على الرغم من القرار الأخير للأمم المتحدة الذي يطالب بوقف إطلاق النار في غزة.
لقد تواصلت الثرثرات بعد “إعلان البوظة” الذي أدلى به الرئيس الأمريكي جو بايدن وعقب غمغمته بشأن ضمان “وقف إطلاق النار” في غزة بحلول شهر رمضان، وبعد قوله أن “مستشاريَّ للأمن القومي يقول لي إننا قريبون وآمل أن نتمكن بحلول يوم الاثنين المقبل من تحقيق ذلك”، وبعد قوله: “سوف يكون هناك وقف لإطلاق النار”، لقد ثارت الكثير من الضجة يوم الإثنين لكن الهمهمة استمرت.
وتواصل كذلك سيل العبارات المبتذلة، فقد تحدث الناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي بصوت مرتفع عن أن “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”، وأن “الولايات المتحدة تقوم أكثر من أي جهة أخرى بتوفير المساعدات الإنسانية”، وبطبيعة الحال، “بدأ كل شيء يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر”.
وإن كان هناك ما هو أكثر عجرفة من جهود ماثيو ميلر المتحدث باسم وزارة الخارجية اللافتة للنظر فهو أداء وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي يذرف الدموع ويتصرف بطريقة منهجية في التعبير عن القلق في “إدراكه الأخلاقي” أمام الجميع.
وكأن كل هذا لم يكن مثيراً للاشمئزاز بما فيه الكفاية حتى تطل علينا نائبة الرئيس كامالا هاريس، صاحبة الإشارة إلى الفضيلة، وهي تكافح لتجميع بعض الجمل المتماسكة بعدما أيقظها منبه حملة انتخابات 2024 على ما يبدو من سباتها العميق.
لقد رفعت هيئة الصحافة المطيعة صوتها عالياً لكن أحداً لم يطرح أسئلة محددة، مثل “لماذا يمنع الإسرائيليون المساعدات ويطلقون النار على من يحاولون الوصول إلى كيس من الطحين؟ أو لماذا لا تطلب الولايات المتحدة من حليفها فتح المعابر البرية؟”، إنهم يتراجعون مطيعين، ولذلك سيتم استدعاؤهم مرةً أخرى في الجزء التالي من التمثيلية.
“تباين مذهل”
ومع تواصل العرض اعتلى آخرون المسرح، فخلال الشهر الماضي، أضرم الجندي في سلاح الجو الأمريكي، آرون بوشنل، النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة، وهو يهتف “فلسطين حرة”، وقد توفي في وقت لاحق من ذلك المساء.
كما عمد قدامى المحاربين الآخرين إلى إحراق زيهم العسكري إعلاناً عن احتجاجهم على الدور الأمريكي في غزة، فيما يواصل المتظاهرون قطع الطريق على الساسة والمتحدثين الرسميين.
يقف الناس في جميع أنحاء العالم اليوم بوعي وغضب وهمة، فهذه فنانة أيرلندية ترسم في دبلن لوحات جدارية عن غزة لتجد نفسها على اتصال مع أم طفل قتل على يد الإسرائيليين، وها هم الملايين يتظاهرون أسبوعياً في اليمن.
أما جوزفين غيلبو وهي محاربة قديمة في الجيش الأمريكي متقاعدة منذ 17 عاماً، فقد قالت وهي تحمل لافتة “وقف إطلاق النار الآن” في واشنطن العاصمة معلقة على الفيديو الذي بثته مسيرة إسرائيلية: “لدينا تكنولوجيا يمكننا من خلالها رؤية من هم في هذه المواقع بالضبط، ويمكننا رؤية استهداف وقصف المنازل مع معرفة من الذين كانوا بداخلها وعدد الأطفال بينهم”.
وأردفت تقول: “هذا ليس دفاعاً عن النفس، الخسائر في صفوف المدنيين كارثية، والنخبة التي تجلس في الكابيتول هيل تكذب مراراً وتكراراً، وإحدى أكبر المنبهات التي تعرضت لها هي مدى فساد حكومتنا وحقيقة أن أي شخص في الجيش هو مجرد فرد واحد وقطعة شطرنج يستخدمونها في أوقات فراغهم لتحقيق مكاسب داخلية خاصة بهم لحماية أصولهم الداخلية وأموالهم”.
ومع تصنيع الأسلحة الأميركية في كل منطقة تابعة للكونغرس في البلاد تقريباً، فإن الباب الدوار بين جماعات الضغط والمسؤولين الحكوميين يستمر في الدوران، وتستمر “ميزانية الدفاع” المتضخمة في النمو.
