بقلم مها الحسيني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تخطو إيمان السقا ذات العام الواحد من العمر خطواتها الأولى حافية القدمين في ساحة تحيط بشاليه متواضع في دير البلح التي لجأ لها والداها للنجاة من قصف الاحتلال.
لقد وصلت إلى المكان في حضن والدتها التي حصنتها ببطانية تلفها في 13 تشرين الأول/ أكتوبر، لكنها الآن وبعد ستة أشهر من النزوح، أصبحت تتجول بشكل مستقل وبدأت في نطق كلماتها الأولى.
ومع نحو 50 شخصاً آخر، أصبح هذا المأوى المؤقت موطناً لإيمان ووالديها الذين تحولت شقتهم في مدينة غزة إلى أنقاض بسبب غارة جوية إسرائيلية في 11 تشرين الأول/أكتوبر.
وقالت سهيلة السقا والدة الطفلة: “إيمان هي طفلتي الأولى، وكنا قبل أشهر قليلة من ولادتها قد انتقلنا إلى شقتنا الجديدة حيث صممنا لها غرفة نوم وردية اللون”.
تستطرد الأم في وصف حال أسرتها الصغيرة قبل الحرب قائلةً: “كانت لدينا خطط لإقامة حفل كبير في عيد ميلادها الأول، ولم نتوقع أبداً أننا لن نتمكن من توفير خبز كعكة حتى”.
وأردفت الأم: “كنا نخطط لها ذات مرة لحياة فاخرة، وإذا بنا نُجبر على تدريبها على استخدام المرحاض في سن مبكرة جداً لأننا لا نستطيع العثور على حفاظات لها دائماً، وحين نجدها تكون باهظة الثمن”.
يوم السابع من أكتوبر، اقتحم المقاتلون الفلسطينيون جنوب إسرائيل في هجوم مفاجئ أدى إلى مقتل 1191 إسرائيلياً وأسر 240 آخرين، فردت إسرائيل بشن حرب وحشية على قطاع غزة، نفذت خلالها اعتداءات جوية ومدفعية وبحرية مدمرة على القطاع الساحلي المكتظ بالسكان، أعقبها غزو بري مازال مستمراً منذ عدة أشهر.
تمثل الهدف المعلن لجيش الاحتلال في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين وتدمير حماس واستهداف أعضائها ومقاتليها، لكن أكثر من 33 ألف فلسطيني 70% منهم من الأطفال والنساء استشهدوا، وفقاً لمسؤولي الصحة في غزة والمنظمات الدولية.
كنا أسفر القصف المتواصل إلى تدمير حوالي 70% من الوحدات السكنية وخسارة 90% من وظائف القطاع الخاص في قطاع غزة على مدار ستة أشهر.
وفي قصة أخرى يسردها لحن الوجع الحزين من غزة، تتابع زينة الريس بفضول أخبار امتحانات التوجيهي المقبلة لأقرانها في الضفة الغربية المحتلة من قلب ملجأها في رفح جنوب القطاع.
قبل الحرب، كانت زينة تستعد لعام فاصل في مسيرة حياتها، واضعةً نصب عينيها هدف التفوق في امتحان الثانوية العامة في فلسطين، لكنها باتت مع دخول الحرب شهرها السابع تشعر بالأسى لتعليق حياتها الأكاديمية والاجتماعية إلى أجل غير مسمى.
وقالت الريس البالغة من العمر 17 عاماً: “لم أخسر ستة أشهر من حياتي فقط، بل سنة كاملة، فطلاب التوجيهي في الضفة الغربية بدأوا بالفعل الاستعداد لامتحاناتهم خلال الشهرين القادمين، بينما كل ما أفعله هنا هو التنقل من ملجأ إلى آخر”.
“لقد توقفت الحياة، الشيء الوحيد المستمر هنا هو الموت”- زينة الريس، طالبة توجيهي من غزة
شرحت الفتاة بأسىً بالغ كيف تبخرت أحلامها قائلةً: “عندما بدأ العام الدراسي، تركت حياتي الاجتماعية وكل شيء آخر جانباً، وعقدت العزم على التركيز فقط على دراستي للحصول على درجة عالية تضمن لي الحصول على منحة دراسية في إحدى جامعات العالم المرموقة في الخارج، لكن حياتي كلها وُضعت اليوم جانباً”.
