بقلم كاثرين هيرست
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في كانون الثاني/يناير توجه خالد دواس وهو جراح المريء ومعدة بريطاني في مهمة طبية إلى مستشفى الأقصى لمساعدة الفلسطينيين في قطاع غزة، وعاد في زيارة ثانية إلى هناك بعد ثلاثة أشهر.
ورغم أن الفارق بين الرحلتين لم يتجاوز البضعة شهور فقط، إلا أن الاختلاف الذي ظهر حالته بين الزيارتين كان لافتاً جداً إلى الحد الذي أصاب زملاءه بالذهول، فقد خسر خلال وجوده في غزة من وزنه الكثير.
يروي دواس كيف تعامل مع زملائه في غزة عند لقائه بهم في زيارته الثانية قائلاً: “أول ما قلته لهم هو السؤال: ماذا حدث لكم؟”، ثم يكمل روايته التي تتخذ طابع الشهادة الحية على سوء الحال هناك بالقول: “لقد بدوا وكأنهم أخيلة عن شخوصهم السابقة، لقد فقدوا جميعاً الوزن، وأنا أتحدث عن ما بين خمسة و20 كيلوغراماً فقدها كل واحد منهم”.
وأضاف: “إنهم يعملون مثل الروبوتات، حاولنا أن نخبرهم أننا حضرنا لمنحهم فترة راحة، لكن جلوسهم في المنازل كان أسوأ من ظروف عملهم، لأنهم لا يتوقفون عن التفكير في أن بقاءهم في المنازل لا يعني إلا انتظار ما سيحدث لهم”.
أما التغيير الأساسي الثاني الذي شهده الطبيب البريطاني فكان مستوى الكثافة السكانية الهائلة، حيث أصبح الطريق المؤدي إلى المستشفى مكتظاً الآن بالخيام بعد أن كان شارعاً ريفياً، وذلك بسبب تزايد نزوح الفلسطينيين جراء قصف الاحتلال المتواصل لقطاع غزة.
كان المستشفى أيضاً مكتظاً بالناس الذين يشغلون كل مساحة متاحة من أرضه، لكن ذلك لم يكن مختلفاً عن ما رأه دواس في زيارته السابقة.
وأردف دواس: “في الواقع لم تعد هناك مساحة متبقية ولم يكن هناك أي مساحة في زيارة كانون ثاني/يناير أيضاً، الناس في كل ردهة العائلات كانت تفترش الأرض بين الأسرة.”
عمليات متزامنة
تركز جهد دواس في معالجة الجراح الناجمة عن الشظايا والرصاص في البطن والصدر، وكان يتعامل مع حوالي أربع إلى خمس حالات يومياً، وقال أن الجرحى: “يعانون من إصابات معقدة للغاية والعديد منهم لديهم إصابات متعددة في الأعضاء، وكسور مزمنة وبتر أطراف، وإصابات في البطن وأخرى في الصدر”.
وعندما تعرض مخيم النصيرات للاجئين لقصف شديد من قبل جيش الاحتلال في الفترة ما بين 11 و13 نيسان/أبريل، امتلأ المستشفى بالجرحى ومعظمهم من الأطفال، وكان دواس يجري عمليات جراحية لـ 20 إلى 30 مصاباً يومياً وبعضهم في وقت واحد.
وأوضح دواس: “اضطررت إلى إجراء عملية جراحية لفتاة تبلغ من العمر 11 عاماً مرتين لأننا لم نتمكن من العثور على موقع النزيف، وكان شقيقها الصبي تحت العملية في ذات الوقت، وبين عمليتي الشقيقين هرعت لإجراء عملية جراحية لصبي كان ينزف بغزارة من مستقيمه بعد أن اخترقت شظية أردافه وحوضه”.
عاد دواس لإكمال العملية الجراحية للفتاة، لكنها توفيت بعد 36 ساعة لأنها فقدت الكثير من الدم.
“هنا في المملكة المتحدة أتوقع بقاء ما يقرب من 100% من المعالجين على قيد الحياة، أما هناك في غزة فأعتقد أن النسبة أقل من 60%” – خالد دواس، جراح بريطاني
وبالإضافة إلى جروح الشظايا، وجد دواس نفسه يعالج مرضى السرطان في مراحله المتقدمة.