ولمعرفة سبب افتتاح هذه المسرحية الدموية يتعين علينا أن ننظر إلى الوراء، حتى إعلان بلفور عام 1917، إن النص المكون من 67 كلمة هو مخطط لحالة الاستثناء السياسي والقانوني التي لا يزال الفلسطينيون يجدون أنفسهم فيها، والتي لا تزال القوى الإمبريالية والمؤتمرات الدولية والأنظمة العربية العميلة ومختلف اللاعبين الآخرين على المسرح يجدون أنفسهم يرقصون حولها أو يؤدون لها الألحان.
لقد كتب الاقتصادي اللبناني جورج قرم يصف وعد بلفور بأنه “نص يتميز بعنصريته الباطنية التي أدرجت فيها الدراما الفلسطينية بأكملها، لا توجد كلمة واحدة عن الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، الذي يرفضون ذكر اسمه، تماماً كما يتم القضاء على أي إمكانية لوجود الفلسطينيين الجماعي من خلال حرمانهم من جميع الحقوق السياسية”.
لقد أشار قرم إلى “عدم التماثل المذهل” في الوعد، ووصفه بأنه: “نص مستقبلي، الإعلان محفور في الذاكرة العربية كتمثال للانحراف”.
حركة ساخرة بشكل استثنائي
لقد تم عرض جميع القضايا الرئيسية التي حشدها هذا النص “المستقبلي” بالكامل وهي عدم التماثل، والحقوق السياسية، والديموغرافيا وكذلك رأس الرمح الإمبراطوري.
لقد اعتبروا إسرائيل “معقل الحضارة ضد البربرية”، كما قال ديفيد بن غوريون، أو كما أعلن السيناتور بايدن بقوة في العام 1986: “لقد حان الوقت لنتوقف عن الاعتذار عن دعمنا لإسرائيل، إنه أفضل استثمار بقيمة 3 مليارات دولار، لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تخترعها لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة”.
لا يبدو من المتناقض على الإطلاق أن يكون بايدن هو من يشرف الآن على الإبادة الجماعية الحالية، وحتى كتجربة فكرية، فمن المفيد التفكير في كيفية رد فعل المؤسسة الليبرالية على الوضع في غزة لو حدث ذلك في ظل رئاسة دونالد ترامب
ولا يمكن للمرء إلا أن يتخيل النقاد الإعلاميين والساسة وهوليوود والأوساط الأكاديمية وهم يتحدثون جميعاً في انسجام تام عن الغضب الأبيض ووصول الفاشية ونهاية الديمقراطية وما إلى ذلك.
أما فيما يتعلق بعدم التماثل، فقد بات الهواء الذي نتنفسه، والوقود الذي ينشط آلة الدعاية التي تنتج قرع طبول التنافر المعرفي بلا هوادة، لقد أصبح المجال الجوي الذي يتطلع إليه سكان غزة مذعورين من طائرات الاستطلاع الإسرائيلية والقصف الجوي المتواصل هو نفسه مصدراً للوجبات غير الحلال التي عفا عليها الزمن والتي تنزلها الولايات المتحدة بالمظلات والتي تقوم أيضاً بإرسال الأسلحة.
وفي خطوة ساخرة إلى حد غير عادي، تضيف الولايات المتحدة ميناءً جديداً إلى هذا الخليط باستخدام أنقاض المنازل والمؤسسات الفلسطينية المدمرة، وربما تجد أجزاء من المستشفيات أو الجامعات نفسها مغمورة ببقايا الجثث المتحللة التي لم يتم انتشالها من تحت الأنقاض بعد، ولا نعرف بعد ما إذا كانت هذه المنطقة ستصبح قاعدة عسكرية أو منفذ خروج للطرد الجماعي، ولكن، كما تقول العبارة الأمريكية، “لا يمكنك اختلاق هذه الأشياء”.
قانون الدمار الأكبر من أي وقت مضى
وفيما يتردد صدى كل هذه الشظايا الجيوسياسية والعقلية عبر ما تبقى من قدراتنا الذهنية جنباً إلى جنب مع القناصين الإسرائيليين والمدفعية التي تستهدف الفلسطينيين الباحثين عن الطعام فإن سكان العالم يتعرضون لأشياء لا معنى لها على الإطلاق.
إذ يزعم المتحدثون باسم الولايات المتحدة أنه لا يمكن أن يكون هناك مكان لحماس في العملية السياسية، في إشارة إلى الشعارات التي تم تجاوزها منذ فترة طويلة، في حين تدوس الولايات المتحدة على المعاهدات التي لا تزال تحمل توقيعها.
