بقلم فريد طعم الله
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
من المرجح أن تؤدي التطورات الأربعة الأخيرة على الساحة الدولية إلى تضييق الخناق على دولة الاحتلال وإزالة القناع الزائف الذي كانت تظهره للعالم على الدوام.
أول هذه التطورات يتمثل في احتجاجات طلاب الجامعات في الولايات المتحدة وحول العالم، وثانيها إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، أما ثالث التطورات فيكمن في اعتراف إسبانيا وأيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية، وأخيراً، أمر محكمة العدل الدولية للاحتلال يوم الجمعة الماضي بوقف عدوانه على رفح.
لا تشكل هذه التطورات سوى قمة جبل الجليد في تدهور الرواية الكاذبة لدولة الاحتلال باعتبارها “دولة ديمقراطية” تدافع عن نفسها ضد “الإرهاب” الفلسطيني، ولذلك تعمل حكومة الاحتلال المتطرفة على تعويض هذه الخسارة السياسية والعسكرية بتكثيف الجرائم الانتقامية ضد المدنيين في غزة، وفرض الاستيلاء على الأراضي، وتنفيذ المزيد من التدابير العقابية العدوانية وغير القانونية والمخطط لها مسبقاً لخلق حقائق على الأرض.
يواصل الاحتلال جرائمه الانتقامية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، خاصة من خلال توسيع المستوطنات القائمة وبناء مستوطنات جديدة، وتقويض السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يبدد أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية.
أحدث تلك الجرائم الانتقامية كانت مذبحة رفح مساء السادس والعشرين من أيار/مايو، عندما أطلقت قوات الاحتلال الصواريخ على خيام النازحين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى “منطقة آمنة” تديرها الأمم المتحدة، ما أدى إلى حرق ما لا يقل عن أربعين لاجئاً، معظمهم من النساء والأطفال.
وعدا عن توجيه الاحتلال “تهديداته الانتقامية” إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية والدول الأوروبية الثلاث التي اعترفت بدولة فلسطين، وحرقه المدنيين في قطاع غزة، فإن عدداً كبيراً من هذه التهديدات تم توجيهه أيضاً إلى الضفة الغربية المحتلة والسلطة الفلسطينية، فنحن الفلسطينيون في الضفة الغربية في عين العاصفة الانتقامية الإسرائيلية.
“الإجراءات العقابية”
في اليوم الثاني والعشرين من أيار/مايو، دعا وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إلى “إجراءات عقابية قاسية” ضد السلطة الفلسطينية.
وتتضمن هذه الإجراءات عزل البنوك الفلسطينية من خلال عدم تقديم الضمانات للبنوك الإسرائيلية التي تتعامل معها ضد الدعاوى القضائية المحتملة، وقطع عائدات الضرائب عن السلطة الفلسطينية، وتشجيع بناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية الاستيطانية في الضفة الغربية، وإنشاء مستوطنة جديدة “مع كل دولة تعترف من جانب واحد بدولة فلسطينية”، وإلغاء الترتيب النرويجي الذي بموجبه تعمل النرويج كوسيط للاحتفاظ بعائدات الضرائب التي تجبيها دولة الاحتلال عن السلطة الفلسطينية منذ بداية الحرب.
وقد أعربت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين ومسؤولو مجموعة الدول السبع من كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة عن قلقهم العميق إزاء التهديدات بعزل البنوك الفلسطينية، وهي الخطوة التي من شأنها قطع شريان حياة بالغ الأهمية للاقتصاد الفلسطيني.
وفي الثاني والعشرين من أيار/مايو، ألغى غالانت “قانون فك الارتباط” لعام 2005 في شمال الضفة الغربية.
ينص القانون، الذي طرحه رئيس الوزراء آنذاك أرييل شارون، على انسحاب الاحتلال من قطاع غزة وشمل وقتها إخلاء أربع مستوطنات في الضفة الغربية، لكن وبعد تدخل غالانت، سيُسمح للمستوطنين الآن بالعودة إلى تلك المستوطنات التي تم إخلاؤها.
وفي اليوم نفسه، أقر الكنيست بالقراءة التمهيدية مشروع قانون يقضي بضم جبال الخليل الجنوبية المحتلة إلى منطقة النقب.
وتؤكد هذه التهديدات ضد الفلسطينيين على غطرسة الاحتلال ووقاحة سلوكه، حيث يتصرف كسلطات دولة فوق القانون الدولي وينتهك الدول ذات السيادة وحقها في اتخاذ القرارات السيادية.
