بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
وكأنها روح إدوارد سعيد تطوف بين الجامعات الأمريكية من كولومبيا إلى غيرها في هذه اللحظة التاريخية التي تبدو وكأن كل القوى الصهيونية القديمة منها والحديثة وقفت في تحالف لطرد شبح إدوارد سعيد، من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب والحكومات الأوروبية إلى كتاب الأعمدة في صحيفة نيويورك تايمز ومقدمي برامج فوكس نيوز!
لم ينجُ أحد ممن شارك في هذه الانتفاضة العالمية المناهضة للصهيونية من اتهامه بأنه “معادٍ للسامية”!
بات لزاماً على مؤرخي الأفكار والحركات الاجتماعية البدء قريباً في جمع أجزاء هذا التاريخ وتوثيقه، وربط ذلك بالمفكر الفلسطيني الرائد، الذي سوف يظل شخصية بارزة في جامعة كولومبيا، إدوارد سعيد كجزء مهم من خلفية هذا التاريخ
لأكثر من نصف قرن، كان الخطاب السياسي في الولايات المتحدة خاضعاً لسيطرة للسياق المؤيد لإسرائيل بامتياز، ولذلك فليس من قبيل الصدفة أن تعمل جامعة ارتبطت باسم سعيد، الذي درّس في جامعة كولومبيا طوال حياته الأكاديمية، الآن على تغيير تلك الهيمنة، فقد أثمر الفكر أخيراً ووجدت الصهيونية، الأيديولوجية الفوقية اليهودية، نفسها لأول مرة في موقف دفاعي.
لقد تردد صدى هتاف “فلسطين حرة!” من حرم جامعة كولومبيا إلى جميع أنحاء العالم، ورغم أن سعيد ليس على قيد الحياة ليسمع ذلك الآن، ولكنه في روح قناعته كان يؤمن بأن ذلك كان قادماً يوماً ما وقد كان.
سوف نتذكر عام 2023 باعتباره نقطة تحول في تاريخنا، حيث تم أخيراً محاكمة الصهيونية في ساحات الجامعات الأمريكية، ليؤكد على أن إرث سعيد والتزامه مدى الحياة بالقضية الفلسطينية واضح في كل ملامح هذه الانتفاضة الطلابية.
تاريخ حاسم
بعد الانتفاضة الطلابية، بات لزاماً على مؤرخي الأفكار والحركات الاجتماعية البدء قريباً في جمع أجزاء هذا التاريخ وتوثيقه، وربط ذلك بالمفكر الفلسطيني الرائد، الذي سوف يظل شخصية بارزة في جامعة كولومبيا، إدوارد سعيد كجزء مهم من خلفية هذا التاريخ.
سوف يكون لدى هؤلاء المؤرخين العديد من التواريخ المهمة التي يجب عليهم تذكرها جيداً عند التوثيق، منها أنه في صيف عام 2002، عندما وجه حوالي 6 من أعضاء هيئة التدريس في جامعة كولومبيا نداء إلى الجامعة لسحب استثماراتها من الشركات التي تبيع المعدات العسكرية لإسرائيل.
في ذلك الوقت، بالكاد تمكنا من جمع 100 توقيع من زملائنا من أجل الاستئناف، وتعرضنا لهزيمة ساحقة في مجلس أمناء الجامعة حيث تم جمع مئات التوقيعات الأخرى ضد استئنافنا، وكان معظم خصومنا من أعضاء هيئة التدريس في كليات الطب والأعمال والقانون وغيرها من الكليات المهنية، في حين كان مؤيدونا من العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل أساسي.
في العام التالي، أطلقنا مهرجاناً سينمائياً فلسطينياً كبيراً، حضره الآلاف من المتحمسين لمشاهدة 5 أيام من أفضل قطع السينما، وفيه ألقى سعيد الكلمة الافتتاحية، ثم نشرنا لاحقاً كتاباً مكوناً من المقالات التي كُتبت حول المهرجان.
في السابق، كان لدينا جميعاً سبب للاعتقاد بأن قوة الصهاينة المتشددين والأغنياء والأقوياء غير قابلة للتدمير في الولايات المتحدة، إلا أن الانتفاضة الطلابية الأخيرة أثبتت أننا كنا مخطئين
بعد فترة وجيزة، أنشأنا موقعاً إلكترونياً للسينما الفلسطينية، ثم مركزاً للدراسات الفلسطينية، كان الأول من نوعه في أي حرم جامعي في الولايات المتحدة أو أوروبا.
وبعد أحداث 11 سبتمبر، تم إنشاء موقع مكارثي على شبكة الإنترنت يدعى Campus Watch، وذلك بهدف التشهير بأسمائنا وإساءة معاملتنا في محاولة واضحة لتخويفنا وإسكاتنا، حتى أن المؤلف ديفيد هورويتز قام بنشر كتاب بعنوان “الأكاديميون الـ 101 الأكثر خطورة في أمريكا” بعد سنوات قليلة، وكتب فيه عن 6 من الأكاديميين من جامعة كولومبيا ولكن لم يكن سعيد واحداً منهم، إذ كان قد توفي آنذاك.
