يفتح الباب لتطل من خلفه صاحبة شعر مجعد فضي اللون، ترتدي ساندرا وطفة سترة سوداء وبنطالاً ضيقاً، وتكشف عن ابتسامة جذابة وهي تخرج من مدخل منزلها في لندن.
تسود هالة من الهدوء الوقور داخل المنزل، وتستدعي الجدران الزرقاء والوسائد المزخرفة شعوراً بالحنين إلى ساحل بلاد الشام.
وتتحدث وطفة عن لوحة الألوان قائلةً: “لقد ولدت في لبنان على شاطئ البحر، لم أكن أعرف أي شيء غير ذلك”.
تحمل الفنانة كوباً أبيض اللون تزدان قاعدته بنقوش لأعلام فلسطينية صغيرة، فيما يزين طبق البقلاوة وبسكويت الزنجبيل الطاولة، وتقول: “عندما تكبر في عائلة فلسطينية، تبدأ في إدراك تبعات الوجود في بلد ليس وطنك”.
نزح والدا وطفة من عكا خلال نكبة عام 1948، التي شهدت تهجير الصهاينة لأهالي الأراضي الفلسطينية بغية تأسيس دول الاحتلال، وبعد أن وجدت العائلة ملاذاً في لبنان، حيث ولدت الفنانة، أدى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 إلى هجرة ثانية.
تصف وطفة كل ذلك بقولها: “انتهى بنا المطاف في اليونان، وهو ما جعلنا نشعر أن لبنان كان وطننا، وبعد عام ونصف، أتينا إلى هنا، وهو ما جعلنا نشعر وكأن أثينا كانت موطننا”.
البحث عن الوطن
ظل الاضطراب الحسيّ سمة مميزة للتجربة الفلسطينية، وبالنسبة للعديد من الفلسطينيين، يتواصل البحث عن الأمان والانتماء اليوم، كما يتضح من النزوح المستمر وقتل الفلسطينيين في غزة منذ بدء الحرب في تشرين الأول/أكتوبر.
وفي عام 1977، وصلت وطفة وهي في سن الثانية عشرة، إلى لندن مع عائلتها.
تروي تفاصيل بداية الحكاية اللندنية بالقول: “لم أكن أتحدث كلمة واحدة باللغة الإنجليزية، شعرت حرفياً وكأنني هبطت على كوكب مختلف، كان الطقس وبرودة الناس صعبين للغاية في البداية”.
وتتذكر الفنانة المهاجرة حادثة تكوينية في متجر بريطاني ساعدت في رسم نظرتها للعالم لاحقاً وهي تقول: “كانت إحدى موظفات المحاسبة في المتجر تتعامل مع امرأة محجبة أمامي وكانت تتحدث إليها بطريقة مثيرة للاشمئزاز، فانفجر شيء بداخلي، كنت في الخامسة عشرة فقط، لكنني طلبت مقابلة المدير”.
واضيف: “حدث ذلك بطريقة تلقائية للغاية، كان سلوك المستضعف، لقد تعاطفت مع المرأة أمامي على الرغم من كوني مسيحية، ففي فلسطين لا نعرف التمييز بين المسيحيين والمسلمين”.
وفي النهاية، لم تستدع المرأة عند المحاسب المدير، لكن اللقاء المبكر حدد لهجة موقف وطفة في المجتمع البريطاني، وعندما كانت شابة، تابعت دراستها في مدرسة الفنون في مدينة لندن، وتخرجت منها عام 1987.
ساعدتها مواجهتها للحواجز اللغوية في صغرها على تنمية اهتمامها بالفن ومتابعتها له، وسمحت لها المنافذ الإبداعية بفهم الصدمة التي تعرضت لها، وهي تقول عن ذلك “الحاجة أم الاختراع، فصرت أشعر بالرغبة في الرسم”.
تركز الكثير من أعمال وطفة على فلسطين، من خلال شخصيات عاطفية مرسومة بالفحم ترمز إلى الألم المستمر ومعاناة شعبها.
ومن الأمثلة على ذلك عمل “اللاجئون”، وهو عمل رسمته بالحبر على الورق عام 1990، ويظهر فيه “وحدة عائلية هشة تتحدى المجهول بينما تتجه نحو هاوية سوداء”.
ينقل استخدام خطوط الظل في عملها إحساساً بالحركة مع التأكيد على الظلام الذي يجسد عدم اليقين في تجربة المهاجرين.