ودأبت دولة الاحتلال على مهاجمة أي طرف يعارض سياساتها أو يقوم بانتقادها سواء كان فرداً أو دولة أو مؤسسة، عبر اتهام من يفعل ذلك بمعاداة السامية.
وتعول دولة الاحتلال في هذا السلوك على دعم حليفتها الأكبر، الولايات المتحدة، ودول أخرى مثل المملكة المتحدة، الدولتين الوحيدتين اللتين عارضتا قرار المحكمة الجنائية الدولية إلى جانب دولة الاحتلال طبعاً.
وتشكل هذه “الإجراءات العقابية” جزءاً من خطة معدة مسبقاً ضمن الرؤية الاستراتيجية لهذه الحكومة وحكومات الاحتلال السابقة، وتهدف إلى جعل التوصل إلى اتفاق سلام وإقامة دولة فلسطينية مستحيلاً من الناحية العملية.
إجماع دولي متزايد
ترتبط هذه التدابير بالإجراءات التي اتخذتها دولة الاحتلال قبل وقت طويل من هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فعلى سبيل المثال، تم اتخاذ قرار إعادة المستوطنات في شمال الضفة الغربية في آذار/مارس 2023، وقرار وقف تحويل عائدات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية في 23 تشرين الأول/أكتوبر.
وأوقف الاحتلال تحويل الأموال إلى خزائن السلطة الفلسطينية عدة مرات من قبل، كما فعل في عام 2014 رداً على نية السلطة الفلسطينية الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية وفي عام 2022 عندما أوقف مجلس وزراء الاحتلال تحويل 176 مليون دولار من عائدات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية.
كما استمر توسيع وبناء المستوطنات في الضفة الغربية في ظل جميع حكومات الاحتلال، سواء اليمينية أو اليسارية، وهذا ما نشهده نحن سكان الضفة الغربية المحتلة يومياً.
فعلى مدى العقدين الماضيين، سعت الحكومات المتعاقبة في دولة الاحتلال إلى إضعاف السلطة الفلسطينية وإحباط جهودها للتحول إلى دولة فلسطينية، وفقاً لاتفاقيات أوسلو عام 1993، والتي نصت على إقامة الدولة الفلسطينية خلال خمس سنوات، وتحديداً بحلول أيار/مايو 1999 على أقصى تقدير.
وحتى قانون فك الارتباط الذي تبناه شارون عام 2005 لم يكن جزءاً من خطة أو رؤية سياسية للانفصال عن الفلسطينيين، بل جاء من منطلق أمني بحت، ودون التشاور مع السلطة الفلسطينية.
ومنذ انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة كدولة مراقب غير عضو عام 2012، ثم انضمامها إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2015، اتخذ الاحتلال إجراءات أكثر قسوة لتقويض السلطة الفلسطينية.
لقد بدأ الاحتلال في تقليص دور السلطة المستقل كما نصت عليه اتفاقيات أوسلو، بل ولم يعد الاحتلال ملتزماً حتى بأحكام الاتفاق التي أصبحت اختيارية وانتقائية لخدمة مصالح الاحتلال فقط.
يعتقد العديد من الفلسطينيين أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية الآن لن يكون كافياً لوقف الإبادة الجماعية وإنهاء الاحتلال، وهم يرون في ذلك مناورة سياسية لتهدئة الغضب الشعبي وتحويله عن التركيز على التدابير التي يمكن أن تكون فعالة حقاً، مثل وقف صادرات الأسلحة إلى الاحتلال، ومقاطعته سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وقطع العلاقات الدبلوماسية معه.
هذه حجة صحيحة، ولكن في الوقت نفسه أرى أن المكاسب التدريجية التي يحققها الفلسطينيون مهمة للغاية نحو تحقيق هدف إنهاء الاحتلال، وهي تتراكم مثل اللكمات المتكررة، لا كالضربة القاضية الواحدة
وبدعم من الولايات المتحدة، فإن دولة الاحتلال تنكر الواقع الجديد الذي يتشكل في العالم، والذي يحشد بشكل متزايد ضد الاحتلال وثقافة الإفلات من العقاب.
لقد أصلح الرأي العام الدولي الآن مدركاً أكثر من أي وقت مضى للحاجة إلى وقف الإبادة الجماعية، وإنهاء الاحتلال، ومنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة في الحرية وتقرير المصير.
ونأمل أن يشكل هذا الإجماع الدولي المتزايد موجة تسونامي عالمية تجتاح الاحتلال، وتجلب العدالة والكرامة لشعب فلسطين، الذي يعاني تحت أطول احتلال عسكري استعماري في العصر الحديث.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)