تغير مسار التيار
قبل صدور كتاب هورويتز بقليل، قامت الجماعات المؤيدة لإسرائيل، والتي كانت قد بدأت تشعر بالقلق من تحول مسار التيار ضدها، بإعداد فيلم وثائقي عنا، وأطلقوا عليه اسم ” غير لائق في كولومبيا” عام 2004.
بعد الفيلم، وُجهت إلينا اتهامات بمعاداة السامية، وعملت الجماعات الليبرالية، بدءاً من صحيفة نيويورك تايمز إلى صحيفة نيشن، على التنديد بنا، كما تم عرض الفيلم أمام إدارتنا العليا في محاولة أخرى لتخويفنا وإسكاتنا، فعلياً تم حصارنا وتعرضنا للإهانة، حتى أنه تم إخضاعنا لما يمكن تسميته نظام محاكم التفتيش الصهيوني!
لقد كانت وستظل حرباً بغيضة، فقد حكم نظام التفتيش الصهيوني كولومبيا كما حكم نيويورك والكونغرس الأمريكي بقبضة من حديد، بالنسبة لهم، كيف تجرؤ عصابة من العرب والمسلمين على التشكيك في قوة اللوبي الإسرائيلي في البلاد؟! فالمليارديرات الصهاينة لا يريدون أن يسمعوا عنها!
لقد نشرت صحيفة واشنطن بوست مؤخراً تقريراً وثقت فيه كيف قامت مجموعة من “عمالقة الأعمال” الأثرياء بتشجيع عمدة مدينة نيويورك، إريك آدامز، على إرسال الشرطة إلى حرم جامعة كولومبيا لتفريق المتظاهرين.
في السابق، كان لدينا جميعاً سبب للاعتقاد بأن قوة الصهاينة المتشددين والأغنياء والأقوياء غير قابلة للتدمير في الولايات المتحدة، إلا أن الانتفاضة الطلابية الأخيرة أثبتت أننا كنا مخطئين.
مات سعيد دون أن يرى كيف أن الحقيقة التي عمل لأجلها سوف تكون سبباً في تغيير وجه تاريخنا، مع كل لحظة يتردد فيها “فلسطين حرة حرة!”
لو عدنا إلى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، يمكن القول أن سعيد كان أحد أكثر الأصوات بلاغة في التعبير عن الإرهاب الذي كان الصهاينة يرتكبونه ضد الفلسطينيين باللغة الانجليزية، حتى أنه يمكن اعتبار كتابه “قضية فلسطين”، الذي نشره عام 1979، الحدث الرئيسي الذي أدى إلى صعود صوت قوي ضد نظام التفتيش الصهيوني.
صراع أبدي
طوال فترة التسعينيات، كان سعيد يعارض بشدة اتفاقيات أوسلو التي تم توقيعها في سبتمبر عام 1993، حيث رفض أن يكون جزءاً من مشهد المصافحة في حديقة البيت الأبيض، ضمن اتفاقية تنازلت عن حقوق الفلسطينيين في إسرائيل.
كتب سعيد في وصف الاتفاقية في أكتوبر من عام 1993، أنها “صفقة معيبة، وبالنسبة لمعظم الشعب الفلسطيني، فهي غير مواتية إطلاقاً، ولا تعلو على كونها ابتذال عرض أزياء في البيت الأبيض ومشهد مهين لياسر عرفات وهو يشكر الجميع على تعليق معظم حقوق شعبه، مع وقار سخيف لأداء بيل كلينتون وكأنه إمبراطور روماني في القرن العشرين يرعى ملكين تابعين له في طقوس مصالحة وإذعان”.
بعد حياة من النضال، توفي سعيد في سبتمبر من عام 2003، وبعد عقدين من الزمن، لا شك أن روحه تنظر مبتسمة وهي ترعى الاجيال الجديدة تصرخ في حرمه الجامعي: “فلسطين حرة حرة!”
إن الانتفاضة الطلابية العالمية التي بدأت في جامعة كولومبيا، وانتشرت مثل النار في جميع أنحاء العالم، لا يزال أمامها طريق طويل وشاق، حيث أن المحاولات الخبيثة لتشويه هذه الانتفاضة زوراً باعتبارها “معادية للسامية” تهدف إلى إخفاء حقيقة أنه يوجد في جوهرها فكر تحرري يمثله طلابنا وأعضاء هيئة التدريس بمن فيهم اليهود.
تعتبر ساحات الجامعات الأمريكية اليوم بمثابة مسرح نهاية الهيمنة الصهيونية، الأمر الذي يثير حفيظة العناصر القوية والمنغمسة والمتجذرة في مجالس الأمناء والخريجين وأعضاء هيئة التدريس والطلاب وأولياء الأمور، ولكن المارد قد خرج من القمقم ولم يعد بالإمكان إعادته مرة أخرى إلى داخله.
لأكثر من نصف قرن، هيمن الخيال الصهيوني على حرمنا الجامعي، وتم إنكار الواقع الفلسطيني وتشويه سمعته وشيطنته، وقد مات سعيد دون أن يرى كيف أن الحقيقة التي عمل لأجلها سوف تكون سبباً في تغيير وجه تاريخنا، مع كل لحظة يتردد فيها “فلسطين حرة حرة!”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)