بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان أخيراً طلبات لإصدار مذكرات اعتقال بشأن الحرب في غزة، وهي خطوة ترددت الشائعات حولها منذ عدة أسابيع.
من طرف حماس، يواجه مسؤول الحركة في غزة يحيى السنوار وقائد كتائب القسام محمد ضيف ورئيس المكتب السياسي لها إسماعيل هنية ثماني تهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومن جانب الاحتلال، فإن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت يواجهان سبع تهم.
وبغض النظر عن الكلمات المختلفة التي وردت في رد الفعل على قرار المدعي العام من قبل الاحتلال وحماس، ومن قبل مؤيديهما، فقد أثيرت ثلاث اعتراضات رئيسية حول الموضوع.
تتضمن الاعتراضات موضوع التكافؤ الأخلاقي المزعوم بين حماس وقادة الاحتلال، حيث أنشأ طلب مذكرات الاعتقال نزاعاً حول اختصاص المحكمة في هذه المسألة وحول ومبدأ التكامل، الذي يحق للدولة بموجبه التحقيق في الجرائم قبل تدخل المحكمة الجنائية الدولية.
الاعتراض الأول له طبيعة سياسية، أما الاعتراضين الآخرين فهما ذوا طبيعة قانونية.
ويوضح الرد التفصيلي الصادر عن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على مذكرات الاعتقال جوانب الاعتراض الثلاث، حيث يستشهد بالمساواة “المخزية” بين حماس، التي تعتبر منظمة إرهابية في العديد من الدول الغربية، وحكومة إسرائيل الديمقراطية.
وحين ننظر إلى الماضي، فمن المفيد أن نتساءل ما إذا كان بوسع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تجنب خلق صدع سياسي بإصدار لائحتي اتهام منفصلتين، وخاصة في ضوء الاختلافات في التهم المنسوبة إلى حماس وقادة الاحتلال.
وبغض النظر عن ذلك، فإن اتهام خان بأنه صنع معادلة أخلاقية هو بذاته أمر مثير للسخرية.
مبدأ التناسب
تتذرع الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الداعمة للاحتلال بنوع من الظروف المخففة، حيث إن إسرائيل دولة ديمقراطية تمارس “حقها في الدفاع عن النفس” في غزة، وهذا يفشل في معالجة التزاماتها كقوة محتلة في الأراضي الفلسطينية.
وينبغي للديمقراطيات أن تمارس حقها في الدفاع عن النفس وفقاً للقانون الدولي ومبدأ التناسب، لكن في غزة، قُتل أكثر من 35 ألف فلسطيني في الأشهر السبعة الماضية، انتقاماً لمقتل حوالي 1200 إسرائيلي في 7 تشرين الأول/أكتوبر، هذا كل شيء، ولكنه متناسب.
وقد يتوقع المجتمع الدولي عمليات قتل عشوائية على يد منظمة مثل حماس، ولكن ليس على يد دولة ديمقراطية مثل إسرائيل، التي تلتزم بمعايير أخلاقية أعلى، والتي كان من الصعب الحفاظ عليها حيث شاهدنا جيش الاحتلال يقصف المستشفيات والمدارس ومرافق الأمم المتحدة، بينما يستهدف المدنيين وعمال الإغاثة والصحفيين بشكل منهجي.
وفي نهاية المطاف فإن هذا التكافؤ الأخلاقي لم ينشأ بسبب أوامر الاعتقال الصادرة عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بل بسبب السلوك الفظيع الذي يمارسه جيش الاحتلال على الأرض.
كما أثار بلينكن مسألة الاختصاص القضائي، لأن دولة الاحتلال ليست من بين الدول الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وحتى هنا، تلعب المعايير المزدوجة والنفاق الأميركي المعتاد دوراً مؤثراً، لأن واشنطن رحبت ودعمت بشكل غريب إدانة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس الروسي فلاديمير بوتن بشأن الحرب في أوكرانيا، حتى برغم أن موسكو أيضاً ليست من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي.
وفي ظل هذا السجل الصادم، هل يمكن لأي شخص أن يتفاجأ إذا قرر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أنه لا يمكن الاعتماد على النظام القانوني الإسرائيلي؟
إن موقف الولايات المتحدة بشأن الاختصاص القضائي لا أساس له من الصحة، حيث تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بالولاية القضائية، لأن فلسطين أصبحت في عام 2015 دولة طرفاً في نظام روما الأساسي، الذي يمنح المحكمة الولاية القضائية عندما يُرتكب “السلوك المعني” على أراضيها.
