بقلم جوزيف مسعد
اعترفت ثلاث دول أوروبية أخرى مؤخرا، هي أيرلندا وإسبانيا والنرويج، بدولة فلسطينية غير موجودة، لتنضم بذلك إلى 140 دولة أخرى في الأمم المتحدة اعترفت بهذا الكيان الوهمي. وقد رحبت السلطة الفلسطينية، التي أنشئت عام 1993 لمعاونة إسرائيل في قمع المقاومة الفلسطينية للاستعمار والاحتلال الإسرائيلي، بتوسع عضوية هذا النادي غير المقنع. وتهدد دول أوروبية أخرى، مثل مالطا وسلوفينيا، بأنها قد تحذو حذو هذه الدول.
وقد جاء رد فعل الإسرائيليين، الذين أنكروا على الفلسطينيين منذ عام 1948 حقهم في إقامة دولة، غاضبا على هذا الاعتراف، على الرغم من أن الاعتراف بدولة فلسطينية وهمية، كما سأبيّن، هو أحد السبل المهمة التي يصر عليها أعضاء الأمم المتحدة، في انتهاك صارخ للوائح الأمم المتحدة، للاعتراف بحق إسرائيل في الاستمرار كدولة عنصرية تكرّس تفوق العرق اليهودي.
وفي حين طالب الفلسطينيون بالاستقلال عن البريطانيين بعد فترة وجيزة من بدء الاحتلال البريطاني لفلسطين في أواخر عام 1917، وهو ما حرمهم البريطانيون منه، فإن المرة الأولى التي تم فيها طرح اقتراح لحرمان الفلسطينيين صراحة من حقهم في إقامة دولة مستقلة كانت في عام 1937، عندما أوصت لجنة بيل البريطانية بتقسيم فلسطين بين المستوطنين اليهود وإمارة شرق الأردن حديثة النشأة آنذاك.
وكانت اللجنة قد أوصت بطرد ربع مليون فلسطيني من المنطقة المخصصة للدولة الاستعمارية-الاستيطانية اليهودية ومصادرة ممتلكاتهم بشكل كامل. وبموجب تقرير اللجنة، كان سيتم ضم ما تبقى من فلسطين وشعبها إلى شرق الأردن، لكن نتيجة رفض الفلسطينيين وبعض الدول العربية للتقرير، لم تعتمد السلطات البريطانية توصياته. بعد ذلك، جاء دور الأمم المتحدة في عام 1947 لحرمان الفلسطينيين من الاستقلال في كل فلسطين، من النهر إلى البحر، عندما رفضت تقرير الأقلية للجنة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين وأصدرت “قرار التقسيم” الذي أوصى بتقسيم البلاد بين المستوطنين اليهود والشعب الفلسطيني.
في عام 1946، كان عدد سكان فلسطين أقل من مليوني نسمة، أو لتوخي الدقة، 1,972,000 نسمة، منهم 1,364,000 فلسطيني، و608,000 مستوطن يهودي. كان من المقرر أن يكون للدولتين اللتين اقترحهما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، والمعروف باسم “قرار التقسيم”، أغلبية فلسطينية، بما في ذلك مدينة القدس التي كان من المفترض أن تخضع لولاية الأمم المتحدة. ووفقا للقرار، فإن الدولة الفلسطينية ستتألف من 818 ألف مواطن عربي فلسطيني وأقل من 10 آلاف مستعمر يهودي، أي سيشكل الفلسطينيون 99 في المائة والمستوطنون اليهود واحدا في المائة من إجمالي السكان، فيما ستتألف الدولة اليهودية المقترحة من 499 ألف مستوطن يهودي و509 آلاف فلسطيني، أي أن الفلسطينيين سيشكلون 54 في المائة من السكان. وقد دفع ذلك الأمم المتحدة إلى إعادة رسم الخريطة واقتطاع مدينة يافا من الدولة اليهودية المقترحة، والتي بلغ عدد سكانها 71 ألف فلسطيني، وضمها كجَيْب إلى الدولة الفلسطينية. وهذا جعل الدولة اليهودية تضم عددا مخفضا من الفلسطينيين يبلغ 438 ألف فلسطيني، كانوا يشكلون 46.7 في المائة من سكان المستعمرة الاستيطانية اليهودية. أما مدينة القدس التي كانت ستخضع لحكم الأمم المتحدة، والتي تقع خارج حدود الدولتين المقترحتين، فكان عدد سكانها يتألف من 105 آلاف فلسطيني و100 ألف يهودي.