وعن شغفها بالفحم، تقول وطفة: “أجد أنه من المرضي جداً أن تكون يداي مطليتين بالكامل بالفحم، وهو أمر علاجي مثل وجود تربة مدفونة تحت أظافر المرء أثناء ممارسته البستنة”.
وتتابع: “أحب التباين بين حدة اللون الأبيض وعمق السواد، اللون ليس موجوداً لتشتيت الانتباه، إنه يرمز إلى صراحة النضال”.
وتحدد وطفة أيضًا رمزية أخرى في التناقضات في أعمالها ذات النغمة الواحدة، وتتحدث عن ذلك بقولها: “لا يوجد تكافؤ بين المستعمِر والمستعمَر، ولا بين السكان الأصليين والغزاة، كلما حاولوا محونا، كلما ألقى المزيد من الضوء على ظلامهم”.
وتفسر ما قالت: “ربما يكون الجانب الأكثر أهمية هو أنه، كما يقول إيمي سيزار: لا يمكن احتجاز أي شعب أو بلد رهينة إلى أجل غير مسمى، سينفجر في النهاية، ثورة المستعمر أمر لا مفر منه”.
الفن والمقاومة
توظف وطفة فنها كشكل من أشكال المقاومة، لتثقيف الناس ورفع مستوى الوعي لديهم، ويضم كتابها “النكبة: التهجير المستمر للفلسطينيين”، الذي نُشر في أيار/مايو 2023، 50 رسماً ولوحة وقصيدة من مجموعتها.
ويحمل الكتاب على غلافه صورة لوحة زيتية مرسومة على قماش تعود إلى عام 1986، تحمل وجوهاً حزينة تنظر بحنين في كل الاتجاهات.
وتتناقص أحجام الشخصيات تدريجياً، لتظهر صفاً لا نهائيًا من الشتات الفلسطيني في المسافة، محاطاً بألوان ساخنة لأرض قاحلة مجهولة الهوية.
وتشرح المزيد من التفاصيل بقولها: “تستسلم المرأة الأولى، ليس بسبب الهزيمة ولكن بسبب اختيارها الحاسم للمقاومة من خلال البقاء على قيد الحياة، إنها تنظر إلى الأرض أمامها، بشفتين مصممتين، وخطوات ثابتة، وتتذكر كل ما حدث من قبل”.
وتضيف: “بالنسبة لي، كانت النساء ولا تزال وستظل دائمًا في طليعة المقاومة”.
وترجع الفنانة وطفة جذور هذا التهجير إلى هجرة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، كجزء من الحركة الصهيونية الجنينية.
وتعتبر الفنانة أن الشعب الفلسطيني انتُزِع منذ ذلك الحين ببطء من أرضه الأصلية، وهي العملية التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
وتقول أن الفلسطينيين “أصبحوا محرومين من حقوقهم ومُهَجَّرين من إنسانيتهم حتى يومنا هذا، فكل أسرة لديها أو تعرف شخصاً استشهد دون سبب سوى كونه فلسطينياً، إنها عنصرية لا مثيل لها”.
“يبدو المستقبل غير محسوس إلى الأبد، لقد تشتتنا في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك رفضنا الاختفاء، إن حبنا للوطن يعني أنه على الرغم من أننا على أرض أجنبية، فإننا نحمل فلسطين في داخلنا، ومثل البذور، نزرع جوهرها أينما كنا”. – ساندرا وطفة، فنانة فلسطينية في لندن
وتؤمن وطفة أن أساليب التعبير الإبداعية تحمل المفتاح لتغيير المواقف تجاه القصة الفلسطينية، معبرةً عن ذلك بقولها: “يحدث ذلك حين يتابع الفن من قناة مختلفة، فليست القشرة الخارجية هي التي تقوم بالتحليل، بل القلب، إنه يحيط بالفكر ويلمس المشاعر الخام، لذا فهو يمتلك القدرة على تجاوز الانطباعات المسبقة”.
يمكن إدراك هذه الفكرة تماماً بالنظر إلى أحدث رسوماتها، “أصغر الجثث هي الأثقل وزناً”، إنها لوحة تكريم لعيد الأم احتجاجاً على قتل آلاف الأطفال الفلسطينيين على يد الاحتلال منذ تشرين الأول/أكتوبر، حيث تصور وطفة في لوحتها أماً تداعب طفلها الميت الملفوف في ملاءة بيضاء.