ولكي لا يترك أي حجر دون أن يقلبه ويحمي أوامره بشكل أفضل، قام خان أيضاً بتشكيل لجنة من الخبراء في القانون الدولي لتقييم قراره وتقديم المشورة بشأنه.
وقد أيدت اللجنة موقف المدعي العام، وخلصت إلى أن “المحكمة الجنائية الدولية لها اختصاص فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة على أراضي فلسطين، بما في ذلك غزة، منذ 13 حزيران/يونيو 2014”.
كما وافقت اللجنة على أن المحكمة “تتمتع بالولاية القضائية على الجرائم التي يرتكبها مواطنون فلسطينيون داخل الأراضي الفلسطينية أو خارجها وعلى المواطنين الإسرائيليين أو الفلسطينيين أو غيرهم من المواطنين الذين ارتكبوا جرائم في غزة أو الضفة الغربية”.
وأشارت اللجنة على وجه التحديد إلى أن المحكمة “تتمتع بالسلطة القضائية على المواطنين الفلسطينيين الذين ارتكبوا جرائم على أراضي إسرائيل، على الرغم من أن إسرائيل ليست دولة عضواً في المحكمة الجنائية الدولية”.
محكمة الملاذ الأخير
ويتعلق الاعتراض الأخير الموجه ضد المدعي العام بالحجة القائلة بأن المحكمة الجنائية الدولية هي نوع من “محكمة الملاذ الأخير”، والتي يمنعها نظامها الأساسي من الاستمرار في أي قضية ما لم تكن الحكومة المعنية غير قادرة أو غير راغبة في التحقيق.
وبالتالي، استشهد بلينكن بمبدأ التكامل، الذي من شأنه أن يمنح النظام القانوني الإسرائيلي، نظرياً، فرصة أولية لإجراء تحقيق كامل في الجرائم التي يزعم المدعي العام ارتكابها في غزة، وفقط إذا أبدت إسرائيل تردداً في المضي قدماً، يمكن أن تصبح القضية بعد ذلك مسألة تتعلق بالسلطة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية.
وربما يكون بلينكن غافلاً عن السجل المفزع لسلطات الاحتلال عندما يتعلق الأمر بالتحقيق في الجرائم التي يرتكبها مواطنوها من أفراد الجيش والمستوطنين ضد الفلسطينيين منذ عام 1948.
فقد طالبت منظمة بتسيلم الإسرائيلية غير الحكومية، ومنذ الانتفاضة الثانية في عام 2000 حتى عام 2015، “بإجراء تحقيق في 739 حالة قام فيها الجنود بقتل أو إصابة أو ضرب فلسطينيين، أو استخدموهم كدروع بشرية، أو ألحقوا أضراراً بالممتلكات الفلسطينية، وفي ربع هذه الحالات (182)، لم يتم إجراء أي تحقيق على الإطلاق، وفي ما يقرب من النصف (343)، تم إغلاق التحقيق دون اتخاذ أي إجراء آخر، وفقط في حالات نادرة جداً (25)، تم توجيه تهم ضد الجنود المتورطين”، وتمت إحالة حوالي اثنتي عشرة حالة إلى الإجراءات التأديبية، بينما كانت هناك حالات أخرى لا تزال قيد المعالجة حتى وقت إعداد تقرير عام 2016.
الاستنتاج المحزن الذي توصلت إليه بتسيلم هو أن تقديم شكوى من قبل الفلسطينيين الى القضاء الإسرائيلي يؤدي إلى إصدار لائحة اتهام في نحو 3% فقط من الحالات، وبالتالي فمن المعقول أن نفترض أن معدل الإدانة يقترب من الصفر.
وقعت واحدة من أحدث عمليات إراقة دماء الفلسطينيين قبل الحرب الحالية في عام 2018، حيث نظم الفلسطينيون احتجاجات سلمية منتظمة على طول سياج غزة، مطالبين بإنهاء الحصار الذي تفرضه دولة الاحتلال منذ عام 2007، وشارك آلاف المحتجين بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السن.
ورداً على ذلك، نشر الاحتلال عشرات القناصة، وحول المنطقة إلى ساحة رماية مروعة، استهدف فيها السكان العزل، واستشهد ما مجموعه 223 فلسطينياً منهم 46 دون سن 18 عاماً، وأصيب حوالي 8000 آخرين، وحتى الآن، لم تقم سلطات الاحتلال بإجراء أي تحقيق جدي في ذلك.
في ظل هذا السجل الصادم، هل يمكن لأي شخص أن يتفاجأ إذا قرر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أنه لا يمكن الاعتماد على النظام القانوني الإسرائيلي، وانتقل بدلاً من ذلك مباشرة إلى أوامر الاعتقال؟
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)