وحتى لو انتهت الحرب قريباً، فإن الريس ونحو 620 ألف طالب مسجلين في مدارس غزة لن يتمكنوا من العودة إلى مقاعد الدراسة على الفور، فقد تعرضت ما لا يقل عن 351 مدرسة للتدمير الكامل أو الجزئي خلال القصف الإسرائيلي على القطاع أثناء الأشهر الستة الماضية من بينها، 65 مدرسة تديرها الأونروا و286 مدرسة حكومية، وفقاً لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية في غزة.
أما المدارس التي نجت من القصف فهي تستخدم كملاجئ لمئات الآلاف من النازحين الذين دمرت منازلهم بالكامل أو تضررت بسبب الهجمات.
وقالت الريس، التي أخلت منزلها في مدينة غزة في الأسبوع الأول من الحرب، ونزحت عدة مرات منذ ذلك الحين: “أنا أبكي، ووالداي يرغبان في فعل أي شيء لمساعدتي لمواصلة تعليمي، لكنهما عاجزين عن ذلك”.
وتابعت: “في الوقت الضيق الذي أتمكن فيه من الاتصال بالإنترنت، أصبحت هوايتي تصفح مجموعات طلاب التوجيهي خارج غزة على الفيسبوك، ومتابعتهم وهم يناقشون الدروس ويطرحون الأسئلة حول الفصول الدراسية والتاريخ المتوقع للامتحانات”.
وأردفت: “لا يمكننا التخطيط ليومنا التالي، كيف يمكنني التخطيط لمستقبلي، أو المكان الذي سأدرس فيه، أو ما أريد أن أتخصص فيه؟ لست متأكدةً حتى من أنني سأبقى على قيد الحياة كي اتجاوز مرحلة التوجيهي “.
وحتى يوم الخميس، استشهد أكثر من 5994 طالباً فلسطينياً و266 معلماً وإدارياً في غزة.
وفي ظل الشعور الدائم بانعدام الأمن ومع هيمنة أصوات القصف المتواصل لمدة ستة أشهر متتالية، يجد سكان غزة أنفسهم “يقاتلون في حرب أخرى” في منازلهم وملاجئهم.
ومع انقطاع الإمدادات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والوقود وغاز الطهي منذ اليوم الأول للحرب، أصبح كل جانب من جوانب الحياة اليومية للسكان بمثابة صراع.
في هذه الحرب، انتقل سامر الآغا وهو من سكان خانيونس جنوب القطاع للإقامة حالياً في خيمة في رفح مع زوجته وأمه وأطفاله الثلاثة.
يقول الآغا: “خلال الأشهر الأربعة الأولى من الحرب، لم يكن هناك غاز للطهي على الإطلاق، وكان الجميع في غزة يستخدمون الحطب أو الفحم للطهي وتسخين المياه للاستحمام”.
وتابع: “لكن في الشهرين الأخيرين، سُمح بدخول غاز الطهي بكميات محدودة للغاية، لقد تمكنا أخيراً من شراء أسطوانة غاز بسعر خمسة أو ستة أضعاف سعرها الأصلي تقريباً، ولا بأس بذلك لأنه حتى الحطب أصبح باهظ الثمن”.
ونظراً لعدم توفر المياه الجارية لدى أي أسرة في جميع أنحاء قطاع غزة، يعتمد السكان على مركبات توزيع المياه لإعادة ملء صهاريجهم لأغراض الشرب والغسيل والاستحمام.
وقال الآغا: “منذ اليوم الأول الذي أعلنت فيه إسرائيل قطع إمدادات المياه عنا، كنا نعلم أننا سنتوقف عن الحصول على المياه من الصنبور، لكننا لم نعتقد أبداً أن هذا سيستمر لمدة ستة أشهر، منذ نصف عام، ونحن نقوم بتسخين المياه على النار واستخدام علب المواد الغذائية الفارغة كأوعية لصب الماء للاستحمام”.
وأضاف: “يتعين علينا غسل ملابسنا يدوياً، ولا يمكننا استخدام الغسالات لأننا لا نملك الكهرباء ولا الماء، قد تبدو هذه الأمور هامشية، ولكنها ليست كذلك، هذه هي حياتنا اليومية منذ نصف عام”.
وختم بالقول: “الاحتلال جعلنا نعيش حياة بدائية لم يعشها حتى أجدادنا، ولم يحدث ذلك تدريجياً، بل وجدنا أنفسنا فجأة نعيشها يوماً ما”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)