كانت عينا الأم في اللوحة مغلقتان، ووجهها مدفون في زاوية عنق طفلها، وكان العناق دافئاً وحميماً، لكنه مليء بالحزن المدمر الناتج عن الوداع النهائي.
الإبادة الجماعية
وتقول وطفة: “لا توجد كلمات لوصف حزن الفلسطينيين، فبعد ستة وسبعين عاماً، لا يزال هذا الحزن يتزايد بشكل كبير، وأعداد الأطفال الذين ذبحوا مؤخراً مذهلة، وهذا دون احتساب أولئك الذين يتحللون تحت الأنقاض.
وتتابع:”لقد حاولنا النضال من أجل حريتنا بالوسائل السلمية، كما في حالة مسيرة العودة الكبرى في عام 2018، وكانت النتيجة ذبح 267 فلسطينياً، مثل الأسماك في البراميل، وتشويه المئات وجرح الآلاف، والآن تم رفع الرهان إلى إبادة جماعية كاملة النطاق يتم بثها مباشرة على الهواء، مسلحة ومشجعة من قبل القوى الغربية”.
في ذلك الوقت، رسمت وطفة لحظة من هذا الحدث باستخدام الفحم، واستوحت تفاصيلها من صورة لامرأة شابة تقف أمام سياج ممسكة بالسلك الشائك الذي كان يحبسها.
وتقول وطفة: “كانت تلك المرأة تصرخ بصوت عالٍ مطالبة بالتحرر إلى الأبد، وكان ألمها شديد لكنه مشبع بالشوق، البيئة هناك قاسية، وموقفها لا يطاق، ومع ذلك فقد كانت تقف بكل شموخ”.
لكن أعمال وطفة عادةً ما تكون أقل تركيزاً على الأحداث الآنية، وهي تشرح ذلك قائلةً: “”أميل إلى الحفاظ على طابعي التجسيدي، فعندما أرسم، أجسد نفس المبدأ الذي اعتدت أن أستخدمه عندما كنت أدرس اليوجا، وهو مبدأ القناة”.
وتوضح: “النتيجة النهائية دائماً غير متوقعة بالنسبة لي، والعمل لا ينتهي أبداً، إنه ببساطة حجر الأساس الجديد في غرس بذرة التعاطف لدى الآخرين”.
وإلى جانب فنها، تعد وطفة ناشطة ملتزمة، ففي عام 2014، دخلت في شراكة مع Inminds، وشاركت في مظاهرتين شهرياً لمدة سبع سنوات للمطالبة بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
وتشير إلى قطعة من التطريز على الحائط خلفها عليها خريطة فلسطين طرزتها يدوياً زوجة أحد الأسرى في الضفة الغربية المحتلة.
لقد لفتت هذه الأنشطة انتباه مؤيدي الاحتلال وخلقت لديهم العداء، لكنها توضح أن الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة ما زالوا الضحايا الرئيسيين لعدوان الاحتلال.
وتشرح وطفة ما لقيته من انعكاسات لتمسكها بالفن الملتزم بقضيتها قائلةً: “لقد بصقوا عليّ ونعتوني بالإرهابية مليون مرة، نحن نتعامل مع البلطجية في الشتات، لكن الناس في الوطن يتعاملون مع القنابل والرصاص، هذا هو الفرق وهو فرق هائل”.
“لقد رأينا أشياء لا يمكننا أن نتجاهلها، حيث يعيش أهل غزة في ظروف لا يمكن العيش فيها، ويتعين علينا نحن الذين لا نملك القنابل والرصاص الذي يمزق أطراف أطفالنا أن نتحدث ونفعل كل ما في وسعنا لكشف هذا الأمر وإنهائه، وسوف تأتي النهاية، مهما طال الوقت” – ساندرا وطفة
تلقي وطفة بكلماتها وهي جالسة في مسقط رأس الحلم الصهيوني، حيث أعلن اللورد بلفور وعد بريطانيا بإقامة وطن يهودي في فلسطين؛ وهي مفارقة لم تغب عنها وهي التي تغذي تصميمها على العودة إلى الوطن.
وعن ذلك تقول: “أنا في بطن الوحش، أنا في البلد الذي خلق حرماننا من حقوقنا، وهذا هو السبب جزئياً وراء شعوري بهذا القدر من الدافعية”.
وتختم في شرح ذلك قائلةً: “لقد عشت هنا أربعة وأربعين عاماً، ويمكنني أن أبقى هنا مائة عام، ولكن لا يمكنني أن أعود إلى منزلي أبداً”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)