وطوال الوقت، ظلت إسرائيل تعمل بموجب قانون الدمار المتزايد كوسيلة لإخفاء الدمار السابق تحت السجادة وخلق الوهم بأن هناك “جانبين” وليس قوة واحدة مهيمنة عازمة على خنق جميع أشكال المقاومة والحكم الذاتي والاستقلال.
وبينما نرى صور الأطفال الذين يموتون جوعاً، من يتذكر الآن الأخبار الكاذبة عن صاروخ زائف منسوب لحركة الجهاد الإسلامي أدى إلى مقتل العشرات في المستشفى الأهلي العربي؟
وفيما تقتل المجاعة والمرض الذي خططت له إسرائيل المزيد والمزيد من الناس، فمن يتذكر التدمير الممنهج للجامعات والاغتيالات التي استهدفت الأكاديميين والصحفيين؟ إذا اضطر الفلسطينيون في غزة إلى عبور الحدود بشكل جماعي، فمن سيتذكر دير ياسين والنكبة؟
وعلى الرغم من قوتها الهائلة، فشلت إسرائيل في تحقيق الحد الأدنى من أهدافها المعلنة، فلم تقم بإعادة الرهائن وما زالت قوات حماس تقاوم، ووسط فوضى الإنزال الجوي و”مذبحة الطحين”، كافحت شرطة غزة لاستعادة السيطرة، ووزعت منشورات تمنع الناس من دخول مفترقات الموت
في 17 آذار/مارس، وصلت أكثر من اثنتي عشرة شاحنة مساعدات وهي أول قوافل غذائية تصل إلى شمال غزة دون وقوع حوادث منذ أربعة أشهر، وتناولتها طوابير منظمة من المبتهجين المتجمعين في مستودع الأونروا في جباليا.
لكن الهجوم الأخير على مستشفى الشفاء، والاغتيال الذي استهدف فائق المبحوح، مدير العمليات في شرطة غزة، في نفس اليوم، يخبرك بكل ما تحتاج إلى معرفته عن أهداف إسرائيل، كما ورد في مقالة رئيسية في موندويس، لقد تم اغتيال ضباط شرطة آخرين مع عائلاتهم، إلى جانب العشرات من عمال الإغاثة، وأي أمر لا تمليه أو تفرضه إسرائيل يجب طمسه.
قسوة غير مسبوقة
الاستنتاج الواضح هو أن أهداف إسرائيل المعلنة ليست أهدافها الحقيقية، كما كتب صديقي في غزة، بل إن الأهداف الحقيقية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها هي ما يجري الآن وتتمثل في جعل غزة غير صالحة للسكن وتدمير أكبر عدد ممكن من آثار الحياة الفلسطينية في الحاضر والماضي.
ولكن من أجل تحقيق ذلك، يتعين على آلة الاحتلال أن تقدم أشكالاً جديدة من التعاون، وهو الأمر الذي وضعت حماس حداً له، وبقوة في كثير من الأحيان، في غزة، وهذا هو السبب الجذري للقسوة غير المسبوقة التي تنتهجها إسرائيل بينما تواصل هجومها على الفلسطينيين.
وتفعل إسرائيل ذلك بشكل أكثر فاعلية من خلال أكبر أكاذيبها التي تمر من تفعيل عدم التماثل في كل هجوم، سواء كان حملة قصف أو هدم منزل أو الاستيلاء على الأراضي أو عملية اقتحام مما يجعل كل عمل من أعمال المقاومة جريمة محتملة يعاقب عليها بالإعدام.
إن إسرائيل قوة نووية لم توقع مطلقاً على معاهدة حظر الانتشار النووي ولم تسمح بتفتيش منشآتها في ديمونة وتجد تحت تصرفها الأسلحة والتكنولوجيا الأكثر تطوراً في العالم مع قوة جوية وبحرية وما مجموعه قرابة 635000 جندي، ومع كل ذلك فهي تواصل الترويج للمسرحية القائلة بأن تحالفاً مكوناً من 30 ألف مقاتل من دون دبابات، ولا مدفعية مضادة للطائرات، ولا قوة جوية ولا بحرية، على وشك تدمير “الدولة اليهودية”.
يجري كل ذلك في الوقت الذي يتم فيه تجريم ومحو أي شكل من أشكال المقاومة المدنية لحالة الحصار الذي امتد لعقود من الزمن.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)