لقد نص قرار التقسيم بوضوح على أنه في أي من الدولتين “لا يجوز استخدام التمييز أيا كان بين السكان على أساس العرق، أو الدين، أو اللغة، أو الجنس”، وأنه “لا يجوز مصادرة الأراضي المملوكة للعربي في الدولة اليهودية (أو المملوكة ليهودي في الدولة العربية).. إلا للأغراض العامة. وفي جميع حالات نزع الملكية، سيتم تسديد التعويض الكامل الذي تحدده المحكمة العليا قبل نزع الملكية”.
وعندما صدر “إعلان قيام دولة إسرائيل” في 14 أيار/ مايو 1948، كانت القوات الصهيونية قد هجّرت بالفعل نحو 400 ألف فلسطيني من الأراضي التي سيطرت عليها، وكانت بصدد تهجير 360 ألفا آخرين في الأشهر التالية. كان الصهاينة مدركين بأن أفضل طريقة لضمان التفوق العرقي اليهودي في دولتهم التي حددها قرار التقسيم لم تكن فقط عبر تهجير الفلسطينيين ومصادرة ممتلكاتهم، بل أيضا عبر احتلال أرض الدولة الفلسطينية التي حددها القرار واحتلال القدس أيضا، وكذلك طرد السكان الفلسطينيين من المنطقتين ومصادرة أراضيهم.
وقد اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها بأن هذا كان انتهاكا صريحا لقرار التقسيم عندما تقدمت إسرائيل بطلب عضوية في عام 1949. وأصرت الجمعية العامة على أنه للموافقة على طلب إسرائيل، يتعين على إسرائيل الالتزام بقرار التقسيم، وبقرار الأمم المتحدة رقم 194 الصادر في شهر كانون الأول/ ديسمبر 1948 بالسماح بعودة الفلسطينيين الذين هجّرتهم إسرائيل عن ديارهم وإعادة ممتلكاتهم لهم، والانسحاب من القدس الغربية التي يجب أن تتبع سيادة الأمم المتحدة، وإعلان حدود لدولتها الجديدة. وقد قدّمت إسرائيل تأكيدات بأنها ستلتزم بهذه القرارات بعد المفاوضات مع جيرانها العرب، لكنها زعمت أنها لا تستطيع المضي في ذلك إلا بعد أن تصبح عضوا في الأمم المتحدة.
اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيرا بإسرائيل كعضو في 11 أيار/ مايو 1949 بأغلبية 37 صوتا مقابل 12 صوتا من خلال اعتماد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 273. لكن القرار نص على أن إسرائيل يجب أن تلتزم بالقرارين 181 و194، وهو ما لم تفعله حتى اليوم. وامتنعت تسع دول، بما فيها المملكة المتحدة، عن التصويت.
بعد فترة وجيزة من اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل، في 5 كانون الأول/ ديسمبر 1949، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون بضم القدس الغربية بقرار من جانب واحد، وأعلن أن إسرائيل لم تعد ملزمة بالقرار 181، ليس فقط فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية التي احتلتها، ولكن أيضا بما يتعلق بسيطرة الأمم المتحدة على القدس الغربية. وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 303 بعد ذلك بأربعة أيام، معلنة وضع القدس تحت نظام دولي دائم، وهو قرار لم يدخل قيد التنفيذ أبدا. كما بدأت إسرائيل بعد ذلك بتشريع قوانين لفرض الفوقية العرقية اليهودية، والتي وصل عددها لأكثر من 65 قانونا اليوم.
كل هذا يعني أن إقامة دولة إسرائيل بحد ذاته يبقى عملا غير قانوني وينتهك قرارات الأمم المتحدة ذاتها التي اقترحت قيامها أصلا. ومع ذلك، فإن إحدى المفارقات العديدة في الخطاب الغربي السائد بشأن إسرائيل والفلسطينيين منذ ذلك الحين هي كيف أن إنكار إسرائيل والغرب لحقوق الفلسطينيين في دولة مستقلة لا يرقى إلى أكثر من موقف سياسي مشروع، في حين يتم تصوير من يرفض حق إسرائيل في الوجود كدولة عنصرية تكرس الفوقية العرقية اليهودية على أنه موقف ينادي بـ”إبادة جماعية” للشعب اليهودي أو بأنه ينم عن “معاداة للسامية”.
اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود كدولة ذات عنصرية تفرض فوقية العرق اليهودي ضمنيا؛ عندما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1988 “استقلال” دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، وقد اعترفت بها صراحة عندما وقعّت على اتفاقيات أوسلو. لكن منذ إعلان “استقلال” الدولة الفلسطينية عام 1988، بدأت هذه الدولة الوهمية تحظى باعتراف أعضاء الأمم المتحدة كما حصل في الأسبوع الماضي. ولكن بما أن تلك الدولة لم تتشكل قط، ومع ظهور إجماع دولي منذ ذلك الحين على أن إسرائيل هي دولة فصل عنصري تقوم بفرض التفوق العرقي اليهودي وأنها كانت كذلك ولم تزل منذ عام 1948، كما شهدت على ذلك “منظمة العفو الدولية” و”مرصد حقوق الإنسان” (هيومن رايتس ووتش)، ومنظمات أخرى، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: أي من المواقف يمكن وصمه بالعنصرية فيما يتعلق بالاعتراف أو بإنكار حق يهود إسرائيل أو الفلسطينيين في دولة؟
منذ عام 1948، رفضت إسرائيل الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولته وقد فعلت كل ما في وسعها لمنع قيامها. والواقع أن هذا هو الموقف الذي لا يزال القادة الإسرائيليون يكررونه دون وجل، فلا يكلّ بنيامين نتنياهو من تكرار رفضه لإقامة دولة فلسطينية، وكذلك الحال مع وزير دفاعه يوآف غالانت الذي أكد مؤخرا أن مثل هذه الدولة لن يُسمح لها بالوجود الآن أو في ظل أي حكومة إسرائيلية مقبلة. لم أرَ أي وصف من قبل الساسة الغربيين أو وسائل الإعلام الغربية لإنكار حق الشعب الفلسطيني في دولته الخاصة به بأنه يعبر عن “إبادة جماعية” أو على أنه ضرب من “العنصرية”.
ورغم أن إسرائيل نفسها قد أقيمت على أراضي الشعب الفلسطيني عام 1948، سواء تلك التي منحتها لها الجمعية العامة في قرار التقسيم الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، أو على نصف الأراضي الممنوحة للدولة الفلسطينية التي احتلتها في الفترة ما بين أيار/ مايو 1948 وكانون الأول/ ديسمبر 1948، فإن أولئك الفلسطينيين الذين يرفضون حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية عنصرية تدار من خلال مجموعة من القوانين العنصرية، ويطالبون بإنشاء دولة ديمقراطية منزوعة الاستعمار من النهر إلى البحر بدلا منها، يُتهمون على الفور بأنهم ينادون بإبادة الشعب اليهودي. لكن في الوقت نفسه فإن الشعب الوحيد الذي يتعرض للإبادة الجماعية في فلسطين هو الشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق، من المهم أن نلاحظ أن والدي وزير الدفاع غالانت، وهما مستوطنان بولنديان، قد أطلقا عليه اسم “يوآف” تيمنا بالدور الذي لعبه والده الذي حارب خلال الغزو الصهيوني لفلسطين عام 1948 في “عملية يوآف” التي قام بها الجيش الإسرائيلي في جنوب فلسطين، والتي احتل خلالها أراضي مخصصة للدولة الفلسطينية بحسب قرار التقسيم، وارتكب أثناءها الصهاينة مجزرة قرية الدوايمة المروعة التي راح ضحيتها أكثر من 200 مدني فلسطيني، بينهم نساء وأطفال.
كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يصرون دائما على أن حق إسرائيل في الاستمرار كدولة عنصرية تكرس التفوق العرقي اليهودي لن يخضع بتاتا لأي مفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، حيث لا ينبغي للفلسطينيين إلا أن يتفاوضوا حول إمكانية إقامة دولة فلسطينية على بعض الأراضي المقتطعة من وطنهم الأصلي لا أكثر.
وبناء على ما سبق، فإن أولئك الذين يعترفون بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية تكرس التفوق العرقي اليهودي هم العنصريون الصريحون، إذ يصرون على أنه ينبغي على هذه الدولة غير الشرعية الاستمرار في الاستفادة من التطهير العرقي الذي مارسته ضد الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 والحفاظ على قوانينها ومؤسساتها العنصرية، في حين أن أولئك الذين يدعمون تفكيك الهياكل والقوانين العنصرية الإسرائيلية هم مناهضو العنصرية الحقيقيون الذين يدعون إلى إقامة دولة واحدة منزوعة الاستعمار من النهر إلى البحر، يكون كل من فيها متساوين أمام القانون، ويُحْرم فيها اليهود الإسرائيليون من الامتيازات العنصرية أو الإثنية أو الدينية.
فعندما تعترف الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بدولة فلسطينية وهمية، فإن ما تقوم به هو دعم لاشرعية إسرائيل باعتبارها دولة عنصرية مؤسسيا وقانونيا. فلا يتعين على هذه الدول الاعتراف بدولة فلسطينية غير قائمة أصلا، بل يتعين عليها سحب اعترافها بدولة إسرائيل القائمة كدولة عنصرية غير شرعية؛ هذا فقط لا غير ما من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة ديمقراطية تقوّض الاستعمار وتنهي الحكم العنصري.
للإطلاع على النص باللغة الانجليزية من (هنا)