وقال: “لقد تعاملت مع رجل يبلغ من العمر 45 عاماً لكنه توفي بعد أيام قليلة من وصولي، كما رأيت شابًا في الثلاثينات من عمره مصاباً بسرطان الكبد، وهو أمر نادر جداً”.
وتابع دواس يقول: “كان هناك آخرون مصابون بسرطان البنكرياس، وأحدهم بسرطان القولون الذي تفشى في كامل جسده ففات الأوان لفعل أي شيء”.
وأردف: “ربما كنت قد رأيت مريضاً بالسرطان في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، ولكن لا شيء يشبه أولئك الذين كنا نراهم”.
“كان علي أن أتنازل”
كان دواس يعلم أن عليه أن يتعامل مع الحد الأدنى من المعدات الطبية المتوفرة، ولكن خلال زيارته الثانية، كان هناك المزيد من هذه الأدوات، لكنها أغلبها كان عبارة عن أجهزة “ذات استخدام واحد” اضطر إلى استخدامها “عشرات المرات”.
وفي رحلته السابقة، تعلم دواس كيف يكون واسع الحيلة من خلال مراقبة زملائه الذين تكيفوا مع استخدام الأدوات المتفرقة التي كانت في متناول أيديهم.
وصف دواس هذا الحال بقوله: “عندما كنا نجري عملية كنت أسأل زملائي بمن فيهم الممرضات وأطباء التخدير: ماذا لديك؟ ماذا ستفعل في هذا الظرف؟”.
وفي مرحلة ما، اضطر دواس إلى إجراء عملية جراحية لرجل يعاني من إصابة في القولون، الأمر الذي كان يتطلب استخدام كيس فغر القولون (كيس يستخدم لتفريغ الأمعاء) ويحتاج إلى تغيير منتظم، لكن أحد زملائه أقنعه بتغيير العملية لعدم كفاية أكياس فغر القولون في غزة.
وتابع: “اضطررت إلى تغيير الأسلوب وأنا متأكد من أن هذا الرجل خضع لعملية جراحية أسوأ، لكن كان علي أن أقدم تنازلات”.
يكمن الجانب الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لدواس في حقيقة عدم توفر الرعاية اللاحقة للعمليات الجراحية، حيث قال: “هناك عدد كبير جداً من المرضى الذين خضعوا لعمليات جراحية عندما كنت هناك، لكن واحداً فقط كان لديه سرير في العناية المركزة، وكان طفلاً”.
كل شيء مصاب
ومن بين التغيرات العديدة التي لاحظها دواس التدهور الملحوظ في مستوى النظافة، حيث انتشرت رائحة مياه الصرف الصحي في المستشفى.
فخلال زيارته الأولى، أصاب صاروخ مبنىً مجاوراً للمستشفى مخلفاً حفرة في الأرض أدت إلى تدفق مياه الصرف الصحي إلى الشارع، وعندما عاد كانت مياه الصرف الصحي قد شكلت بحيرة.
لقد اختلطت الرائحة الكريهة مع رائحة العدوى حيث يقول دواس واصفاً ذلك الحال: “كل شيء في غزة كان ملوثاً، الجميع أصيب بالعدوى ورائحة الصديد كانت في كل مكان”. كما شهد دواس حالات لأطفال يعانون من ظهور صديد في الرئتين نتيجة التهابات في الصدر.
وقال: “هذه حالات نادرة للغاية، عليك أن تتساءل عما إذا كان مرض السل يطل برأسه، لكن لا توجد طريقة للاختبار لأنهم لا يملكون المختبرات اللازمة للقيام بذلك.”
ووفقاً لدواس، فإن ارتفاع معدلات الإصابة، إلى جانب غياب الرعاية الممتدة بعد الجراحة وانتشار سوء التغذية على نطاق واسع، يعني وفاة الكثيرين بعد الجراحة.
ووفقاً لتقرير صادر عن كلية لندن للصحة والطب الاستوائي ومركز جونز هوبكنز للصحة الإنسانية، فإن ما يقرب من 12 ألف شخص سوف يموتون بسبب المرض في غزة، حتى لو تم التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)