بقلم غريغوري شوباك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في مقالها الأخير، انتقدت المحررة في صحيفة واشنطن بوست، روث ماركوس، نص قرار محكمة العدل الدولية بأنه “من المعقول” أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، وأكدت في مقالتها أنه “بطريقة أو بأخرى، يبدو أن إسرائيل تلتزم دائماً بمعايير مختلفة وأعلى من الدول الأخرى”، معتبرة أن حكم محكمة العدل الدولية “هو أحدث مظهر لهذا المعيار المزدوج من كيان يجب أن نتوقع منه أفضل”.
الحقيقة أن قرار محكمة العدل الدولية ليس نابعاً من إلزام إسرائيل “بمعيار مختلف وأعلى عن غيرها”، فقد ذكرت صحيفة هآرتس أنه خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من الهجوم الإسرائيلي على غزة، كان 61% من القتلى الإسرائيليين من غير المقاتلين، كما أشار الكاتب، ياجيل ليفي، إلى أنه “في حروب القرن العشرين حتى التسعينيات، كان حوالي نصف القتلى من المدنيين”.
وبدورها، أشارت صحيفة النيويورك تايمز إلى أن “أنه حتى في ظل قراءة محافظة لأرقام الضحايا المبلغ عنها من غزة، لكن وتيرة موت لم يسبق لها مثيل تظهر واضحة في هذه الحرب”.
لقد ارتكبت إسرائيل فظائع غير مسبوقة في غزة ضد الأبرياء في العصر الحديث، لذا فهي تستحق كل انتقاد يتناسب مع جهود إيقافها ومحاسبتها.
في مقالها، استشهدت ماركوس بنيكاراجوا كمثال على تلك “المعايير المزدوجة”، حين قدمت نيكاراغوا طلباً إلى محكمة العدل الدولية لتأمر ألمانيا بوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل واستئناف تمويل وكالة الأونروا، بالنسبة لماركوس، فإنه لأمر “فاق الخيال” بأن “تسعى نيكاراجوا إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات ضد ألمانيا وإسرائيل، خاصة وأن الأمم المتحدة كانت قد اتهمت حكومة نيكاراجوا بانتهاك حقوق الإنسان لمواطنيها.
بغض النظر عن أي مناقشات حول السياسة الداخلية في نيكاراجوا، فإن موقف ماركوس سخيف في ظاهره، ففي الأربعينيات من القرن الماضي، كان لدى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا العديد من السياسات الداخلية والخارجية التي لا يمكن الدفاع عنها، لكن ذلك لم يبطل محاكمات نورمبرغ.
إضافة إلى ذلك، فإن الأمر الأكثر أهمية هو أن الأونروا ذكرت في شهر مارس أن عدد الأطفال الذين قتلوا في غزة خلال 5 أشهر من الهجمات الإسرائيلية هم 12300 طفل، وهذا يفوق عدد الأطفال الذين قتلوا في كل الحروب التي شهدها العالم في السنوات الأربع الماضية مجتمعة!
إذا كانت حكومة نيكاراجوا قد انخرطت في ممارسات غير ديمقراطية، لابد من الانتقاد، ولكن لم يتحدث حتى أشد معارضيها عن قيامها بإنشاء “مقبرة جماعية لآلاف الأطفال” كما فعلت إسرائيل بالفعل بعد أسابيع فقط من هجومها على غزة!
كان هذا المعنى الذي ورد أيضاً في مقال جوزيف إبستاين في مقال نشرته مجلة نيوزويك تعقيباً على أن نشطاء التضامن مع فلسطين في جامعة كولومبيا “يخصون إسرائيل باللوم”، وربط ذلك بطريقة غريبة ومريبة مفادها أن “المؤيدين للفلسطينيين” التزموا الصمت خلال حصار مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين عام 2015، مما أدى إلى موت الفلسطينيين في المخيم من الجوع.
أما الباحث في جامعة تافتس، أليكس دي وال، فقد كتب: “دقة وحجم وسرعة تدمير الأشياء التي لا غنى عنها للبقاء في غزة يفوق أي حالة مجاعة أخرى من صنع الإنسان في السنوات الـ 75 الماضية، كما أن أعداد الأشخاص الذين سوف يموتون في كارثة غزة ستفوق المجاعات الكبرى في القرن العشرين”.
الكيان السياسي الذي يرتكب حالياً أفظع الجرائم في العالم، لا يتم “استهدافه بشكل غير عادل” من قبل أولئك الذين يحشدون ضده ويقفون إلى جانب الأشخاص الذين يتعرضون للإبادة الجماعية!
يبدو أن المجاعة الأميركية الإسرائيلية في غزة سوف تصبح واحدة من أكثر المجاعات دموية على الإطلاق، ولذلك فإن محاولة إبستين المريضة لمقارنة مأساة بأخرى هي محاولة واضحة لتحويل الانتباه عن المجاعة الحالية، ولكنها محاولة باءت بالفشل.
رد فعل متناسب
ماركوس وإبستين ليسا الوحيدين اللذين يتاجران بهذه الترهات، فالفكرة العقيمة التي لا يمكن الدفاع عنها والتي تعتبر إسرائيل مظلومة في درجة وطريقة “استهدافها” هي فكرة متكررة في مجلة نيوزويك.
وفي صحيفة نيويورك تايمز، كتب نيكولاس كريستوف مقالاً ضعيفاً محاولاً الدفاع عن الفكرة أيضاً، فقال: “لا يمكنني التفكير في أي صراع في هذا القرن أدى إلى مقتل أطفال مثل ما حصل في غزة ولكن هناك معايير مزدوجة بالتأكيد في مقدار الاهتمام الذي تحظى به جرائم إسرائيل سواء على المستوى الدولي أو في الجامعات الأمريكية”.
من كان يتصور أن قتل الأطفال بمعدل لا مثيل له في القرن 21 هو موضوع يحتاج تدقيقاً فريداً أو يمكن أن يخرج من يعارضه معارضة شرسة؟!
ومع ذلك، فإن فكرة “استهداف” أنصار الفلسطينيين “إسرائيل ظلماً” هي فكرة قديمة استخدمتها إسرائيل ومؤيدوها قبل 7 أكتوبر، من أجل صرف الانتباه عن إنكار إسرائيل لحقوق الفلسطينيين، فقبل بدء الإبادة الجماعية المستمرة، كانت إسرائيل تمارس بالأصل أطول احتلال عسكري في العالم، وعلى حد تعبير الباحثة آن عرفان: “إن الفلسطينيين هم أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم، مع أطول حالة نزوح طويلة الأمد”.
يعيش الفلسطينيون هذه الحالة بسبب إسرائيل، فهي ترفض السماح لهم بالعودة إلى ديارهم رغم قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي يمنحهم هذا الحق، ولهذا، يجب التوقف عند ممارسات إسرائيل قبل 7 أكتوبر بكثير، لأن الكيان السياسي الذي يرتكب حالياً أفظع الجرائم في العالم، لا يتم “استهدافه بشكل غير عادل” من قبل أولئك الذين يحشدون ضده ويقفون إلى جانب الأشخاص الذين يتعرضون للإبادة الجماعية!
إسرائيل تقتل المدنيين، ولا سيما الأطفال، وتمارس التجويع القسري بحق سكان تحتجزهم اصلاً منذ فترة زمنية طويلة، فمن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى الغضب، التي تحول إلى قاعدة عريضة اليوم في المحاكم والشوارع والجامعات، في رد فعل يعد متناسباً تماماً وحقيقياً مع حجم الجريمة، بل هناك أمل بأن تكون هذه مجرد مراحل مبكرة لرد فعل أقوى.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)